صفحات المستقبل

حوار الأموات افتراضياً/ حنين عتيق

 

 

ربما لم يتخيل ذاك الطالب الذي كان يعاني من الوحدة، والذي قام باكتشاف فكرة فيسبوك بغية الحصول على إمكانية كبيرة وحرة للتواصل مع الآخرين بشكل حيوي كان يفتقده في حياته الحقيقية، ربما لم يتخيل أن يلقى اكتشافه كل هذا الإقبال على مستوى العالم. وأن يتحول إلى وجه آخر لكل وجه فينا، وأن يصنع هناك، في ذلك العالم الافتراضي، عالماً كاملاً موازيا للعالم الحقيقي على هذه الأرض، وأن يكون هذا العالم مليئا بكل ما في العالم الحقيقي من تناقضات، ومن صداقات، وعلاقات معقدة أو بسيطة، ومن صدق وكذب كبيرين. وأن يعكس هذا العالم الافتراضي شخصيات بسيطة، أو عميقة، متقاربة أو متباعدة، وأن يعكس أيضاً ملامح جديدة لكل مستخدم، وربما قد تكون هذه الملامح أصدق من تلك التي ورثناها ولم نكن نملك أي خيار فيها، مثل لون بشرتنا، أو شكل عيوننا، إذ أننا على صفحة فيسبوك، بالرغم من أننا نضع صورنا الشخصية، فإننا نعيد صياغة ملامح شخصياتنا كما نريد نحن، أو كما نتمنى أن تكون.

ولكن الذي لم ولن يتخيله أحد هو أن يصبح هذا العالم الافتراضي، أو فيسبوك تحديداً، عبارة عن حياة مخترعة جديدة لوجوه رحل أصحابها، نعم لوجوه ميتة. فقد حكم هذا العالم علينا، نحن السوريين، بالموت العلني اللا منتهي وبما أن فيسبوك يمثل وجها آخر لنا وبما أننا، نحن السوريين، قد أصبحنا الآن إما أمواتا بشكل حقيقي نسكن القبور الممتدة على طول الخريطة السورية، أو مفقودين بحكم الأموات، أو معتقلين يصلون إلى الموت أكثر من مرة، أو أننا قد أصبحنا نصف أحياء. إذ لم يعد يوجد أي سوري لم تأكل هذه الحرب أحداً من أقرب الناس إليه، وبالتالي لم تأكل جزءاً حقيقياً منه ومن حياته، ولم نعد نمتلك، نحن أنصاف الأحياء، سوى أن نقاتل حقيقة الموت، وأن نتحايل على هذه الحقيقة القاتلة بوضع صورة الفقيد الغالي الذي رحل على صفحاتنا بدلاً من صورنا. وذلك ربما في محاولات بائسة لأن نهبه حياة لم يعشها، أو لأن نقنع أنفسنا بأننا بهذا نكون أكثر وفاء لغيابه وحضوره.

وربما أيضاً، لكي نقول له ما لم يترك العالم لنا وقتا كي نقول، كم نحبه، وكم نفتقده وننقصه، وكيف أصبح هذا الفقيد الغالي لصيقا لنا مثل وجوهنا، وبعدما نكتشف فشل كل محاولاتنا نبقي على صورته بدلاً من صورتنا، لكي نخبر كل من يقرأ صفحاتنا عن عمق فقدنا وحزننا، فيرى كل من يتصفح فيسبوك وجه هذا الفقيد، الذي أصبح تحت التراب، بدلا من وجوهنا.

ولكن الأغرب هو حين يدقق أي بعيد عن هذه الدوامة السورية القاتلة، فإنه سيلاحظ أن الحوارات التي تأتي بعد بوست ما، يكون معظمها بين أشخاص وضعوا على صفحاتهم صور فقيدهم الذي رحل. وعندها، سيرى هذا المراقب عن بعد، أن صور من رحلوا هي التي تتحاور الآن، نعم الأموات السوريون هم الآن من يتحاور على صفحات فيسبوك إذ لم يكن أبداً يتخيل ذاك الطالب الذي اكتشف فيسبوك، أن يستطيع اكتشافه هذا الوصول إلى الساكنين تحت التراب، وأن يخلق هذا الاكتشاف حياة كاملة، قاتلة، للشهداء.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى