صفحات العالم

حوار المستقبل في سوريا

 


جيفري كمب

مع بدء الحوار السياسي في سوريا تتشكل ملامح رؤية للمستقبل، وقد بدأ الصدر يتسع ويرحب بما كان يضيق به، ولم يعد للنقد السياسي سقف غير الثوابت التي يجمع عليها السوريون، ويلتقي عندها المتحاورون، وهي التي ترسخ الطمـأنينة في النفوس، وأهمها ما يعلنه المتظاهرون شعاراً يتردد في كل أنحاء البلاد “الشعب السوري واحد”، فلا خطر من أي فتنة طائفية، أو من مشاريع معادية تتطلع إلى تفتيت الوحدة الوطنية كالتي تنشرها صحف غربية اليوم تحاول أن تستعيد مشاريع التقسيم التي حاول الانتداب الفرنسي فرضها قبل نحو قرن فرفضها الأجداد على رغم قوة الاستعمار، وعبّر رموز النضال الوطني يومذاك عن تلاحم وطني يزهو به الأحفاد إلى اليوم. فقد تلاقت ثورة هنانو مع ثورة صالح العلي، وتوافقت قيادات الثورة السورية كلها على تنصيب سلطان باشا الأطرش قائداً للثورة. وهلل السوريون جميعاً لفارس الخوري وانتخبوه رئيساً للبرلمان، ثم عين مرات رئيساً للوزراء. وهذه الأسماء الوطنية المهمة تشكل مختلف أطياف ومذاهب الشعب السوري.

وإن لم تكن أجيال الشباب من المتظاهرين يعرفون تفاصيل تاريخ نضال أجدادهم، فإنهم توارثوه في “الجينات”، وهذا ما جعل سوريا في مأمن من خطر تهديد وحدتها الوطنية، وما سيحمي مستقبلها من أي فتن أو نزاعات تريد أن تبث الضعف، أو الفرقة بين المواطنين مستغلة حراك الشارع الذي انطلق مع اندلاع الثورات العربية.

وأما الحقيقة الثابتة الثانية التي يتوافق عليها المتحاورون، وإن لم يكن عنوانها يتصدر المشهد المشغول بالشأن الداخلي قبل سواه، فهي أن سوريا ستبقى حاضنة المشروع العربي القومي، وهذا لا يعني رفضاً لأي أعراق أو أجناس أو قوميات تعيش في سوريا، فالعروبة ليست عرقاً ولا جنساً متميزاً، ولكنها قومية جامعة عبر اللغة بوصفها فكراً وثقافة لكل السوريين مع الاحترام الكامل لحق غير العرب أصولاً وأعراقاً بأن يحافظوا على لغاتهم وإرثهم الثقافي. فالتعددية والتنوع الثقافي ثراء لسوريا التي لم تعرف في ماضيها تعصباً أو نزعة عصبية متزمتة، وهذا سر قوة حضورها، وكونها مصدرة الحضارات عبر التاريخ.

وأما الحقيقة الثالثة فهي حرص سوريا على كونها حاضنة مشروع المقاومة، وهذا ليس موقف القيادة وحدها، فالشعب هو مصدر المواقف النبيلة جميعاً، وقد عاشت سوريا تماهيّاً خالصاً بين موقف الشعب وموقف السلطة على صعيد المواقف القومية والسياسية. ولا يوجد في شعارات الشارع ما يناقض دعم المقاومة واحتضانها، وإن انفعل بعضهم بميزان موقف “حزب الله” من شعارات المظاهرات مثلاً، فإن ذلك لا يعبر عن موقف شعبي عام من المقاومة، فالسوريون جميعاً هم روافد فكر المقاومة وينبوع ثقافتها. ومن يراهن على أن السوريين سيجدون تغيراً في موقفهم من المقاومة فرهانه خاسر، فالحراك الضخم الحادث في سوريا اليوم يبحث عن ديمقراطية عملية، تفتح الآفاق لتداول السلطة، ولمشاركة شعبية واسعة في الحياة السياسية، وهذا الهدف الذي تؤججه التظاهرات اليوم، ليس مفاجئاً للسلطة أو للحزب الحاكم، فقد كان حديث منتديات ربيع دمشق منذ مطلع القرن الحالي، ولكن زخمه الآن أكبر.

ولقد أوضحت في مقالي السابق “مواجهة المحنة في سوريا” عبر هذه الصفحة أنني أجد التغيير في النظام بشكل بنيوي دون حدوث صدمة مدوية أضمن لمستقبل سوريا، ولعل اللقاءات التشاورية بين المعارضين تقدم مزيداً من الرؤى، بعد أن تدخل مرحلة الحوار مع السلطة، وهذا ما أتوقع أن يحدث، ولاسيما بعد أن تفتح الموقف الرسمي عن قبول لوضع كل الآراء على مائدة الحوار. وآمل أن تعود قوى الأمن والجيش سريعاً إلى مواقعها، وأن تنتهي مسيرة الحلول الأمنية التي أشرت مرات عديدة في مقالاتي السابقة إلى كونها قد تزيد النار اشتعالاً. وكنت أجد في الحلول السياسية وحدها قدرة على المعالجة، قبل أن يتسع الخرق على الراقع، ولكن تسارع الأحداث إلى حوار الدم جعل الحلول الأمنية تطغى على أي حل سياسي، حتى بتنا نعيش دوامة جدل بيزنطي، حول أولوية الحلين. وكانت ساحة الدم قد جعلت الحل الأمني يتسع، وكانت المواقف الخارجية توحي بخطر أكبر مما يحدث في الداخل، ولاسيما بعد التهويلات الإعلامية التي كادت تدخل سوريا بشكل غير مباشر في صدام سياسي مع أقرب أصدقائها إليها، ولاسيما في المرحلة التي انطلق فيها بعض المعلقين السياسيين باسمها بتصريحات انفعالية لا تعبر بالضرورة عن موقف دبلوماسي اعتادت عليه الدبلوماسية السورية العريقة. وأخص الشأن التركي الذي كان لابد من تصحيح المسار فيه، ولاسيما بعد التصريحات الرسمية التركية التي شكلت تفهماً أفضل لما ينبغي أن يكون عليه شكل الخطاب وليس مضمونه فقط.

وعلى رغم ما رافق اللقاء التشاوري الذي انعقد في دمشق بين بعض أطراف المعارضة السورية من جدل ولغط واتهامات إلا أنني أجد فيه إيجابيات واسعة، أهمها قبول السلطة بانعقاده في دمشق دون تدخل منها، وهذه الفسحة تؤسس لفاعلية الدعوة إلى الحوار الوطني الشامل، وقد فتحت القيادة نوافذه لكل ما كان إشكالية مثل تعديل الدستور، وهو أمر أجده مفتاح الحل، ولاسيما في المادة الثامنة التي كانت موضع جدل كبير منذ أن بدأ الحديث عن الإصلاح. ولابد أن تأخر إطلاق قانون الأحزاب كان متصلاً بوجودها، لأن مجرد ظهوره سيعني إلغاءها، وسيعيد حزب البعث إلى ساحات العمل السياسي ضمن تنافسية فقدها في سنوات الحكم.

كما أن التحضير لانتخابات شفافة للبرلمان القادم وسط تنافس سياسي صحي، سيتيح لسوريا تحقيق تغيير بنيوي دون حدوث صدمات تهدد أمن المجتمع واستقراره وطمأنينته، وربما أودت به إلى صدامات داخلية لا تحمد عقباها، ولا ضمانة عند أحد ألا يحدث تدخل خارجي يسيء إلى كل التطلعات النبيلة، فثمة من يتربصون بسوريا ويتمنون إضعافها، وتحقيق حلمهم الذي خاب بنشر ما سموه الفوضى الخلاقة، وكثير من قادة الغرب يدعم حدوث الفوضى، ولاسيما حين يرى الدولة في حالة انهيار أو استعداد للانهيار، فإن قيل وماذا عن الدم الذي أهرق في سوريا، فلن يكون الجواب عند أحد تشجيعاً على ثأر أو انتقام، وإنما الجواب عند القضاء ولاسيما بعد أن يتحقق الجانب المهم بين مطالب الإصلاح، وهو فصل السلطات، وإعادة السلطة القضائية إلى حصانتها القانونية. وإبعاد الأجهزة الأمنية عن الوصاية على السلطات لا يعني تقليلاً من شأنها، فوجودها حاجة وطنية مهمة، ولا يمكن لدولة في العالم أن تحافظ على أمنها الداخلي أو الخارجي دون وجود أجهزة أمن، على ألا يكون لها اتصال مباشر بحياة الناس إلا بما يتيحه لها القانون وضمن رقابته ومساءلته.

إن كل ما تخشاه الأغلبية هو انفلات الوضع وتدهور الحلول إلى هاوية المجهول، الذي يهدد الجميع بل يهدد المنطقة كلها، ولا تزال الفرصة سانحة لتحقيق كل الأهداف الشعبية عبر الحوار الصريح الجريء الذي يحقق التغيير المنشود تحت سقف الوطن وثوابت معتقداته وقيمه الكبرى.

الاتحاد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى