صفحات الثقافة

‘حمّام زنوبيا’ لرياض معسعس: روايـة نـاجٍ من مجزرة سجن تدمر

 

فوزي سعد الله

عندما كانت الملكة زنوبيا تستحم في حمّاماتها الشهيرة في تَدمر قبل أكثر من ألفي عام والخادمات محيطات بها يحملن ثوبها الأرجواني المرصع بالجواهر، عندما كانت تسترخي في الماء الساخن حالمة بمملكة عظيمة شاسعة الأطراف تمتد من مصر إلى أسيا، لم تكن تتخيل أبدا وهي غارقة في لذة عوالم المستقبل الذي كانت تريده لأرضها وشعبها أن هذه الأرض السورية العظيمة العتيقة وما جاورها من بقية أراضي البلاد ستتحول إلى حمّام دم يغرق فيه كلُّ السوريين وتُزهَق فيه أرواحهم وتَضرَب فيه أعناقُهم وتُدكُّ فيه ديارهم ولا يسْلم فيه لا الشجر ولا الحجر.

لا زنوبيا قديما ولا غيرها حديثا تصوَّر إمكانية حدوث هذه المأساة التي نتابع أخبارها اليوم كما نشاهد أفلاما حربية أمريكية على الشاشة…لكن الذين اكتووا بنار النظام السوري خلال العقود الماضية وهَدّمت عظامَهم رطوبةُ زنزاناته التي لا أنيس فيها سوى النمل وأخواته من الحشرات وأُجْبِروا على أكل فئرانها وجرذانها تحت تهديدات الجلادين في غرف التعذيب كانوا يعلمون أن الزلزال قادم طال الزمن أم قصر…

رواية ‘حمّام زنوبيا’ التي صدرت قبل أسابيع عند ‘دار الجنوب’ في تونس جولةٌ حزينة وقاتمة في الثنايا المجهولة والأغوار المظلمة لهذه العقود المشؤومة التي سبقت الانفجار والتي كان ظاهرها بردا وسلاما وأحلاما قومية عذبة، فيما كان جوفها مريضا مهترئا تتآكل خلاياه يوميا بسرطان القهر والاستبداد.

رياض معسعس قضى ثلاثة عقود يكتب وقائعها أولاً في فكره الذي كان ‘..يعصرها، يقلبها ظهرا لبطن، يبحث (لها) عن بداية..عن قالب..دون تهويل ولا تقليل..’ ليُفرج عنها في نهاية المطاف وينفخ فيها الحياة بوضعها مجسَّدة على الورق ساخنة ومفعمة بالحياة والموت في آن واحد، مرتعشة بشهوة العيش ومضرجة بالدماء ‘..هي هي..كما وقعت..من تجربة شخصية بحتة..وتجارب آخرين’ تحكي سيرة ذاتية قبل كل شيء، لكنها في الوقت ذاته سيرة وطن مقهور ‘..تعكس صورة سوريا في فترة من أحلك فترات تاريخها..بدءا بالنكبة في العام 1948 وانتهاء بمجزرة سجن تدمر الرهيبة في العام 1980م’ وسطوة أجهزة الأمن الجاثمة على صدور الناس إلى اليوم.

الرواية كانت جاهزة للنشر قبيل انفجار الثورة التونسية ولم تجد مَن الناشرين العرب من يتجرأ على تبنيها لا في لبنان ولا في تونس زين العابدين بن علي ولا في العراق ولا حتى في مصر حسني مبارك، حتى شاءت الصُّدف أن يُفرِج محمد البوعزيزي عن النفوس من أسْر الخوف بإضرام النار في جسده ويُشعل بوفاته في قلوب الناس رغبةً في الحياة بقوة الإعصار وتطلعًا بشدة الزلزال إلى كسر القيود والأغلال ويمنح بالتالي ‘حمّام زنوبيا’ فرصة الحياة وحق الوجود كعمل أدبي روائي عربي شاهد على مخاض التحوّلات العربية في نهاية القرن 20م وبداية القرن 21م والتي لم تصل بعد إلى شاطئ الأمان.

نحن الآن في ستينيات القرن الماضي… شاب في مقتبل العمر يبحث في أعماق البادية السورية عن وظيفة يقتات منها ليحط به قدره في الفرقلس على متن حافلة مُجهَدَة، مترنحة، تُصُفِّر وتنبح كقطارات القرن 19م، حيث سيُضاف إلى قائمة عمال شركة تمديد خطوط الكهرباء، وسيرتبط مصيره هناك بمصائر أناس عاديين من مختلف شرائح المجتمع السوري. فيهم المتديّن والملحد والسّكير الماجن خرّيج السجون السياسية، والحالم واليائس، دون أن يعلم أن الزمن يخبّيء له مع هؤلاء الرفاق مصائب لم تدُر أبدا في خلده.

الفرقلس التاريخية، تلك التي شهدت قبل أكثر من ألفي عام معركة حاسمة دارت بين الملكة زنوبيا ملكة تدمر والإمبراطور الروماني أورليان، وَجَدَها مالك حصيرة بطل ‘حمّام زنوبيا’ الشاب لا تزيد عن ‘بضعة دور وتنّور وعزرائيل يتربص بالجميع بعد أن وجد فيها مرامه لشدة الفقر والجهل والمرض’، كما وصفها له سائق الحافلة الشاعر الساخر من كل شيء حتى من نفسه، لكن لم يكن أمام مالك حصيرة سوى الاختيار بين الجحيم وجهنم، كما قال، فاختار هذه الأخيرة في غياب البدائل في بلد لا تُفتح فيه آفاق العيش الكريم إلا لرجال النظام وحواشيه.

في هذه البقعة المنسية من أرض الله، شاءت الصدف أن يلتقي مالك حصيرة جاك السائح الفرنسي وشقيقته ماري اللذين جاءا لزيارة آثار تدمر وقصر الملكة زنوبيا. مساعدتُهما على الوصول إلى هذه المعالم التاريخية العتيقة قادته إلى مغامرة عاطفية مع الفتاة التي فضت بكارته و’أكملت رجولته’، على حدّ قوله، وهما يسبحان معا، كما خلقهما الله، في المياه الحارة الكبريتية ذاتها التي كانت تستحم فيها ملكة تدمر مع زوجها آنيبا ومن حولها وصيفاتها الجميلات بملابسهن الشفافة ‘يحملن قوارير العطر والعنبر’..قبل أن تقع في قبضة ملك الرومان أورليان ويقودها أسيرة إلى روما.

كان مالِك ينظر مفتونا إلى حركات ماري ‘وهي تسبح..بشعرها المبلل الملتصق على كتفيها..وعينيها الزرقاوين الزمرديتين..ونهديها الطليقين..على سطح الماء..’. كان المشهد رومانسيا شاعريا وحالما في منتهى الجمال لم يصمد مالك حصيرة أمامه طويلا…

لكن الحُلم الذي وهبته إياه السائحة الفرنسية كان مسموما، وكاد أن يكلفه ما تبقَّى من عمره…فهي جاءت قبل كل شيء لتبحث عن كنز عتيق، تقول كتب التاريخ إنه مدفون في إحدى زوايا القصر المحاذي لحمام زنوبيا، لحساب أحد جنرالات النظام السوري كان ينهب ويسرق تراث البلد التاريخي ليبيعه خارج البلاد بواسطة ‘وكلاء’ أجانب على غرار ماري وشقيقها. إلا أن الرياح لم تجرِ في هذه المرة بما تشتهي سفن السائحيْن والجنرال، وتورط في جريمتهم دليلُهما المتطوّع البريء مالك حصيرة لينتهي ثلاثتهما في قبضة الأمن ويُزجَ بمالك حصيرة، الذي جاء إلى الفرقلس بحثا عن لقمة العيش، في غياهب سجن تدمر الرهيب في انتظار الحسم في قضيته والذي يكون عادة الإعدام بعد السياحة في حُجرات التعذيب بكل أنواعه وألوانه.

وجد مالك حصيرة نفسه يتحوّل ببساطة وفي رمشة عين إلى سجين متهم من طرف البوليس السياسي بسرقة كنز اختفى من قصر زنوبيا، ووضعته هذه التهمة في أجواء قاسية ومُحْبطة لم يعهدها من قبل. الأجواء التي فتحت عينيه على الوجه الآخر البشع لسوريا الذي كان ما زال خفيا ولا يعرفه إلا من اكتووا بِشرِّه مثله. ولم يجد هذا الفتى من عزاء يرتاح به من عذاباته وآلامه اليومية في سجن تدمر سوى ذكريات الماضي الجميلة وخيال شامة الفتاة البدوية ‘مغصوبة الجسم’ كوطنها التي أحبها حبا قويا عذريا واستولت على كل جوارحه من أول نظرة في أعقاب وصوله إلى الفرقلس حينما رآها، وهو يتأمل الأفق البعيد، تتقدم قطيع غنمها بشعرها الأسود المتدلي كشعر الغجريات وصدرها العريض وجسدها الممشوق المتماوج مع نسائم الصحراء…لكن دون أن ينسى أصداء صوت والدته عندما كان طفلا وهي تبكي أمامه متأملة بندقية والده الذي مات في ميدان الشرف وتقول له: ‘خرج العرب من التاريخ…الكل خانعون، خائنون، كاذبون، لا يقوون إلا على بعضهم البعض’…وماتت ذات يوم كمدا حزنا على زوجها وابنها البكر الذي التهمته الحرب كوالده.

هكذا كان يمضي استراحاته داخل الزنزانة متجولا في ثنايا الماضي بين حصة تعذيب وأخرى كما هو قدر كل سجين سياسي في بلدان الأنظمة الاستبدادية…

من خلال هذه التجربة المرِّيرة التي فرضها القدر على مالك حصيرة، ينقل رياض معسعس قُرَّاءَه عبْر أروقة سجن تدمر المظلمة وزنزاناته النتنة الباردة والرطبة ويكشف لهم عن خباياه المفجعة، ويتسلل بهم إلى جوف الزنزانات وقلب معاناة مساجينها ويُسمعهم صراخ المعذَّبين وبكاء المقهورين وأنين الجرحى وزفرات المشنوقين وشتائم وتهديدات الجلادين الذين كانوا يمزقون أجساد ضحاياهم أشلاء وينهشونها كما يأكلون اللحوم عند الغذاء والعشاء ويخنقون أنفاسهم ببرودة باسم القومية والمصالح العليا للوطن تارة وحفاظا على الأمن العام والنظام تارة أخرى. ولا يكتفون بذلك بل ‘يبتزون آهاليهم حتى العظم’ مقابل طمأنتهم على أنهم ما زالوا أحياء يُرزقون…

‘ذات ليلة، كان السجناء نياما…تحرك أحدهم، ويقع مكانه تحت فتحة التهوية، نهره الحارس وأمره بألا يتحرك، ثم بال على رأسه. ولم يجرؤ السجين على التحرك والبول يتساقط عليه من الشراقة’. لماذا؟ عقابا له لأنه تحرك خلال نومه يقول مالك حصيرة الذي سيكتشف أن مشاهد كهذه كانت من أخف ألوان التعذيب وأكثرها رفقا بالمساجين في سجن تدمر..السجن الذي كان ذات يوم قبل أكثر من ألفي عام قصر الملكة زنوبيا والذي تُكرَّم أمثاله من القصور في البلدان التي تحترم نفسها وتوضع في مصاف المتاحف المبجَّلة التي يطل منها الناس على أعماق التاريخ والملاحم الإنسانية.

رياض معسعس لم يرو في ‘حمّام زنوبيا’ من معاناة السوريين من نظامهم سوى صفحات مما جرى خلال العقود السابقة للانتفاضة التي انطلقت قبل نحو عامين، وترك لبطله مالك حصيرة فرصةً لينجو فيها من سجن تدمر في لحظة هجوم قوات حافظ الأسد عليه عام 1980م للإجهاز على كل المساجين على مرأى ومسمع كل العالم وارتكاب مجزرة بشعة ما زالت تفاصيلها وملابساتها غامضة إلى اليوم.

ويعدنا معسعس برواية ثانية خلال الأشهر المقبلة مكمِّلة لـ: ‘حمّام زنوبيا’ يقودنا عبْر شخصية الشاب مالك حصيرة المُتعب من سنوات القهر في سجن تدمر إلى الغوص في بقع أخرى سوداء حالكة من ممارسات النظام السوري خلال الأعوام الأخيرة، وينقل لنا أجواءها بكل زخمها وآلامها ودموعها التي يقول إن وقائعها شهادات حية في غالبيتها الساحقة أكثر منها خيال روائي، وذلك ‘بنسبة لا تقل عن ثمانين بالمائة’.

رياض معسعس كاتب وصحفي سوري من مواليد مدينة دمشق عام 1948م وهو يقيم في باريس التي اختارها منفى له منذ أكثر من 40 عاما عندما استحال البقاء في مسقط رأسه، ولم يتمكن من العودة إليها منذ أن كان على عتبة عشرينياته.

رياض معسعس حاصل على شهادة دكتوراه دولة في العلوم السمعية البصرية من جامعة السوربون. مشواره المهني غني بالإنجازات حيث أسس وأدار العديد من القنوات التلفزيونية والإذاعية العربية في أوروبا والعالم العربي، من بينها إذاعة الشرق وإذاعة مونتِ كارلو الدولية في العاصمة الفرنسية باريس، وإذاعة الأمم المتحدة ‘مرايا’ في العاصمة السودانية الخرطوم، وإذاعة سبيكتروم وقناة إم بي سي في العاصمة البريطانية لندن، بالإضافة إلى القناة التلفزيونية الفضائية العالم في العاصمة الإيرانية طهران وقناة الجزيرة في قطر، وميدي 1 سات في المغرب ثم قناة يورونيوز في مدينة لِيُون في فرنسا. وهذا فضلا عن إسهاماته بالتدخلات الإعلامية في مختلف القنوات العربية والأجنبية وبالكتابة في العديد من الصحف العربية وحتى التركية…

في العام 2009م، صدر لرياض معسعس كتاب ‘تقنيات الصحافة المسموعة والمرئية’ عند دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع قبل أن يقرِّر شقَّ طريقه في مجال الرواية عبْر ‘حمّام زنوبيا’ الذي شاء له أن يكون واقعيا ووجدانيا في الوقت ذاته. ما حذا بالناقد التونسي الكبير، بل أكبر النقاد العرب المعاصرين، وعميد كلية الآداب في جامعة تونس توفيق بكّار إلى اعتبار هذا العمل الأدبي العربي الجديد ‘تغريد طير في الفضاء طليق يشدو للبعث بعد ‘الموت’ وبعد عناء الأسْر بالحرية البِكر’ على حدِّ قوله في المقدمة التي وضعها لهذه الرواية..رواية ‘حمّام زنوبيا’.

*كاتب وصحافي جزائري يقيم في فرنسا

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى