صفحات مميزةعمر قدور

حمص عاصمة الثورة السورية وامتحانها


عمر قدور

بخلاف مدن سورية أخرى كانت مرشّحة للانتفاض على النظام؛ فاجأت مدينة حمص السوريين قبل غيرهم بصمودها لمدة أشهر، دون أن يتراجع زخم المظاهرات التي باتت سهرةً يومية فيما لا يقلّ عن ثلاثة أحياء من المدينة. استحقت بجدارة لقب عاصمة الثورة السورية، حتى أن مظاهرات مدينة درعا أخذت توجّه التحية لحمص بهذا الوصف، وبتواضع من ثوار درعا الذين كانوا هم أول من بدأ التحرك الشعبي على نطاق واسع، وأول من تعرض لحملة أمنية عسكرية واسعة النطاق أودت بحياة الكثيرين فضلاً عن العدد الضخم من المعتقلين حتى الآن.

إلا أن حمص تقدمت بسرعة لتسجل أكبر نسبة من عدد الضحايا في الثورة السورية حتى الآن، يُضاف إليه عدد غير محدد من المفقودين والمعتقلين، ولم يحدث أن عانت أحياء في مدينة أخرى ما عانته بعض أحيائها من القصف المتواصل بمختلف أصناف الأسلحة. لمدة أشهر يبدأ إطلاق النار في المدينة منذ المساء، حيث تأقلم الأهالي مع هذه الأصوات وباتوا يميزون نوعية السلاح من صوت الطلقات أو القذائف. وهناك من يقول إن سماع هذه الأصوات أضحى مطمئناً أكثر من غيابها، لأنها عندما تُطلق فهذا دلالة على الترهيب، أما غيابها فدلالة على دخول القوات الأمنية لاعتقال المزيد من الناشطين. النكتة التي صارت معروفة على نطاق واسع فيما بعد هي أن حمصياً نام ثم استيقظ في الليل، ولم يسمع صوت القذائف، فظن نفسه في الجولان السوري المحتل!.

تدعي السلطة وجود عصابات مسلحة تشن عليها حملتها الأمنية منذ أشهر في حمص، وقد بدأ هذا الادعاء حين لم يكن هناك من يطلق رصاصة واحدة من السكان، ومن الغريب وفق ذلك أن كل هذه الجحافل الأمنية والعسكرية المعززة بالآليات والأسلحة الثقيلة لم تفلح حتى الآن في القضاء على من تسميهم عصابات مسلحة!. لكن لنعدْ إلى البداية؛ فالسلطة السورية أصدرت في مستهل الانتفاضة عفواً عاماً عن الموقوفين الجنائيين، بدلاً من العفو عن المعتقلين السياسيين الذي كان مطلباً عاماً، ولهذا الإجراء أبعاد متعددة منها إفراغ السجون من أجل المعتقلين السياسيين الجدد، ومنها أيضاً ما بات معروفاً من صفقات عُقدت مع بعض السجناء الجنائيين السابقين لاستخدامهم إما كشبيحة، أو في التمثيليات التلفزيونية التي تدعم رواية السلطة عن العصابات المسلحة. وقد كان مضحكاً ومفضوحاً أن من ظهروا على التلفزيون السوري للإدلاء باعترافت مفبركة عن تسليح الثورة كلهم من أصحاب السوابق الجنائية.

ما حدث في حمص، ولا يقتصر عليها، أن القوات الأمنية قامت باعتقال الناشطين السلميين، وبعضهم من النشطاء المعروفين بمناداتهم بحقوق الإنسان وبنبذهم القوي للعنف، وبرفضهم التام لأي احتمال يقود إلى عسكرة الثورة السورية. واحد من الأمثلة البارزة على ذلك اعتقال الناشط الحقوقي الحمصي نجاتي طيارة المعروف بسلميته وبحرصه على السلم الأهلي، واضطرار نشطاء سلميين آخرين إلى الهرب خارج البلاد أو التخفي داخلها. وإذا كان هناك نسبة ضئيلة من الصحة في رواية السلطة عن وجود مسلحين فإنها في الواقع لم تستهدفهم أبداً في البداية، بل استخدمت كل ما في جعبتها في قمع وقتل المتظاهرين السلميين ودفعهم إلى حمل السلاح بغية الدفاع عن النفس. في الواقع لم يتوقف الأمر عند المتظاهرين، فقد قام الشبيحة بغزوات لأحياء عديدة في حمص حين لم يكن هناك تظاهرات، وأطلقوا النار بشكل عشوائي على من تصادف وجودهم في الشارع، ولم يوفروا في ذلك الأطفال أو الشيوخ. وفي حوادث موثقة بثتها الفضائيات قام الشبيحة بغزوات على المحال التجارية لبعض الأحياء، فأحرقوا ونهبوا بشكل استفزازي صارخ يزيد من حدته قدوم هؤلاء عبر حي موالٍ مجاور ذي صبغة طائفية مغايرة، وإن شاعت الروايات عن عدم انتماء الشبيحة لذلك الحي أو للمدينة.

لنسمِّ الأشياء بمسمياتها؛ في حادثة يرويها شهود عيان من أهالي حي الزاهرة دخلت سيارات الحي محملة بمسلحين يطلقون النار في الهواء. كان المسلحون يرتدون الزيّ الأفغاني ويدعون بصوت عالٍ إلى الجهاد ضد العلويين وقتلهم. الكثيرون من أبناء الحي وقعوا في فخ تصديق هذه المسرحية الركيكة، إذ لا يعقل أن يذهب متطرفون سنّة إلى الدعوة للجهاد ضدهم في حيّ يشكلون غالبية سكانه، ومن المنطقي أن يحدث هذا في حيّ للسنة بغية التحريض، وإن نحينا المنطق جانباً فإن شهود العيان أكدوا انطلاق هؤلاء «الأفغان» من مقر أحد الأجهزة الأمنية. هكذا بدأت إدارة اللعبة الطائفية القذرة في حمص؛ اعتقال الناشطين السلميين المعروفين بحرصهم التام على السلم الأهلي، تخويف السكان العلويين من جيرانهم السنّة، واستقدام الشبيحة عبر الحارات العلوية للاعتداء على السنة، ثم القيام بعمليات اختطاف وقتل فردية لبنات وأبناء من الطائفتين، وإلقاء الجثث المشوهة في الشارع.

على الرغم من الوجود الأمني المكثّف حدثت عمليات الاختطاف والقتل المذكورة، وهذا وحده كافٍ لاتهام الأجهزة الأمنية بعدم اكتراثها أصلاً بأمن الناس وحياتهم، إن لم يذهب الاعتقاد إلى تشجيعها لمثل هذه العمليات أو المشاركة فيها، وهو اعتقاد شائع على نطاق واسع. لكن اتهام السلطة وأجهزتها الأمنية لم يعد وحده كافياً أيضاً، وإن كان ضرورياً لفهم التطورات اللاحقة. ففي المحصلة نجح مخطط السلطة في جانبين؛ أولهما وأخطرهما هو تعزيز الاحتقان الطائفي والبلوغ به إلى عتبة غير مسبوقة من العنف، وثانيهما دفع السكان إلى التسلح بقصد توفير الحماية الذاتية بعد أن تجاهلت السلطة واجبها في حمايتهم، أو بالأحرى بعد أن فعلت كل ما بوسعها لدفعهم إلى الاقتتال. وللتذكير فإن مستشارة الرئيس، منذ مستهل الانتفاضة، «حذرت» من أن «فتنة» الثمانينيات في سوريا بدأت باستهداف شيخ علوي وآخر سنّي، وقد تركزت الأنظار إثر التصريح على مدينة اللاذقية. لكن ما حدث هنا أحبط «توقعات» السلطة إذ ذهب شيخ علوي وأمّ الصلاة في مسجد سني مع ذهاب شيخ آخر سني إلى مسجد علويّ للغرض ذاته. لكن ما لم ينجح في اللاذقية أخذ فرصة أفضل في حمص التي استُهدفت على نحو مكثف، ولأن اللاذقية لم تشهد الثورة العارمة التي تشهدها حمص الآن، وهذا بالطبع لا يعني استبعادها نهائياً من المخطط ذاته.

لقد اختبرت السلطة، وما تزال، كل أسلحتها في مدينة حمص، والمقصود أسلحتها العسكرية والدعائية، وكل ما من شأنه إثبات روايتها عن الثورة السورية. عصابات مسلحة سلفية، ثورة طائفية لا ثورة لها مطالب وطنية عامة، هذا ما تريد السلطة إثباته في حمص، وعلى وجه خاص يبدو الموضوع الطائفي هو المحك الذي تراهن عليه السلطة من أجل إخافة الجميع والقول لهم صراحة: إما أنا أو الحرب الأهلية. هنا لا ينبغي لنا التقليل من نجاح السلطة، وذلك لا يعني أن أهالي حمص بدأوا حرباً أهلية، علينا الاعتراف بمظاهر الاحتقان التي ترافق الأزمة، لكن الوعي المأزوم ليس المعيار النهائي لمدينة تكاد تمثّل بتعدد أديانها ومذاهبها الفسيفساء السورية كلها، وعلينا ألا ننسى أن لكل طائفة «زعرانها» الذين يرون فرصتهم في الأزمة، وأن نتساءل عما يفعله أولئك الموقوفون الجنائيون الذين أطلق سراحهم بصفقات مشبوهة مع بداية الانتفاضة. وعلى الأخص علينا أن نتساءل: لماذا تم استهداف دعاة السلم الأهلي؟ ولماذا وجّهت تهديدات قوية للذين حاولوا القيام بوساطات بين الأهالي؟

رغم كل ما تتعرض له حمص إلا أن الرهان على إيقاف الثورة فيها فشل فشلاً ذريعاً، من يسمع غناء متظاهري حمص ويرى دبكاتهم قد لا يخمّن حجم الدمار المادي والنفسي الذي يعانونه يومياً، لكن من يعرف ذلك يدرك عظمة الرغبة في الحياة التي تدفع هؤلاء إلى ساحات التظاهر يومياً. ورغم كل المآسي لم يتوقف الحماصنة عن تأليف النكات التي اشتهروا بها تاريخياً، بل أصبحت نكاتهم ملح الثورة السورية، وجعلوا من الذراع الأمنية والعسكرية مادة يومية للسخرية. إلى جانب ذلك يصدح صوت الفنانة فدوى سليمان، وهي بالمناسبة تنتمي إلى عائلة علوية، مع صوت بلبل الثورة السورية عبد الباسط ساروت، ليقولا معاً ما تحاول السلطة إخماده منذ تسعة أشهر.

من هتافات بعض المسيرات الموالية للنظام «يلي ما بيشارك أمه حمصية»، هكذا يشتم الموالون حمص التي صارت شوكة في حلقهم. في المقابل يكتب أحد المدونين: سُئلت إلى أي مدينة أنتمي؟ فأجبت باعتزاز أن زوجتي حمصية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى