صفحات الناس

حوار المتاريس في الزبداني: من وقع في الفخ؟/ منير الربيع

 

 

تقرأ الحرب من رموزها، رموز غالباً ما تنقلب موازينها بين منزلتين، الحرب والسلم. في الحرب مكبوتات تتفجر من منطلق غرائزي تواق للقوة بشراهة، وفي السلم والتحاور تغلب الطبائع الإنسانية على ما عداها. حتى في التعبير والخطاب تبرز مصطلحات تلامس التودد إن لم تنطلق من عمقه، يستخدم ذلك في محاولة التأثير على الخصم، إقناعه، أو انتزاع منه اعتراف ما لا يستطيع انتزاعه خلال معركة.

كبّر حزب الله في حربه السورية من أحجار زاوية دوافع الحرب. وسّع دائرة الرموز إلى حدّ المقدسات. القتل مدعوم بحملات إعلامية ودروس دعوية وتكليفات شرعية، كلها تشيطن الخصم. وضعته في مرتبة عداوة تتخطى كل العداوات، العرقية، الدينية، المذهبية، والسياسية، وحتى الوطنية. تمادت الشيطنة في السحق المعنوي والإنساني للخصم، وبلغت الأمور مرحلة يستحيل للمرء معها أن يتخيّل مجرد لقاء بين أحد المنتمين إلى حزب الله أو المؤيدين له مع مؤيد للمعارضة السورية. لكن للحرب ظروفها وفروضها. الخطط غالباً ما تتعثر، ومسار الأمور في كثير من الأحيان يتغيّر.

مدينة الزبداني، المثال الأوضح. على مدى شهرين، يشن الحزب أعتى الهجمات على مدينة أجهضت كل مخططاته، فكانت لها فروضها. هدنتان متتاليتان من دون إحداث أي خرق. لكن للهدنتين، رموز جديدة تخطّت سابقاتها، إن على صعيد القوة، منطلق المعركة، الغاية والأهداف.

إثر هدنة الزبداني الأولى سرّبت فيديوهات تظهر حوارات بين مقاتلين من حزب الله ومقاتلين معارضين من المدينة. لم يكن الامر متوقعاً بالنسبة إلى جمهور الطرفين. فالشيطنة المتبادلة كانت اكبر من أي لقاء. لكن للإنسان طبائع تتغير. ففي الحرب يتحول إلى آلة قاتلة، مجردة من أي مشاعر إنسانية. وفي السلم يعود إليه جزء من إنسانيته تتيح له الحوار مع الخصم، ربما من منطلق فضولي، لمعرفة مكنونات هذا الخصم وكيفية تفكيره. وربما حالة الزبداني أثارت فضول المهاجمين لمعرفة كيف تمكن المدافعون من الصمود بوجه كل ما تعرضوا له.

يظهر شريطان مسرّبان من الهدنة، حوارات الطرفين. في الأول يسأل عنصر حزب الله خصومه عن مدى قدرتهم على الصمود. يأتيه الجواب من بيت ثقافته، يجيب المقاتل بأنه يدافع عن أرضه، ويضرب مثالاً على قتال حزب الله سابقاً دفاعاً عن أرضه في الجنوب. يتخطى الشريط الثاني هذه الزاوية الضيقة من التحاور، يلامس حد الحوار السياسي، فيما حاول قائد مجموعة من الحزب تحويله إلى محاضرة سياسية ودعوية يلقيها على مستمعيه الخصوم.

الواضح من سياق الفيديو، وتغليب أصوات عناصر الحزب في مقابل إخفاء أصوات مقاتلي المدينة، أن حزب الله هو من عمل على تسريب الشريط، وهو مصوّر من ناحية تمركز عناصره. في الشكل لا يختلف ما سرّب عن الجهد الحزبي لتحقيق انتصار معنوي. لا ينفصل الفيديو عن امتطاء أحد عناصر الحزب قبة أحد المساجد في المدينة مستغلاً الهدنة لرفع علم حزب الله، ليُقتل هذا العنصر في ما بعد. في هذا الفيديو أراد الحزب تحقيق انتصار معنوي أيضاً، والرسالة موجهة إلى جمهوره على الرغم من طلبه الهدنة، إلا أن الأمور انقلبت عليه في سياق الحوار.

بدأ قائد مجموعة الحزب حديثه بمقارنة بين وضع الزبداني قبل هجوم الحزب وبعده. أجرى مقارنة غير معلنة بين قوة الحزب وهشاشة الجيش السوري. تحدث من منطق القوة الإستعلائية. أعطى توجيهاته وإرشاداته. في التفاصيل وجه القائد الحزبي كلامه لمواجهيه داعياً إياهم إلى عدم الإرتباك، فيما المقاتلون يجلسون باسترخاء، يضع أحدهم ساقاً فوق أخرى. بينما توضح نبرة الحزبي المتوترة مدى ارتباكه هو، حتى تجمهر بعض مقاتليه حوله، فطلب منهم تركه وحيداً.

حاول حزب الله انتزاع انتصار معنوي في فحوى الكلام والخطاب، لكنه لم ينجح. قدم محاضرة في أهمية الصراع، وأن العدو الاساسي هو إسرائيل والولايات المتحدة. وافقه المقاتلون، لكنه استمرّ محاولاً تجيير الفكرة لصالحه، متوجهاً إلى السوريين بالقول إنهم بقتالهم يخدمون الأعداء. وظف في سبيل فكرته كل شيء. لم يوفر القرآن. لكن جواباً واحداً من المعارضين كان كافياً لتحويل مسار الأمور، إذ أجاب أحدهم بصوته “المخفي والبعيد” أنهم يقاتلون نظاماً فاسداً ظلمهم. وهنا نقطة التحول في الشريط. إعترف المقاتل في حزب الله بفساد النظام، وسلّم للمعارضين بمطالبهم، مع استثناء شخص بشار الأسد، فقال لهم: “أنت تتكلم من زاوية معك حق فيها، مطالبكم محقة، والنظام فاسد، لكن لا علاقة لبشار بالأمر”.

وكرّت سبحة التنازلات، بالتزامن مع الجهد الحزبي لإقناع المقاتلين بإلقاء السلاح، لأن قياداتهم خونة. قدّم قائد المجموعة الحزبية تقديره لقتالهم، لكنه قال لهم: “قياداتكم ستخونكم وتبيعكم”. هو جزء من الحرب النفسية التي شنها الحزب أيام الهدنة، تركيز الحزب على تخوين قادة المسلحين هو نوع من الرهان على إستسلام المقاتلين بعد الفشل في السيطرة على الزبداني عسكرياً. وطالب القيادي، المسلحين السوريين، علناً، بإلقاء السلاح، إذا كان العدو إسرائيل فعلاً، وهذا لا يُرى إلا استجداءً للنصر بأي شكل أو ثمن.

ينتهي الفيديو باقتراب المتقاتلين من بعضهم البعض. يتصافحون. انتهت الهدنة الأولى. فشلت المفاوضات. تحول المقاتل مجدداً إلى آلة تقتل. بمجرد صدور الأوامر بالقتال، ذهب كل الكلام سدى. إنتزع السوري اعترافاً بأحقية مطالبه من مقاتلي الحزب. شيء من الرموز تكسّر، كما الهالة القدسية للمقاومة التي تكسرت في الأوحال السورية. فشل الحزبيون في تحقيق نصر معنوي، أو استدراج المقاتلين إلى فخّ ديماغوجي.

عاد القتال على أشده. صمد مقاتلو الزبداني. أجبروا الحزب وإيران على طلب الهدنة مجدداً فتمت وسقطت، كما سقطت رموز كثيرة. وأراد حزب الله تعميتها بتسريبات تفيد بأنه أحال على المجالس التأديبية مقاتليه الذين تحاوروا مع الأعداء.

https://www.facebook.com/video.php?v=1662468087307761&__mref=message_bubble

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى