صفحات الحوار

حوار “المصري اليوم” مع ياسين الحاج صالح

 

 

– مرّت 4 سنوات على الثورة السورية سقط خلالها آلاف الضحايا.. أين الثورة الآن؟

الثورة دمرت مع تدمير المجتمع والبلد، وما كان بقي من الدولة أيضا. بقدر ما كانت الثورة ثورة منتشرة اجتماعيا وجغرافيا، ودون قيادة سياسية أو عسكرية، فقد جرى تحطيم جسدالمجتمع وبتر أطرافه للقضاء على الثورة. جرى تحطيم البلد أيضا، وتسليمه لقوى أجنبية معادية. نحن اليوم ما بعد الثورة، وما بعد المجتمع، وربما ما بعد سورية ذاتها. لدينا بلد محطم،واحتلال إيراني، وصراع سني شيعي مفتوح تغذيه قوى إقليمية، ولدينا مخاطر انقسام وتوليد كيانات منحطة متقاتلة تضع نفسها تحت حماية قوى إقليمية أو دولية. في أصل هذا الوضع أن لدينا مضخة عنف وطائفية وركيزة للتدخلات الخارجية هي الدولة الأسدية. فرص سورية في استعادة قدر من التماسك مرهون بتعطيل هذه المضخة، وبما يمكن أن يطلقه ذلك من ديناميات اعتدال واستيعاب تنافس ديناميات التطرف والتطييف والعنف، وقد تتغلب عليها.

– سيطرة الأصولية الإسلامية على الثورة بعد أشهر من اندلاعها، ثم ظهور تنظيم «داعش»، دفع عدد كبيرمن مثقفي الوطن العربي إلى التراجع عن تأييدها… برأيك من سمح للإسلاميين بالسيطرة؟

بعد استئذانك بعدم التعليق على “مثقفي الوطن العربي” و”تراجعهم عن تأييد” الثورة السورية، أرى أن “الأصوليين” نتاج تحطيم الثورة والمجتمع السوري، وليسوا نتاج الثورة والمجتمع السوري. وبدلا من أصولية، أفضل الكلام على منظمات عدمية إسلامية، وهي تسلطية سياسيا أو فاشية. وهذه المنظمات تولدت بالضبط عن دينامية التطرف والعنف والتطييف التي انطلقت بفعل كون النظام مضخة طائفية وعنف، لا تكف عن العمل منذ عقود، واشتغلت بطاقات قصوى بعد الثورة.

احتج السوريون مثل المصريين سلميا في مواجهة نظام أشد توحشا من نظام مبارك بما لا يقاس، واستمروا في الاحتجاج السلمي شهورا، ثم جمعوا بين المقاومة المسلحة والاحتجاج السلمي حتى تموز 2012، أي بعد عام وأربعة شهور من الثورة، ثم بدأ النظام باستخدام الطيران في قصف المدن والسلاح الكيماوي وصواريخ سكود، فتوقف التظاهر، ولم يبق ناطقا غيرالسلاح. ماذا يتوقع من مجتمع مُعنّف أن يفعل؟ يفقد عقله. يجن. المنظمات العدمية الإسلامية هي مظهر لجنون مجتمعاتنا المعنفة المهانة.

فإذا عدت لصيغة سؤالك فإن من “سمح” بسيطرة الإسلاميين هو الدولة الأسدية.

– هل كان المجتمع السوري جاهز لاحتضان الجماعات المتطرفة؟

لم يكن. “الجماعات المتطرفة” نتاج تحطيم المجتمع السوري، وليست نتاج تلقائية المجتمع السوري. السوريون، مثل المصريين ومثل غيرهم، أميل إلى الاعتدال والتسامح في شروط حياة أقرب إلى الطبيعية. لكن اعطني شروط حياة أقرب إلى الطبيعية لأعطك معتدلين. السوريون عاشوا في ظل أقدم حالة استثناء في العالم، وقتل منهم عشرات الألوف قبل جيل، وجمهوريتهم وحدها من البلدان العربية وقعت تحت الحكم الوراثي لسلالة طائفية ضارية، دستورها العميق هو “الأسد أو نحرق البلد”، أي اعتبار البلد ملكا عائليا، والسكان مماليك وأتباع. لديك مضخة تطرف وكراهية وعنف تعمل بلا توقف منذ 45 عاما، من أين يأتي الاعتدال؟

– في كتاباتك كنت تنتقد الإسلاميين بعقلانية، وتراجعت قليلًا عن انتقادهم مع اندلاع الثورة، ثم انتقدتهم بشكل قاسي.. لماذا غيُرت وجهة نظرك في دور الإسلاميين بالثورة؟

أنا علماني تحرري، الإسلاميون يعرفون ذلك جيدا، ويعرفه صنف من العلمانيين التسلطيين الذين وجدوا نفسهم في كل وقت أقرب إلى نظم الطغيان التحديثية التي تحتفظ بعلاقة كولونيالية مع عموم لسكان. انتقادي للإسلاميين سابق للثورة، وله أسس ثقافية وقيمية، منحازة إلى المساواة والحرية والكرامة الإنسانية، لكني لم أكن مستعدا للتطوع في حرب عقائد، عقيدة ضد عقيدة، هذا بينما من كان يقتل كثيرا ويسرق كثيرا ويكذب كثيرا في سورية طوال سنوات عمري هم غير الإسلاميين.

بعد الثورة، وفي عام 2013 وما بعد بخاصة، يبدو لي أنه جرى تحولان كبيران. الأول صعود تيار السلفيين والإسلام الريفي على حساب التيار الإخواني، المديني أكثر، والثاني هو تحول الإسلاميين ككل من قوة تغيير إلى قوة استئثار وتسلط، تراقب المجتمع وتعاديه بقدر لا يقل عن معاداتها للنظام، إن لم يكن أكثر. مع تغير الموقع يتغير الموقف طبعا. وأظن أن هذا التحول جيلي وعابر للبلدان، يعيد النظر في إشكالية جيل كامل: شراكة علمانية إسلامية في معارضة الطغيان تحت راية الديمقراطية. وقد رأينا نظائر هذه الإشكالية التي هيمنت ثلاثة عقود بين ثمانيان القرن السابق وزمن الثورات مطلع القرن الحالي، ونرى اليوم نظائر التحول عنها، بصور مختلفة في مصر وفي تونس وغيرها.

أنا شريك في هذا التحول الجيلي وأحد العاملين على بلورة إشكاليته الجديدة. ورأيي أنه بدل التذمر من الإسلاميين، أو الانضواء تحت جناح نظم تحديثية فاشية وعسكرية، الشيءالصحيح أن نطور أدواتنا الفكرية والأخلاقية والتنظيمية والسياسية، أن نؤسس لذاتية جديدة وقوة اجتماعية وسياسية جديدة.

يبقى أن هناك عنصر شخصي في انفعالي حيال السلفيين بخاصة من الإسلاميين: خطفوا زوجتي وأخي أصدقائي، والتزامي في مواجهة هذه الجريمة التي لا تنسى هو أن أعمل على تحطيم قضيتهم وأمنع جريمة الخطف من التقادم والنسيان.

– البعض يؤيد بقاء بشار الأسد في السلطة بحجة أن البديل إسلامي.. كيف ترى تلك الرؤية؟

بشار الأسد مجرم قتل وتسبب في قتل ربع مليون سوري وفي تهجير 4,1 مليون حتى نهاية 2014 حسب أرقام الأمم المتحدة، وفوق 7 ملايين من المهجرين داخليا، وفتح البلد لاحتلال خارجي، وأطلق، كي يبقى في السلطة، حربا طائفية قد لا تنتهي لعقود وأجيال، ومارس صناعة قتل منظمة في سجونه. من يؤيد بقاء مجرم كهذا لا يقل عنه إجراما في رأيي.

وعلى كل حال، بشار عاجز عن استعادة السيطرة على البلد رغم الدعم الروسي والإيراني والعراقي واللبناني،وغيره، وحتى لو دعمه الغرب، وشرّع له قتل ربع مليون آخر أو أكثر. هذا ليس لأنه لايملك قضية فقط، ولكن لأنه هو ذاته محتاج إلى أمثال داعش وجبهة النصرة. تريد التخلص من هذه المنظمات العدمية حقا؟ نعم؟ إليك “الوصفة” الأنسب: 1) تخلص من بشار ونظامه. 2) ساعد السوريين على استعادة أوضاع أقرب إلى العادية، أمنيا واقتصاديا وتعليميا. 3) لا تخلط بين مختلف صنوف الإسلاميين، ولا تستبعد “المعتدلين”منهم، لأن هذا سيكون هدية للمتطرفين. 4) قد يطلب السوريون مساعدتك في مواجهة هذه المجموعات العدمية الفاشية، تسلف نفسك إن ساعدتهم.

-كيف ترى دور العرب تجاه ما يحدث في سوريا؟.. بصراحة: من مع الثورة ومن مع بشار؟

بصراحة؟ كل الدول ضد الثورة. بعضها ضد الثورة ومع بشار، وبعضها ضد الثورة وضد بشار. لديك لبنان والعراق وهما مع دولة السلالة الأسدية، وضد المجتمع السوري نفسه، وليس ضد الثورة وحدها. هناك مصر السيسي والجزائر والسودان والإمارات مع بشار وضد الثورة. هناك السعودية وقطر مع مجموعات عسكرية وسياسية تولدت عن الثورة، وقوى استتباع وإفساد لها.

افترض أن أكثر عموم العرب ليس لديهم معلومات كافية عن الوضع في سورية وعن جذوره وعن الدولة الأسدية، ولو توفرت لهم المعلومات والشرح الكافي لكانوا دونما شك مع السوريين في كفاحهم. من يعرفون عن سورية شيئا، الفلسطينيون واللبنانيون خاصة، وقفوا إلى جانب كفاحنا دوما. يعرفون سورية أفضل من غيرهم، ويعرفون الدولة الأسدية أكثر من غيرهم.

– ماذا عن موقف مصر من الأزمة السورية؟ وكيف ترى جهودها في توحيد المعارضة السورية؟. (مؤتمر المعارضةالسورية لحل سياسي للأزمة السورية).

موقف مصر من “الأزمة السورية” يتحدد بموقف مصر في مصر. مصر التي في مصر هي تراجع عن ثورة يناير، وتفضيل لإعادة السكان إلى بيت الطاعة بالعصا. ويبدو لي أن مصر بعد انقلاب السيسي تفضل عودة السوريين إلى بيت الطاعة الأسدي، وطي صفحة الثورة، والانهيار الاجتماعي والوطني الذي ترتب على تدميرها. لكن ربما تدرك مصر أن هذا متعذر، الدمار أوسع من أن يستطيع مأفون مثل بشار لمّه، والأحوال السوري انفلتت من تحكم الجميع، وليس السوريين وحدهم. ولمشقة هذا الوضع، ولكل أنواع الأسباب (انحيازات بنيوية مكونة للحكم المصري الحالي، ارتباطات دولية وإقليمية، إرباكات الوضع الداخلي المصري، ضعف مصر الاقتصادي والعسكري…)، مصر غير قادرة على صوغ سياسة متماسكة حيال سورية. هامش التحرك المتاح هو “توحيد المعارضة السورية”. والتوحيد المصري للمعارضة يتقابل مع توحيد سعودي، وتوحيد قطري، وتوحيد تركي، وتوحيد روسي… ومجموع هذه التوحيدات تغري المرء بالتساؤل: ترى، مم يشكو التفرق؟

هذاالتوحيد هو الفكرة المشرعة لانقسامات جديدة، لا أكثر ولا أقل.

– كيف ترى دور الغرب تجاه ما يحدث في سوريا؟

“الغرب”قاد مجموعة “أصدقاء الشعب السوري” التي تشكلت لمساعدة السوريين في كفاحهم من خارج الأمم المتحدة التي عطلها الفيتو الروسي الصيني، قادها إلى الدمار، وإلى مساندة بشار الأسد عمليا. الأميركيون اتبعوا القضية السورية بمفاوضاتهم مع إيران، ثم بحربهم ضد داعش، وهي حرب تعالج أعراض المسألة السورية، وليس جذورها. وعموما أتصور أن الغرب، وأقصد الأميركيين أساسا، ثم الألمان، هندسوا الدمار السوري، وكانت لهم ذرائع منذ البداية لعدم مساعدة السوريين بأية صورة. وبعد صفقةالكيماوي الإجرامية في أيلول 2013، أعتقد أن من المشروع القول إن أميركا شريكة كاملة الشراكة في تشريع قتل السوريين وقتل سورية ذاتها.

– ما حقيقة انضمامك للجيش السوري الحُر؟

هل هناك من يقول إني انضممت إلى الجيش الحر؟ إن وجد، فهو العارف بحقيقة الأمر، والأقدر مني على الإجابة على السؤال.

– هل بدأ نظام الأسد بنهار تدريجيًا؟ وهل هناك بديل علماني قادر على مواجهة الإسلاميين عقب سقوطه؟

أخشى أن انحسار سيطرةالنظام عن مناطق جديدة هو تقلب وقتي في مسار صراع مفتوح لا يبدو لي مفضيا في وقت قريب إلى تغير دراماتيكي وحسم مصير النظام. أرجو سقوطه طبعا، تدريجيا أو فوريا، لكني متشكك جدا في أن خسائر النظام الأخير تعني أن الأمور سائرة في هذا الاتجاه.

ليس هناك بديل علماني. من أين يأتي؟ حين تجفف السياسة من مجتمع أو تفقره سياسيا بالقدر الذي عانى منه السوريون، أكثر بكثير من مصر في أي وقت بالمناسبة، فإن أول من يتضرر هو القوى التي تعرف نفسها بالسياسة والكلام الإقناعي والعمل المستقل في المجتمع والنشاط الاحتجاجي في الشارع، أي القوى الديمقراطية واليسارية والليبرالية، العلمانية. الإسلاميون يتضررون أقل بحكم شبكاتهم الأقدم وعمقهم الرمزي، والجهايون منهم لا يتضررون، لأنهم أصلا تشكيلات حرب لا تعنيها السياسة في شيء. تجفيف السياسة و شروط الإفقار السياسي مناسبة لهم بالأحرى.

– ما الذي تأمل إليه كمعارض؟

أن أرى بشار ورجاله على المشانق، وأن تطوى صفحة الإفلات من العقاب في سورية. سيكون هذا درسا لطغاة صغار إسلاميين، وبمثابة تأكيد بأن العدالة ستتحقق، وإن بعد حين. أريد أن أرى أصدقائي ورفاقي خارج الظلام، وأول الجميع، طبعا، سميرة زوجتي وفراس أخي ورزان زيتونة صديقتي، ووائل حمادة وناظم حمادي واسماعيل الحامض وفائق المير وجهاد أسعد محمد أصدقائي.

– هل كانت ثورات الربيع العربي ثورات خبز أم حرية؟ وهل كان الإسلاميين سببًا في فشلها؟

أعتقدأنها ثورات من أجل امتلاك السياسية، أي الحرية، لكن ليس بالمعنى الحقوقي الضيق، بل بمعنى أن يمتلك السكان بلدانهم ويتحكموا بشروط حياتهم ولوازمها، ومنها الخبز. تجربتنا السورية، حيث استخدم التجويع سلاح حرب، وحيث مات أطفال من الجوع في مخيم اليرموك والمعضمية والغوطة الشرقية، وحيث قتل سجناء جوعا وتعذيبا، وهذا في بلد قلما عرف الجوع الأسود في تاريخه المعاصر، هذه التجربة تقول إن الخبز ذاته مسألة حرية وامتلاك للسياسة والدولة.

وبخصوص الشق الثاني من السؤال: الإسلاميون متنوعون، لدي أسباب شخصية وعامة للنفور من جميعهم، لكن نخطئ معرفيا وسياسيا حين لا نميز بينهم، ونخدم في ذلك المتطرفين منهم حصرا.

الإسلاميون الأكثر تشددا ليسوا سبب فشل الثورات، بل بالضبط نتاج الفشل.

……………..

مصر

– من خلال كتاباتك عن الإسلام السياسي ومتابعتك للشأن المصري.. لماذا فشلت تجربة جماعة الإخوان في الحكم؟

لست متابعا بقدر كاف للأسف. انطباعي أن الفشل كان محصلة أخطاء الإخوان الوفيرة، ومنها نقص الكفاءة، ومنها ضيق القاعدة الفكرية لتفكيرهم بسياسة الدولة والمجتمع (ضللوا أنفسهم وغيرهم بشعار مُزايِد: الإسلام هو الحل!)، ومنها نرجسية حزبية وسوست لهم بأخونة الدولة. لكن أيضا الفشل نتاج قوة الثورة المضادة فيما يسمى  في مصر “الدولة العميقة”، والمؤسسة العسكرية بخاصة. وفي النهاية قضي على التجربة بقوة من خارجها، ولم تنهر انهيارا تلقائيا. كان الانقلاب في رأيي خطأ تاريخيا في حق مصر والشعب المصري، وإنقاذا للإسلاميين من فشلهم المحتم. كانوا يخسرون بتسارع سردية المظلومية التي عاشوا عليها طويلا، ويظهر تواضع أدائهم وضيق أفقهم ورقة أخلاق كثيرين منهم. كان الأصح استثمار الاحتجاج الشعبي ضدهم في فرض ميثاق وطني يحمي التعددية والحريات العامة، ويوفر موازنات وضوابط تضمن استقلال الدولة عن أي حزب، ويستحدث هيئة وطنية، مدنية وعسكرية، تراقب السلطة الحزبية… كان من شأن ذلك أن يصون ما حققته ثورة يناير، ويفتح أفق التطور السياسي أمام البلد. ما جرى هو العكس: اعتلاء أكتاف أبناء الشعب من أجل عودة الدكتاتورية، ومحو زمن الثورة تماما.

– هناك من يؤكد استحالة إقصاء الإسلاميين وأن أفضل طريقة لمقاومتهم إدماجهم في المشهد السياسي..كيف ترى ذلك؟

هذا ما أراه أيضا.

ولا أعرف مثالا واحدا جرى إقصاء الإسلاميين فيه دون أن يجري إقصاء غيرهم، من يساريين وليبراليين، وحركات نسوية وشبابية، وأي حراك سياسي مستقل. والمشكلة، كما قلت فوق، أن من يتضرر أعظم الضرر من الإقصاء السياسي هم الديمقراطيون ومن يوظفون في السياسة أساسا، ومن يتضرر أقل هم الإخوان الذين يوظفون في الدين، ومن ينتفعون بالأحرى هم السلفيون الجهاديون الذين يوظفون في الحرب أساسا. فإذا أردت الديمقراطية، فعليك دفع ثمنها، ومنه قبول الإسلاميين في المشهد السياسي، على صعوبة ذلك. هذا يساعد في عزل المتطرفين منهم. لا تستطيع مواجهة متشددي الإسلاميين إلا بإسلاميين معتدلين.

– منذ 5 أشهر دعا الرئيس عبد الفتاح السيسي الأزهر لقيادة ثورة دينية… هل تسير مصر في ذلك الطريق بالفعل؟وهل يصلح الأزهر لقياداتها؟ (مع العلم أن هناك تضييق على الملحدين، وهناك تكفيرلمنتقدي التراث مثل إسلام بحيري مؤخرًا، ومنع أفلام سينمائية بأمر الأزهر، مثل “حلاوةروح”).

الثورةالدينية لا تحدث بأوامر سياسية. أخشى أن فكرة الثورة الدينية ليست غير عنوان جديد لسيطرة أشد إحكاما على المجتمع والحياة الدينية، وقمع النشاط الاجتماعي والسياسي.

ولا أعرف ثورة دينية جاءت من المؤسسة الدينية الرسمية. الثورة الدينية ثورة عليها دوما، والقائمون بها يأتون، حسب ماكس فيبر، من خارج الإكليروس المنظم.

…………..

– الطائفية كانت سببًا في اندلاع حروب أهلية.. هل يمكن أن نشهد حركة إصلاح ديني في المنطقة؟ وهل العرب قادرون على احتضان الأقليات؟

الطائفية بنت السياسة أكثر ما هي بنت الدين، وما نحتاجه للتخلص من الطائفية هو بالأحرى إصلاح الدولة وليس إصلاحا دينيا. وأساس إصلاح الدولة هو منع وتجريم التمييز بين منحدرين من مجموعات دينية أو اعتقادية مختلفة. هذا شأن سياسي وليس دينيا. الإصلاح الديني لازم لسبب آخر، من أجل ثورة في الروح وفي الإيمان والأخلاق. مصلحو الدين هو أناس مؤمنون عميقو الإيمان، يتطلعون إلى دين أكثر وليس إلى دين أقل. لكن إصلاح الدين لا يجعله عقيدة ليبرالية أو ديمقراطية… ستبقى الإديان قبل إصلاحها وبعده مبنية على التمييز، ولا تقبل المساواة.

واسمح لي أن أجد في السؤال عن قدرة العرب على احتضان الأقليات علامة على تفكير جوهراني، يميز عادة العنصريين. العرب يحتضنون الأقليات، وقد فعلوا، ولا يحتضنونها، وقد فعلوا. المسألة تاريخية وسياسية، وهي متعلقة ببنى السلطة والثروة، وبتحسّن تحكم السكان بشروط حياتهم أو تراجعه، وليس لها علاقة بجوهر عربي حاضن للأقليات أوطارد.

– كيف نخلق تيار علماني قوي ينهي صراع الأنظمة الدينية والعسكرية؟.

بأن نبني تحالفا بين العلمانية والشعب، بأن تكون العلمانية منخرطة في كفاح الناس من أجل امتلاك السياسة والدولة والبلد، وليس وكيلا للطغيان والنخب الفاشية في الرقابة على السكان وتقييد حياتهم السياسية والدينية. العلمانية الخادمة للأنظمة العسكرية لا يمكن أن تلعب دورا يزيد على دور الخدم. والخدم لا يحلون مشكلات، فهم أحد وجوه الوضع الجائر القائم على الخدمة والتبعية. في الوقت نفسه، العلماني الحر يقاوم الطغيان الديني ويدافع عن حرية الاعتقاد، بما فيها حرية عدم الاعتقاد وحرية تغيير الاعتقاد، وحق المجتمع في الدين، بما في ذلك حق تخلي من يشاء عن الدين. لا حرية ممكنة دون ذلك. إنها معركتنا، وفرصتنا في كسب جولات منها مرهونة بأن ننحاز للعامة في كفاحهم من أجل امتلاك السياسة والحياة.

– كيف تُقيم حال الثقافة العربية؟ وما هو الموقع الصحيح للمثقف من السلطة؟ (بعض المثقفين أيدوا الديكتاتورية خوفًا من الإسلاميين).

حال ثقافة العرب من حال العرب، وهي ليست بالحال التي تبهج القلب. لكن يبدو لي أن ثقافة العرب رغم كل شيء مجال للإبداعية والمخيلة والحساسية يحوز طاقة عالية على التطور، وفيها كوامن رمزية وروحية وأخلاقية أتصورها كبيرة.

وموقع المثقف الطبيعي هو مخاصمة السلطة، بل ومعاداتها حين تكون عدوا للكرامة الإنسانية مثل الدولة الأسدية. يعرف المثقف أيضا بحرصه على استقلال مجال فاعليته النوعي،الثقافة، وتحديدا حيال السلطة، وحيال المال، وحيال الأهل أو الجماعة الأهلية. في المقام الثالث، المثقف مسؤول اجتماعيا أيضا، مسؤول أمام المجتمع، وليس أمام السلطة.

– هل العرب بحاجةإلى ثورة ثقافية؟.. وهل تمتلك إمكانيات وقدرات لتنفيذ تلك الثورة؟

نعم، نحن بحاجة إلى ثورات على مستوى الثقافة والدين. وأعتقد أن الأمر يفرض نفسه علينا فعلا، وأن القرن الحالي يمكن،وينبغي، أن يكون قرنا للدين والثقافة، مثلما كان القرن العشرين قرنا للسياسة.

وجوهر ما يلزم، في تصوري، هو إنتاح معان ورموز جديدة، والاشتباك الفكري والروحي مع الدين، الإسلام، الذي اعتبره عبء الرجل العربي، أي مشكلته وواجبه الكبير. لا صيغ الاعتناق الحالية تلبي الحاجات الروحية والأخلاقية والوجودية للمؤمنين في العالم، ولا التخلي السلبي عن الإسلام ممكن أو تقدمي أو له أي معنى.

في الوقت نفسه لا أرى أن الإسلام والاشتباك مع الإسلام هو الممر الحصري والوحيد للتجدد الثقافي. هو ممر كبير، لكن لدينا تجربة الوجود في العالم المعاصر وضروب كثيرة من المعاناة وضيق النفوس. الثورة الثقافية هي تغيير النفس، نفس كل فرد ونفوس الجميع، والنفس الجمعية. وسندنا في تغيير النفس هو تحويل معاناتنا العظيمة إلى معان حية.

النص الكامل، غير المنقح وغير المراقب للمقابلة

 

المصري اليوم

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى