ذاكرة صفحات سوريةرفيق شاميصفحات الحوار

الروائي السوري رفيق شامي في حوار مع موقع”جدار”

جرى الحوار من بداية فبراير/ شباط  حتى نهاية مايو / ايار2006

ونشر الحوار على ثلاث دفعات

 

الحلقة الأولى

لم أخرج من دمشق طوعاً وأكره العسكر

 

تنازعت روحي جاذبيتان: العلوم والأدب..وتصورت في مخيلتي أن أصبح أستاذا للعلوم وكاتبا .لم أخرج طوعا من دمشق. فقد كان منع مجلة الحائط “المنطلق” في الستينات رمزا للجديد القبيح في دمشق

نعم كنت شيوعيا..وكانت جريدة الحزب السخيفة والمملة “نضال الشعب” تحتفل بانتصارات الاتحاد السوفييتي بالزراعة… بكداش ووريثـــته ظلوا ينتصرون حتى بعد هزيمة السوفييت..

عدائيتي للجيش كانت ولا تزال قناعتي وموقفي الدائم وأعتقد أن 80- 90 % من الشعب العربي يكره جيشه

في المانيا عملت في نقل علب البريد ..تنقلت على إمتداد خمس سنوات الى أكثر من 16 وظيفة منها الخدمة في المطاعم، والعمل في ورشات بناء

مامنعني من العودة الى دمشق كتاب التقارير البعثيين الاغبياء… والسلطة لا تكره المثـقفين كما يروج البعض.. بل تبتاعهم بكل الوسائل الممكنة ترهيباً وترغيـبا

علاقتي بمعلولا علاقة رحم.. وفي المنفى يزداد حضور الطفولة والشباب في الذاكرة وكأن الإنسان قد عاش كل شيء بسرعة تجاوزت قدرة إستيعابه

آخر حصار لمعلولا كان على يد فوزي القاوقجي .. الذي حاصر ونهب كل القرى السورية في طريقه من حماة الى فلسطين .. وهو لم يطلق رصاصة على الفرنسيين

 

 

 

ورفيق شامي على ابواب الستين.. أجرى جدار حوارا مطولا معه تناول رحلته بشكل مطول مع الكتابة والهجرة وعلاقته مع الوطن والسلطات العربية.

الحوار مع رفيق شامي ليس الاول مع مطبوعة عربية بكل تأكيد لكنه الحوار الأكثر شمولا لتجربته ومسيرته. في هذا الحوار قال رفيق شامي الكثير، متحدثا عن هجرته واسبابها وكيف بدا الكتابة بالالمانية وكيف استطاع أن ينتزع مكانته الادبية عبر لغة ليست لغته الام ليصبح من اكثر الكتاب الالمان شهرةَ وتتصدر كتبه لفترات طويلة قائمة المبيعات وليصبح علامة فارقة في الادب الالماني، ككاتب سوري مهاجر استطاع ان يؤسس لنفسه مكانة على خارطة هذا الادب، الى جوار أسماء المانية كبيرة.. وليترجم من الالمانية الى لغات عديدة بلغت اكثر من عشرين لغة حية.. تحدث رفيق شامي عن معلولا وعن دمشق بحنين جارف لا يترك للقارئ إلا ان يتعاطف معه. وتطرق ايضا الى علاقته مع المستشرقين الالمان، وعرض مسيرة نجاحه الأدبية بما يثبت أن النجاح الادبي هو عمل دؤوب ومضني وليس ضربة وحظ وليس كذلك جهات!! تقف وراء هذا الكاتب أو ذاك. ولم تنقص الحوار الجرأة والصراحة التي نادرا ما نعهدها لدى كاتب بالعربية. تناول كتابا عربا بالاسماء ولم يلجأ الى التعمية والتعميم وتناول علاقة الكتاب العرب بكتاب المنفى والتهم الجاهزة التي يلوكونها ضدهم وتحدث عن علاقته بسلطات بلاده وفجر الكثير من القضايا وكذلك هزَّ ملسمات مستقرة في المكتوب العربي.

بكل تاكيد سيزداد عدد ( أعداء ) رفيق شامي بعد هذا الحوار لكنه أيضا سيطل على القارئ العربي الذي يجهله جهلا تاما.. سيطل معطيا صورة شبه شاملة عنه وعنما يكتب ..وهو الكاتب الذي لم يترجم له من بين كل ما كتب الى العربية الا كتابا واحداَ صدر عن دار الجمل والذي بعنوان ” التقرير السري عن الشاعر غوته ”

جدار إذ يتمنى لرفيق عمرا مديدا، ومزيدا من النجاح يقدم له الكثير..الكثير من الشكر والعرفان والمحبة التي لا نملك غيرها، لانه خصنا بهذا الحوار مقدرين معاناته مع الطباعة بالاحرف العربية لحوار مطول استغرقت ردوده ساعات طويلة لكتابة الاجوبة…

وقد أجرى الحوار خلف علي الخلف عبر الايميل على فترات طويلة استغرقت أشهراً ولازال في الحلق كلام كثير..وسينشر جدار الحوار على حلقات فمن هو هذا الــ رفيق الشامي

رفيق شامي: ولد في عام 1946 في دمشق ..أسس 1965 مجلة حائطية “المنطلق” في حيه وإستمرت بالصدور حتى عام 1970..نزح إلى المانيا عام 1971..عمل في ورشات ومصانع إلى جانب دراسته من 1971-1979 حيث نال درجة الدكتوراة في الكيمياء العضوية المعدنية. عمل في شركة أدوية كبيرة من عام 1980 وحتى 1982 حيث قدم إستقالته ليتفرغ للأدب.

نشر اعمالاً متفرقة من 1971 وحتى 1977..أسس عام 1980 مع كتاب أجانب آخرين المجموعة الأدبية “الريح الجنوبية” وإتحاد الفنانين الأجانب “بوليكونست”.. أصدرمع زملاؤه في مجموعة الريح الجنوبية 13 مجلداً تحتوي نخبات من أدب الكاتبات والكتاب الأجانب في ألمانيا من عام 1980 وحتى عام 1985 . منذ عام 1982كاتب متفرغ للكتابة. ومنذ 2002 عضو في أكاديمية الفنون الجميلة البافارية

 

مختارات من أعمال رفيق شامي

أساطيرثانيــة 1979

الخطاب الأخير للجرذ المتجول 1984

(مجموعة من القصص العجائبية)

حلاب االذبابة 1985

(قصص من دمشق)

العبور الأول لثقب الإبرة 1985

(قصص عجائبية)

بوبو وسوسو 1986

(كتاب أطفال)

يد ملؤها النجوم 1987

(رواية)

أساطير معلولا 1987

(اساطير وقصص عجائبية)

الحنين يسافر بدون بطاقة سفر 1988

( قصص من المنفى)

حكواتي الليل 1989

(رواية)

صندوق العجائب 1990

(كتاب أطفال)

من سحر اللسان 1991

(مقالات حول موضوع الكتابة بلغة أجنبية)

الشجرة الطائرة 1992

(قصص عجائبية)

الكاذب الصادق 1992

(رواية)

هذا ليس ببغاء 1994

(كتاب أطفال)

جبل الجليد الملتهب 1995

(مقالات عن الحياة في المنفى)

الغراب يقف على منقاره 1995

(كتاب أطفال)

رحلة بين الليل والصباح 1995

(رواية)

فاطمة وسارق الأحلام 1996

(كتاب أطفال)

بزر زيتون 1997

(مقالات ساخرة)

ميلاد 1997

(رواية)

التقرير السري عن الشاعر غوته 1999

(رواية خيالية)

سبعة ممثليــن 1999

(رواية)

حنين السنونو 2000

(رواية للأطفال)

بعيون غريبة 2002

(يوميات لعام كامل بعد 11 من أيلول 2001)

لون الكلمات 2002

(قصص مع لوحات مائية من روت ليب)

كيف خلصت أبي من خوفه تجاه الغرباء 2003

(كتاب أطفال)

الوجه المظلم للحب 2004

(رواية 100 عام من الحب الممنوع)

في القلب دمشق 2006

(مختارات من مقالات ثقافية وسياسية من ثلاثين عام)

حادي الجمل في هايدلبرغ 2006

(مختارات من قصص أطفال)

 

مسرحيات وتمثيليات إذاعية

عندما تخلصت الدمى من الخيوط 1987

زيارة هاينريش هاينه في عيد ميلاده 1997

 

كاسيتات وإسطوانات

حادي الجمل في هايدلبرغ 1987

الجنون ليس سهلاً 1988

معلولا 1989

همسات طفولتي1995

(3 إسطوانات)

حكواتي الليل1996

(3 إسطوانات)

لون الكلمات 2000

(إسطوانتان)

يد ملؤها النجوم 2000

(إسطوانتان)

ملك لا يعمل شيء 2003

صندوق العجائب 2003

النعجة في ثياب الذئب2005

الوجه المظلم للحب 2005

(21 إسطوانة)

معلولا 2006

(إسطوانتان بإنتاج جديد)

حكواتي الليل 2006

(3 إسطوانات بإنتاج جديد)

حنين السنونو 2006

(3 إسطوانات)

 

جوائز أدبيــة

1985 جائزة أدلبرت شاميسو التشجيعية للأدباء الأجانب (المانيا)

1986 جائزة تاديوس ترول(المانيا)

1987 جائزة الكوبرا الزرقاء لكتاب العالم الثالث ( سويسرا)

1987 جائزة القراء الشباب في التلفزيون 2 (المانيا)

1987 قائمة الشرف لجائزة الدولة (النمسا)

1987 جائزة أفضل كتاب للشبيبة (سويسرا)

1989 جائزة سميلك كيجن (هولاندا)

1990 جائزة مدينة هاملن لأفضل رواية (المانيا)

1990 جائزة مدينة فيتسلار لأفضل رواية عجائبية(المانيا)

1991 جائزة ميلدريد بيشلر للمكتبات (أمريكا)

1993 جائزة أدلبرت شاميسو الرئيسية ( المانيا)

1994 جائزة هيرمان هيسه (المانيا)

1995 جائزة النقاد لأفضل إسطوانة أدبية (المانيا)

1996 جائزة أدب الصوتين (فرنسا)

1996 جائزة النقاد لأفضل إسطوانة أدبية (المانيا)

1997 جائزة هانز. أ. نوساك ( المانيا)

1997 الجائزة العالمية لفن القصة ( أمريكا)

2002 جائزة لياندر هايدلبرغ ( المانيا)

2003 جائزة فايلهايم الأدبية (المانيا)

2003 جائزة الدولة للفن في مقاطعة البفالز وحوض الراين (المانيا)

 

الترجمات

 

ترجمت كتب رفيق شامي من الألمانيــة للغات التالية:

العربية، الباسكية(مقاطعة في إسبانيا)، الصينية، الدانماركية، الفينلنديــة، الإنكليزية، الفرنسية، اليونانيــة، العبرية، الإيطالية، اليابانية، الكتلانية( مقاطعة في إسبانيا)، الكورية، الهولاندية، النرويجية، البولونية، السويدية، الإسبانية، التركية والأوردو(في باكستان). الصربية، السلوفينية، الكرواتية ( ثلاث لغات لمقاطعات من يوغسلافيا سابقاً)

 

الهجرة .. معلولا .. الوطن والحنين إليه

 

**رفيق شامي الذاهب من معلولا الى المانيا حاملا الشرق والذي حصل على الدكتوارة في الكيمياء (للمفارقة). قبل الدخول الى عالمك الادبي هل لنا أن نعرف ظروف سفرك الى المانيا هل الدراسة هي السبب الاساسي ام إنها كانت مدخلاً من الممكن أن يكون باتجاهين كأن كانت سببا معلناً للخروج وكأن تكون هي السبب الذي قدم لك فضاء الحرية الذي لم تعد ترض بديلاً عنه ؟ فكما اعلم كان لك تجربة في اصدار مجلة حائطية اثناء الدراسة الثانوية ومنعت فيما بعد، وظل قدر المنع يلاحقك حتى الان فأنت كما قرأت على اللوائح السوداء في اغلب البلاد العربية ؟

 

**سؤالك يحتضن عشرات الأسئلة تحت ردائه كالمهرب الخبير.سأحاول البدء بالأسهل. منذ طفولتي (لكي لا أجتر القول السائد “نعومة أظفاري” إذ أن يداي لم تنعما بنعومة) تنازعت روحي جاذبيتان: العلوم والأدب. التوق لفهم أسرار الحياة والدهشة تجاه عجائب الدنيا كانت ولا تزال حتى اليوم تأسرني وأنا أقرأ كتاباً أو أشاهد فيلماً عن ظاهرة طبيعية عجيبة أو عن دقائق خفية في بنية الذرة أو حياة حيوان ما بنفس التشوق لقراءة كتاباً ذا حبكة قصصية مشوقة أو فيلماً متقناً عن المافيا. كان حظي كبيرا إلى أبعد الحدود في المدرسة البطريركية للكاثوليك ( تقع في حي الزيتون الموازي لحي العبارة حيث نشأتي الاولى). فقد كان الكادر التعليمي استثنائياً فوجود معلمين كـ حسام الدين الخطيب الذي كان يعلمنا اللغة العربية و توفيق أبو شنب الذي درسنا الرياضيات وأنطون مارين الذي درسنا الفيزياء ساهم في إستمرارية وتنمية هاتين النـزعتين.

تصورت في مخيلتي أن أصبح أستاذا للعلوم وكاتبا للقصص وكانت هذه الأمنية واضحة في شطرها الأول وضبابية في الثاني فأنا كنت أحب قراءة الشعر و قراءة وسماع القصص لكني لم أكن أدري أي شيئا عن الطريق.

ورغم رحابة مخيلتي لم أتصور يوما أنني سأعيش في المنفى أو المهجر ولا حتى الحياة في مدينة أخرى غير دمشق. فدمشق كانت وما تزال جنتي ليس ذاكرة فقط بل تجربة حياة. لكن كما ترى الحياة عجائبية أكثر من الأساطير.

لم أخرج طوعا من دمشق. منع مجلة الحائط “المنطلق” كان رمزا للجديد القبيح في دمشق. كانت مجلة أدبية بريئة لم تتدخل في السياسة اللهم إلا رفضنا تحية أي حزب من الأحزاب على صفحاتها وهذا كان كافياً لإعتبارها معادية للبعث. في نفس الوقت كنت أحاول نشر بعض القصص في الجرائد والمجلات وكانت ردود الفعل في غالبيتها إيجابية مع الرجاء (اللطيف والمؤدب) بحذف بعض المقاطع. كنت أرفض وأعود الى البيت وانا اشعر أنني أدور في دوامة لا مخرج منها. و في هذه المرات القليلة التي دعيت فيها الى المجلة أو الجريدة ” للحوار” لم يدور الجدل حول بنية أو موضوع القصة بل عن إنتمائي الحزبي وبأسلوب بدائي ملتوي لكنه مفضوح. وكنت أدَّعي (كاذباً) أنني لا انتمي لأي حزب ولا أريد الإنتماء كذلك. وكنت أرى كيف تموت رغبة الحوار عند الطرف الآخر حول النص.

 

*وهل حقاً لم تنتم لأي حزب أم أن ذلك كان أدعاءً فحسب ؟

 

**بل كنت منتميا للحزب الشيوعي السوري وقد انتسبت له وكان عمري 16 سنة. غير إن الادب لم يكن أوفر حظاً في هذا الحزب. لم يهتم أحد بما نطالع ولا ناقش أحدهم في جلسة ما نكتبه في مجلة الحائط اللاحزبية. ولشعوري بهذا الفقر الأدبي في صفوف الحزب قمت بمحاولة يتيمة لإنشاء مجلة أدبية للشباب الشيوعي وللأصدقاء الذين ملوا من قراءة جريدة الحزب السخيفة والمملة “نضال الشعب” والتي كانت تحتفل بانتصارات الإتحاد السوفييتي في الزراعة ( أضحك الآن حتى البكاء عند هذه الذكرى ليس فقط لإنتهازية المحررين بل لمقدار كذبها. بكداش ووريثـــته ظلوا ينتصرون حتى بعد هزيمة السوفييت وسينتصرون حتى الهلاك).لم تر المجلة النور. أنجزنا بإجتهاد غريب عددين بحجم ثمان صفحات لكل عدد وكان علينا تسليمهم للجنة المركزية للحصول على موافقة. ولا أزال أذكر إلى اليوم تلك الفترة. تصورت آنذاك في مخيلتي – خاصة قبل النوم – كيف سيأتي مندوب الحزب ليدعوني إلى مقابلة زعيم الحزب الذي كان سيضمني وعيناه مليئة بدموع الأمتنان لأنقاذ الشبيبة من الملل. طال إنتظاري. بعد عدة أشهر، أبلغني (البكداشي) العريق يعقوب غ. رفض اللجنة المركزية لمجلة الشبيبة المقترحة، لأنها تستفز بإباحيتها!! وعدائيتها للجيش البعثي الحاكم، الذي كان يتعاون معه الشيوعيون لتكريس المسار “التقدمي الثوري” للحكم. لم ينفع الجدل. فلم تكن المجلة إباحية إطلاقا بل مؤدبة بشكل مبالغ فيه لاعقلاني خوفا من ردة فعل العائلة والجوار. إلا انها كانت تنادي بمشاركة المرأة العربية في كل القرارات وأولها قرار الزواج والطلاق وكنت ولا أزال تحكمني قناعة وهي استحالة تقدم المجتمع ونصفه مستعبد. هذه نقطــة مبدأيــة وليست ترفيهية أو شعرية للموقف من قضية المرأة العربية المقهورة. كل موقف لا ينطلق من مساواة تامة وكاملة للمرأة بالرجل دون قيــد وشرط ودون مفردات التموية “إذا ولولا وسوف وبعد” لا يصل بنا إلا إلى متاهات. ما فائــدة العمل والتضحية من أجل مستقبل نصف مجتمعه مستعبد؟ أن يسمي شيوعي هذا المطلب البديهي “إباحية” صعقني فعلا.

عدائيتي للجيش- خاصة لقواده- كانت ولا تزال قناعتي وموقفي الدائم وأعتقد أن 80- 90 % من الشعب العربي يكره جيشه. فكل الجيوش لم تجلب في تاريخ الإنسانية إلا الويلات. لذلك لم أنوي يوما خدمة أي علم مهما كانت ألوانه.

 

*هل كانت هذه اسباب كافية للهجرة ؟ فاغلب جيلك كان يعاني مما عانيت منه، بل ربما يعاني مما هو أشد قسوة من هذا ..

 

** ربما.. لكن الحصار والفشل حولي أصبح خانقا وبعد فشل قصة حب كادت تودي بحياتي ولظروف لا يمكن تفصيلها دون الإساءة لشركاء في القصة لازالو أحياء في دمشق. قررت السفر.

منقذي الوحيد كان إختصاصي (الكيمياء) إذ سُمح لنا إعتبارا من السنة الجامعية الثانية التدريس وذلك لهروب دفعة كبيرة من الأساتذة الى السعودية ودول الخليج حيث بلغ معاشهم آنذاك عشرة أضعاف المعاش السوري. وقد درَّستُ في درعا والسويداء، لكن تقريراً  رفعه مدير المدرسة ضدي، ألقى بي إلى قرية الشجرة على الحدود، بعد مشادة بيني وبين المدير سببها دفاعي عن طفل فقير نابغة أراد المدير طرده بحجج واهية، غير أن السبب الحقيقي هو عداء مميت بين عائلة المدير وعائلة الطفل. مديرية التربية والتعليم لم تستفسر يومها حول هذا التقرير ولا كلفت نفسها بسؤالي حتى !!. وهذا يظهر مقدار نشاط موظفينا الذي يفوق سرعة الألمان في تنفيذ قرار. فنقلت تعسفا الى قرية الشجرة على مقربة من الجبهة السورية الإسرائيلية بعد احتلال الجولان. وهناك علمت تفاصيل وسبب نقلي التعسفي الى ٍ”سيبيريا السورية” كما سمى أحد الزملاء المنطقة.

العمل في هذه القرية كان صعبا، فهي تجمع إلى الفقر المدقع، غياب القانون كلية. لكن الأطفال كانوا يتكبدون المشقات للوصول الى المدرسة مشيا على الأقدام. وقد كانت المناوشات بين الفصائل الفلسطينية المسلحة والجيش الإسرائيلي شبه يومية. تسلل.. ملاحقة.. قصف.. حرق المزارع على الجانب السوري.. بكاء الفلاحين الفقراء… وعدم تقديم أي مساعدة لهم. ولم يكن احداً على الجنابين السوري والاسرائيلي يتفوه بكلمة عن هذه الحرب البائسة.

 

*في أي عام واي تاريخ كان هذا بالضبط ؟

 

** في عامي 1968 و1969

 

*هل بدأت هجرتك من هناك؟ أعني بسبب نقلك التعسفي هذا وبسبب ما ذكرته قبل ذلك …

 

**هنا في نهاية العالم، كما كنتُ أحس وأنا في هذه القرية،اكتشف زميل لنا عبر قريب له في مخابرات الجبهة أن تقاريراً كاذبة ومؤذية كانت تصاغ عنا جميعاً في هذه المدرسة التعيسة التي كانت عرضة للهجمات الإسرائيلية والتي صمدنا فيها مع الطلاب بعد هروب المدير وزوجته إلى درعا. وقد كان هذا المدير يميل للأخوان المسلمين وإبتزته المخابرات للعمل معها. لذلك إحتل الأساتذة المسيحيين الثلاث (من مجمل تسعة) مكان الصدارة في تقريره. مما زاد شعوري باليأس من البقاء.

من هناك سافرت أولا الى بيروت وبقيت فترة أنتظر أي قبول جامعي لأكمل دراسة الكيمياء وأحصل على الدكتوراة. وكنت في تلك الفترة قد راسلت جامعات عديدة في فرنسا، بريطانيا، إسبانيا، النمسا، أستراليا، السويد وألمانيا. كنت أحلم بالدراسة في باريس لكن الجامعات الثلاث التي راسلتها رفضت طلبي. فاجئني الرد الألماني لسرعته وكنت قد كاتبت جامعتين في هايدلبرغ وغوتينغن وقد أرسلت كلا الجامعتين قبولا، واخترت هايدلبرغ لشهرتها.

وفي العودة إلى سؤالك الرئيسي اقول كان خروجي بحثا عن الحرية وليس صدفة أنني أخذت كل قصصي ومشاريع رواياتي- التي اكملت كتابتها فيما بعد هنا- معي في الحقيبة ( ومنها أيضا مشروع روايتي”الوجه المظلم للحب” التي صدرت أخيرا بعد أكثر من 30 سنة عمل) غير أنه لم يكن يوما قرارا للمغادرة النهاية. ظننت أنني سأحصل على الدكتوراة وأعود كمدرس جامعي وكاتب إلى دمشق.

 

*كيف كانت البداية في المهجر / المنفى، كيف استطعت أن تتدبر معيشتك مع الدراسة، وكيف كان تعالقك مع الحياة في ألمانيا كحضارة اوربية مختلفة، الناس، التعامل ، اللغة الألمانية، للدرجة التي اصبحت كاتباً معروفاً بالالمانية إن لم نقل مشهوراً

 

**لما كنت لا أملك سوى 890 مارك ألماني( 900 – 10 ثمن سكائر في الطائرة) إدخرتها من عملي كمدرس إضطررت بعد أقل من شهرين للبحث عن العمل، فوجدت عملا في نقل علب البريد (رسائل وطرود بريدية) من شاحنات نقل الى القطار وبالعكس.وكان علي العمل لثمان ساعات.. ومن ذلك اليوم تنقلت على إمتداد خمس سنوات الى أكثر من 16 وظيفة منها الخدمة في المطاعم، والعمل في ورشات بناء، ومعامل الصلب في المدن الصناعية القريبة من هايدلبرغ. وكوني كنت قوي البنية فهذا أهلني لأعمال شاقة لكنها ذات أجر عالي. وكنت أفضل تلك الأعمال أكثر من العمل في المطاعم، إذ كانت ظروف العمل فيها و لا تزال حتى اليوم، سيئة وبأجر زهيد.

لم انقطع عن دراستي، إذ كنت اعمل في العطل وانتظم في الدراسة خلال الفصل الدراسي، وأتمتع بالحياة وكلما سنحت لي الفرصة أجلس لأكتب ( خاصة روايتي الوجه المظلم للحب). ولا أخفيك أنني كنت سعيدا بحريتي ونقاء حياتى من أية تبعية.

هذا الإنخراط في الحياة الألمانية ورؤيتها في قاعها أعتبره معلمي الأكثر إقناعا عن الحضارة الأوروبية وطبيعة المجتمع الألماني، وكذلك أفادني في صقل المانيتي وفي البدء بحوار عسير مع الألمان حول الثقافات لم أنته منه حتى اليوم. وكل أمسية كنت أجلس قبالة صورة صغيرة لدارنا في دمشق وأحتسي الشاي مع الذكريات.

الدراسة كانت سهلة نسبيا بالنسبة لي رغم معاداة أغلب أساتذة الكيمياء للعرب. وكانوا رغم عدائيتهم يعطوني العلامات التي أستحقها في فحوصاتي الكثيرة التي اجتزتها بين ما أعترفوا عليه من بكالوريوس الكيمياء والفيزياء السوري وماجستير الكيمياء الألماني الذي يسمح لك بعدها بالبداية ببحث الدكتوراة. ولا بد لي أن أقول أن الحظ ( وأرجو المعذرة إذ أنني رغم مادية عقلي أؤمن بالحظ أو الصدفة السعيدة) ساعدني وحصلت في كل فحوص الماجستير على علامة إمتياز مما أهلني للحصول على منحة جامعية للمتفوقين سمحت لي العيش برخاء. ومن اليوم الأول للمنحة في عام 1976 قسمت وقتي الى ثلاث أقسام الثلث للكيمياء والثلث للسياسة والثلث الأخير للأدب. كان علي تقسيم وقتي بدقة وبالإنضباط الذاتي ( أي دون رقيب) بشكل حديدي. ولم يكن ذلك مبالغة فلولا إنضباطي لما إستطعت إنجاز ما أنجزت. كل يوم كنت أكتب متجولا مع أبطال رواياتي في أحياء دمشق. وبدأت مكتبتي الدمشقية تنمو مع الخرائط والكتب عن تاريخ وأسواق وحياة وذكريات هذه المدينة إلى أن أصبحت في وضع يسمح لي بتحريك أبطال قصصي بحرية ومن وصف دقيق لكل صغيرة وكبيرة من حياة دمشق. وكما ترى لم يبعد المنفى وصحاريه وواحاتة أملي في العودة. كنت كالزيز الذي يدور في آخر الخيط ودمشق كانت الطفلة وكنت أصلي للعذراء مريم ألا تقطع الأيام رجلي المربوطة بالخيط.

 

*مالذي منعك من العودة إذاً ؟ رغم كل هذا الحنين الممزوج بالفقد لدمشق التي تبدو لك كفردوس مشتهى وبعيد ؟

 

**إنهم كتاب التقارير البعثيين المتواجدين في المانيا، والذين يتميزون عادة بغباء منقطع النظير ويخرسون دوما في المواجهات الطاحنة التي كنا ولا زلنا نخوضها مع اليمين المتطرف واليسار الألماني الزائف في الدفاع عن الثقافة العربية والإنسان العربي المُضْطَهد، فقد كانوا يكتبون التقارير عن كل من هو غير بعثي، وهنا لعبت الطائفية والحسد وضيق الافق والعنصرية المتمكنة من عقول هؤلاء الذين باعوا أنفسهم من أجل منحة مالية حقيرة دورا هاما في تسليط كره خاص لي.

التقيت أحد المعتقلين السابقين – وهو ليبرالي جمعتني به زمالة فقط- بعدما أفرج عنه بعد سنة من التعذيب الوحشي في سجن صيدنايا وعاد الى ألمانيا لمتابعة دراسة الطب، ليهاجر بعدها مع زوجته إلى كندا، روى لي مقدار التهويل عن دوري في التنظيمات السورية المعادية للحكم. كان ذلك في عام 1984 وكنت منذ عام 1978 قد تركت – قرفاً – وبعد تجربة طويلة مريرة كافة الأحزاب والمنظمات السياسية لأنشط في حقل الثقافة والأدب. لا شك أن كل قصصي ومقالاتي تعادي الطغيان ولا شك أيضا أن السياسة تلاحقني مهما هربت منها. هذا مصير كل إنسان يعيش في المنفى السياسي ويحافظ على إنسانيته وأمله بالعودة، لكني توقفت عن العمل مع أية منظمة سياسية. وقد يدغدغ هكذا تقييم لي من قبل النظام نفساً، أما أنا فأريد القول أنني لم أكن يوماً عضواً مهماً في أي حزب ولم أنجز في 15 سنة (1963-1978) هي فترة عضويتي في حزب شيوعي إنتاجا يعادل وزنه الإنساني ذاك الناتج عن قصة قصيرة من قصصي للأطفال.

 

*وما هو بالضبط سبب هذه العدائية؟

 

**هذه العدائية المميتة من قبل السلطة الحاكمة لي لم يكن سببها بطولتي الوهمية بل الموقف الثابت للسلطه تجاه كل من لا يساوم. فالسلطة لا تكره المثـقفين كما يروج البعض، على العكس هي بحاجة ماسة لهم وتبتاعهم بكل الوسائل الممكنة ترهيباً وترغيـبا. السلطان العربي طاغية وأذكى بقليل من أعدائه ولولا ذلك لما استمرت سلطته. وهو يعرف محددودية أتباعه المخلصين فكريا ويقدرها بواقعية فريدة ولذلك يشتري قدرات فكرية لا تحبه ولا تصدقه إنما تحب ماله وسلطته حتى ولو كانت هذه السلطة صغيرة بحجم سلطة عرفات تظل مغرية ولهذا أسباب كثيرة يطول الحديث عنها وقد يكون ذلك في فرصة أخرى. خلاصة القول: الطاغية العربي يكره بائع بصل أمي معارض له أكثر من حامل درجة بروفيسور من السوربون يمالقه ويكذب عليه.

 

*تأثير المكان الأول معلولا.. تلك المعلولا التي لا زال اهلها يتكلمون الارامية لغة السيد المسيح الى الان. هل من سطوة لهذه المدينة في أعمالك اللاحقة والتي كتبتها بعيدا عنها ؟

 

**لمعلولا أثراًً كبيراً على نفسي وتكوين شخصيتي لم أدركه إلا في مرحلة متأخرة وبالضبط في مطلع الثمانيات من القرن الماضي عندما وجدت عام 1982 في مكتبة جامعة هايدلبرغ الألمانية وبطريق الصدفة قصصاً من معلولا جمعها المستشرقين سوسين وبريم عام 1869 ونشرها المستشرق المشهور بيرغشتريسر عام 1915. وقد كان الكتيب يحتوي تسجيلا مختصراً وسيئاً لقصص رائعة حكتها فلاحة إسمها زايني شوعرا (بالعربية = زينة شاعر) في عام 1869. هذه الصدفة الرهيبة دفعتني للعودة الى معلولا بحثا وتنقيبا بعد أن ابتعدت عنها في شبابي كليا ولهذا أسباب وأسباب.

تنحدر عائلتي بكلا شقيها من معلولا القرية الجميلة الآرامية الواقعة عل مسافة 50 كم شمالي دمشق والتي لا تزال حتى اليوم مقصدا للسواح لجوها الجبلي الجميل وطبيعة صخورها الأخاذة في منظرها ولكونها إحدى القرى القليلة التي لا تزال تتكلم لغة يسوع المسيح. هذه اللغة كانت لغة الشعب في كامل المنطقة أثناء الإحتلال الروماني بينما كانت اليونانية ( وليس اللاتينية) لغة الدوائر. والآرامية تأريخياً أم أو عمة أو خالة العربية والعبرية. ولم تختف إلا ببطء شديد في المحيط الواسع لللغة العربية وبعد قرون من المنع والعزلة لم يبق سوى بعض الجزر الصغيرة هي بالواقع رؤوس جبال لطبيعة إختفت تحت المياه العربية. ولشد ما أحتقر هذا المنع والتعسف تجاه أقلية فريدة كانت يوما أم البلاد ومنع لغتها بدل التشجيع المدرسي عليها لتبقى لونا من ألوان سوريا الجميلة الى جانب العربية والكردية وكل اللغات الأخرى. وفي ظل هذا يزحف القوميـون على بطونهم أمام الإمبريالية الثقافية الأمريكيــة ويمضغ وزير بعثي سوري كزميله المصري والأردني والسعودي سندويشة عديمة الطعمة من الماكدونالد أمام عدسات التلفزيون تباهيا بأمته الواحدة ورسالتها الخائبة. خائنا بذلك ذوق المطبخ العربي الذي أكن له بعد 35 سنة في المنفى الحب والتقدير.

علاقتي بمعلولا علاقة رحم، رغم أن والدي نزح عنها الى بيروت ثم عاد إلى دمشق وقطن هناك وعمل جاهدا في الأفران في الحي المسيحي وأصاب نجاحاً لا بأس به أبعد به الفقر عننا. هناك – في حي العبارة – ولدت وعشت حتى إرتحالي إلى المانيا. كنت في دمشق أتكلم الآرامية في البيت والعربية في الشارع والمدرسة. ومع بداية وعيي أحببت دمشق بشكل لا أستطيع تفسيره حتى اليوم. كنت أجوب منذ صغري الأحياء الشعبية وأتفرج على وجوه دمشق الكثيرة وأمتص بدهشة عجائبها ولكثرة ما كنت أُضيع طريقي وأهتدي بعد السؤال عن طريق العودة للحي المسيحي.

سبب هذا الحب تماهي عميق مع دمشق على حساب جاذبية قريتي وتضاءلت معلولا في فترة مراهقتي لقرية صغيرة يرسلنا والدي إليها في الصيف. كنت أحب كروم عنبها وحقولها وطيبة أهاليها و”جبليتهم” التي تبدوا للغريب أحيانا كصلافة وبرود. لكن دمشق كانت تشدني بإستمرار. وهذا ألإبتعاد عن الأقلية الثقافية والتماهي مع الأغلبية ظاهرة تعاني منها كل الأقليات حتى في البلدان الديموقراطية ( هنا في المانيا مثلا حيث يتكلم أبناء الأقليات العربية والتركية والإيطالية واليونانية مثلاً الألمانية حتى بلهجاتها المحلية ويرتدون ويأكلون ويرقصون ويغنون كما لو أنهم ألمان 100%)

فيما بعد صرت لا أرد على أي كلام بالآرامية إلا باللغة العربية مدعيا أنني لا أتقن الآرامية بصورة كافية ومع الأيام أصبح الإدعاء حقيقة والقناع جزء من بشرة الوجه. صرت شاميا قحاً وبالعريض الذي يتكلمه سكان أحياء الميدان والشاغور الشعبيـين.

غادرت دمشق في مطلع كانون الأول 1970 الى بيروت قبل طلبي الى الجندية بأيام وانتظرت في بيروت حتى آذار للسفر إلى ألمانيا.

 

*كيف أصبحت علاقتك كذاكرة على الاقل مع معلولا رغم انقطاعك ليس عنها فحسب بل أيضاً عن الشام كلها ؟

 

**في المنفى يزداد حضور الطفولة والشباب في الذاكرة وكأن الإنسان قد عاش كل شيء بسرعة تجاوزت قدرة إستيعابه ولذلك يعود كل شيء للوعي من جديد بفضل البعد الجغرافي والنفسي اليومي عن مكان الطفولة و أحداثها.

بدأت وبشكل آلي أسأل الأهل في كل رسالة تقريبا عن معلولا وعن دمشق حتى قالت لي أمي المرحومة يوما عندما زارتني في المانيا:” أنت تعرف عن معلولا أكثر من أهلها” وفعلا لم تبالغ فلقد بحثت هنا ولسنين طويلة عن كل بحث ومقال لمستشرق أو خبر رحالة ذكر معلولا. وتفاجئت لكثرة المواد مقارنة بصغر القرية. وبلغ الإهتمام قمته عندما وجدت المخطوط الذي ذكرته قبل قليل.

في هذه المرحلة اكتشفت في ذاتي كل ما أهدتني إياه معلولا من خبرة أقلية تاريخية، وحجر زاوية تلك الخبرة كان إحترام الآخر ليس ككرم خلقي بل كمقدمة ضرورية لعدم الإندثار، للبقاء (Surviving). وثاني تلك الهدايا الصبر. الصبر ليس بالمعنى الشائع وهو قبول السيء والخنوع بل بالمعنى الأصيل للكلمة أي الشجاعة والمقاومة بدون تبجح. هكذا كانت معلولا في كل محنها التي وصلت إلى حد الحصار الدموي ومحاولة الإفناء. معلولا كانت تحاصر عبر كل العصور واستمر ذلك حتى نهاية الثلاثينيات من القرن الماضي وآخر حصار عاشه والدي كطفل بعمر 10-11 سنة. ومن كان قائد الحصار؟ فوزي القاوقجي. ولماذا يحاصر من سيسمى لاحقاً في كتبنا المدرسية “بطل من أبطال فلسطين” قرية سورية آمنة في الجبال؟ لأنه حاصر وهاجم ونهب كل القرى على طريقه من حماة إلى دمشق وكان (انتصاره ) على الفلاحين العزل قد أوهمه أنه قائد فذ. معلولا كانت وقتها قرية غنية ومسيحية. وظن القاوقجي أن (انتصاره) على قرية مسيحية سيُسجل في أذهان أتباعه كانتصار على الفرنسيين الذين تحاشاهم. وما الذي كان يفعله القاوقجي في حماة وقبلها في حمص؟ كان هناك بمثابة اليد اليمنى للفرنسيين تكريما له منهم على “بطولته” في مقاومتهم!!.

مُني القاوقجي في معلولا بهزيمة شنعاء لبسالة نسائها ورجالها وهرب تاركاً وراءه شراذم (الوطنيين ) المغفلين والغوغاء الذين تبعوه عن حسن أو سوء نية، لقمة سائغة للقوات الفرنسية المحتلة التي تحركت من دمشق لمطاردته. ولم يطلق القاوقجي رصاصة واحدة بإتجاه الفرنسيين.

 

*ألا يوجد تناقض هنا … إذ لماذا يطارد الفرنسيون من كان أداة بيدهم ولم يطلق عليهم طلقة واحدة ؟

 

**طاردوه بعد أن أعلن عصيانه عليهم بتواطىء مع آخرين، وبتقديره العشوائي أن الفترة صارت مناسبة له ليتسلق سُلَم السلطة. كما تحالف وقتها الضابط المغمور والمطيع للفرنسيين حسني الزعيم مع النازيين وأعتقل وسجن. لا تنسى أن التنافس الوحشي بين فرنسا وبريطانيا من جهة والمانيا النازية من جهة كان على أوجه وكل طرف يحاول إستمالة ضباط عسكريين وشخصيات سياسية وإجتماعية لطرفه. وبنفس الوقت كانت هناك حرب سرية بين فرنسا وبريطانيا تحاول كل منهما إضعاف الآخر في الشرق.

 

*عندما تقول هذا عن القاوقجي ألا تعتقد أنك تصدم مستقراً جمعياً .. هل لديك أدلة عم تقول ؟

 

**عندما تبحث عن الحقيقة لا يسعك أخذ خاطر أحد. من جهة أخرى أضحى مجتمعنا مجموعة من الثوابت والمستقرات التي ترزح ككتلة رصاص على أكتافنا. أما آن الأوان بعد كل هذه الهزائم أن ننظر للأمور كما هي لا كما نشتهي أو بدقة كما يشتهي من يزور كل ما حولنا تاريخاً وحاضرا ومستقبلا. الإبتعاد عن الخرافة في حاضرنا وتأريخنا مؤلم لكننا ندفع يومياً عشرات الأضعاف من الألم والهزيمة نتيجة التعلق بها.

لم يصدق أكثر الزملاء أن هكذا بطل ليس إلا كذبة من كذباتنا التي سمرها التكرار الببغائي في ذهوننا. هنا في المانيا إستطعت – وأنا الباحث الهاوي – إيجاد معلومات تاريخية لا تقبل التأويل عن هذا المغامر عديم الخلق. ويمكن لأي باحث مبتدأ أن يكشف بسهولة التناقضات الكبيرة في السيرة الرسمية للقاوقجي خاصة في فترة تعامله مع النازيين وإقامته في برلين حيث كان يقيم في بيت أنيق وخصص له سائق خاص ودلل إستعداداً للدخول إلى سوريا والعراق لولا إن الهزائم انهالت على النازيين من العلمين إلى ستالينغراد وهو بذلك ليس أفضل من أي عميل للأمريكان في أيامنا هذه. في برلين اعتقله السوفييت أثناء القبض على كل حلفاء النظام النازي وسجنوه ولولا الواسطات الكثيرة ورغبة السوفييت في التوسع باتجاه الشرق لما أفرجوا عنه. في برلين دفن إبناه مجيد(1941) ونزار(1946) في المقبرة الإسلامية ولا يزال القبر هناك. هذا حديث ضروري لكنه طويل بأدلته الدامغة وقد يكون له مكان آخر. لكنني أدهش حين أقرأ “مقالات علمية تأريخية” في عام 2005 وعلى صفحات “الحوار المتمدن” تمجده معتمدة كلياً على مذكراته الكاذبة.

 

*هل تشعر أنك قدمت لمعلولا شيئا وانت ابنها الذي يحب.. ؟ هل بقي للآرامية التي نسيتها متعمدا صدى وتأثير عليك ؟

 

**معلولا أصبحت رمزا، وبعمل طويل لكنه لا يخلو من المتعة أعدت ولمدة سنة كاملة كتابة القصص المخطوطة كما أتصور أنها رويت وأضفت إليها قصة وحيدة عن السبب الذي جعل جدي يحمل البندقية ويحرس مدخل القرية 400 (أربعمئة) سنة. هي بالطبع قصة عجائبية لكنها لا تبالغ أكثر من القصص العظيمة التي روتها زينة شاعر وهي تعجن أو ترضع إبنها مثل حكاية الرجل الذي يحمل لمدة 9 شهور ويلد من خاصرته بنتا فريدة. هل هي أقل روعة من قصص غابرييل غارسيا ماركيس.

قصص معلولا هذه أصبحت اليوم في متناول كل القراء الألمان. وأظن أنه يمكن إيصال الكثير من تراثنــا، من جمال إنساننا، إلى القراء الألمــان فما أنا إلا شخص واحد لا يملك سوى قلمــه فما بالك بوسائل أكثر تأثيــراً كالفيلم وأنا أعتقد جازماَ أن فيلماً من المخرج الفذ عمر أميرالاي مثلاً بدقته وشاعريته وحساسية عينيه لدراماتيكية البناء الفني سيصل إلى آلاف المشاهدين بدل هذه المسلسلات البائخــة التي تشبه المسلسلات الأمريكية والتي لا تهم أحد.

بإجمال أخير يمكنني أن اقول: معلولا تحمل في طياتها الكثيرة عدة عوامل أثرت بي فاللغة الآرامية في هذه المنطقة الجبلية كانت ككل لغات الجبال قاسية، مقتضبة ومباشرة دون زخرفات جمالية بينما تحلت العربية بالرحابة الشعرية والمرونة في سبكتها وهذين القطبين في تكوين اللغة كانا يؤثران علي واليوم أكتب تحت تأثير قطبي جاذبية لغتين العربية والألمانية.

 

*بعد هذا الزمن المديد المنفى بعيداً عن الوطن كيف يتشكل الحنين لديك إليه … هل تكرهه ؟ تلعنه أحياناً…؟

 

**ولا ثانية واحدة. أحيانا يغص قلبي بالألم لما يعانيه أبناء وطني. لكن البعض يخلط بين الحكم والوطن ويعتبر أي نقد للحكم شتيمة للوطن. والحقيقة هي أن سكوتهم المدوي على الجرائم اليومية لنظامهم وهم في مركز إعلامه وثقافته هو مشاركة في الجريمة.

 

 

في الجزء التالي من الحوار يتحدث رفيق شامي عن بدايات مسيرته الكتابية  وعن بداية علاقته بالألمانية وبداياته في عالم النشر

 

 

 

الحلقة الثانيـــــة

 

 

 

ماذا ترك الحكام العرب للكتاب من صورة العرب لنشوهها

 

حاولت الـنشر بالعـربيـة فلم أفلـح ولـم تقتنع أي دار نـشر عربـيـة أن تنشر لي

تنبأت أن تدخل الجيـش السـوري في لبنان… سيجلب الويـلات لــ لبنان و سـوريا

لكي أتعلم الألمانية بشكل جيد قرأت الادب الالماني الكلاسيكي ونسخت كتبا كاملـة بيدي

سوق الكتب في أوربا لا تتحكم فيه قوانين السـوق.. والشعب الألماني يحـب القراءة جداً

تجاهلني النقاد فقررت الذهاب بنفسي لجمهوري ورواية قصصي له بشكل لا يعود فيه محتاجا إلا لتقييم عقله

نشرت حوالي 4500 صفحة. وأتحدى أي باحث أن يجد في كل هذه الصفحات سطراً واحداً مهيناً للإنسان العربي وللثـقافة العربية

 

 

 

البدايات: الكتابة .. النشر ..

*كيف بدأت مسيرتك الادبية في ألمانيا بشكلٍ عام.. وأنت في هذا المناخ الذي ذكرته.. وهل كانت اللغة الألمانية قراراً أم خياراً ..؟

 

**الأدب العربي كان برمته مجهولا يوم بدأت في أواسط السبعينيات بالنشر. بدايةً حاولت النشر باللغة العربية ولم أفلح في إقناع أية جريدة أو مجلة أو دار نشر بأخذ مقالة أو قصة لي بعين الإعتبار وظللت أكتب بالعربية في مجلات صغيرة طلابية يسارية أو فلسطينية (خاصة مطبوعات عشيرة نايف حواتمه). ثم بدأت شيئا فشيئا بالكتابة للصحف الألمانية وكانت ردة الفعل السلبية تتناسب طردا مع حجم ومركز الصحيفة.

ست سنوات عجاف مروا علي وأنا أحاول بصبر أيوب أن أقنع داراً عربية للنشر من المحيط الى الخليج وكان فشلي 100% وأغلب الصحف أو دور النشر لم يكلف نفسه حتى عناء الإجابة. وأذكر حتى اليوم ألمي عندما كنت أجلس وأتحدث بصدق مع نفسي وأرى بعيني مقدار الهزيمة. لكن الهزيمة التي تعلم أفضل من نصر يعمي البصر. أيقنت بيني وبين نفسي أن الحصار العربي لا يزول بمغادرة المكان، وليس هناك سوى حل وحيد: مغادرة اللغة. هذا هو السبب الأول في قراري البدء بالكتابة باللغة الألمانية وليس كما يصوره كاتب مصري عنصري على صفحات “أخبار الأدب المصرية” جالساً في أحضان أسياده وأصحاب لقمته في السلطة المصرية باصقاً على الكتاب المنفيــين. ليس هناك إنسان واحد يغادر لغته الأم طوعا. ولا حتى الحيوان. فقط المخابرات كانت تجبر إنساناً آدمياً جميلاً في سجونها أن يعوي كالكلاب أو ينهق كالحمير. هذه الحقيقة البسيطة تغيب عن أدمغة أعدائي فيزايدون – فاضحين أنفسهم – على “خيانتي وبيعي” للغتي الناحية الثانية التي شجعت قراري كان تشنج النظام في دمشق في أواسط السبعينيات بعد دخول الجيش السوري الى لبنان والذي عارضته بشدة وتنبأت مع الكثيرين أن هذا التدخل سيجلب الويلات للبنان وسوريا وقبل كل شيء للحركة التقدمية في المنطقة. وأنا أعتقد أن البعث السوري خسر عبر التدخل السافر في لبنان آخر أوراق توته الكثيرة. في تلك الفترة ازدادت المناوشات بين أغلب عرب المهجر وبين البعثيين السوريين. وازدادت في نفس الوقت مطاردة النظام لكل معارضة وقد تم ذلك بمعية وإشراف رفعت الأسد الذي يعرض الآن نفسه على البريطانيين والأمريكان “كالخبز الكاسد” لكي ينقذ البلد من “الوضع السياسي المتدهور” كما تعلن محطة إبنه التلفزيونية والتي بناها “بعرق” جبينه على قولة الذكي زياد الرحباني. أيقنت في نهاية السبعينيات أن لا عودة لي في القريب العاجل إلى سوريا. وأصبح جمهوري الوحيد ألماني اللغة إذ أن الأقلية العربية في ألمانيا صغيرة جدا حتى اليوم وكانت في السبعينيات أصغر، وقلة صغيرة من هذه الأقلية تقرأ كتبا. القرار لم يكن سهلا بالنسبة لي لكني كدت أختنق لتراكم مجموعات كاملة من القصص ومشاريع روايات ومسرحيات فوق صدري. صار شعوري في الغربة مريرا بالحصار وكأنني أعيش في دمشق. قررت أن أسلك طريقا معقدا لكنه بنظري اليوم بعد 25 سنة كان الطريق الوحيد. كنت وقتها بعد مرور حوالي سبع سنين أجيد الألمانية بصورة حسنة لكنني أردت الآن إقتحام القمة اللغوية الأعلى من كل القمم وهي الأدب ووجدت أن معداتي بسيطة تكفي كفاية تامة للقراءة حتى المعقدة منها خاصة وإنني ألم بالفرنسية إلماما جيدا جدا وبالإنكليزية إلماما بسيطا ( ست سنوات في المدرسة تحت إشراف مدرس مهترىء كان في شبابه ضابط صف في الجيش الإنكليزي وقد تركه الإنكليز عندما غادروا عمان كإنتقام من العرب). وقد مكنتني محبة اللغات واشتراكي في حلقات فلسفية أدبية وسياسية طلابية من اللغة أكثر لكن كل هذا ظل قليل الباع أمام ما كنت أريد الوصول إليه أدبياً، فأمضيت سنتين بدراسة جديدة يومية عنيفة لللغة الأدبية الألمانية الكلاسيكية والحديثة (حتى صعود النازية) أما الأدب الحالي الألماني فلم أعره إنتباه لأنه في حالة تراجع عبر موضات الحداثة وما بعد الحداثة وما بعد بعد الحداثة وبكلمة مختصرة الأدب الممل الذي لا يهم سوى الكاتب وحماته. ولكي اتعلم بدأت بكتابة ونسخ كتب بكاملها وكنت أقف عند الحيل اللغوية والتركيبات والصور الغريبة وتقنية المؤلف في بناء روايته أتمعنها أحاول تقييمها وإيجاد معادلها في العربية مرافقاً الدراسة العينية بالأطروحات العلمية النظرية عن فن الرواية. وأنا اليوم واثق أنني لم أتعلم لغة قط بالدقة التي تعلمت بها الألمانية منذ قراري في أواسط السبعينيات وحتى اليوم. ولا زلت يومياً أتعلم. وعبر التجربة أيقنت أن أي نص يغادر يدي عليه أن يكون من الناحية التقنية في مستوى أفضل الكتاب الألمان لأنني كرهت الشفقة التي يعامل المثقفون ونقاد الأدب الألمان بها بعض زملاؤهم الغرباء. ومنذ ذلك اليوم لا يخرج نص من مكتبي إلا بعد مراجعة دقيقة لصغائر اللغة المهمة أهمية كبائرها، فالحجر الذي تحتقره لصغره يفح رأسك. بعض الكتاب الألمان والمهاجرين يحولون شريكة حياتهم لسكرتيرة رخيصة الأجرة. لم أشأ أن أسلك هذا الطريق ليس لنبل زائد في أخلاقي بل لأن العمل بهذه الطريقة لم يكن مثمراً فالجدال مع زوجة يأخذ منحى آخر غير ذلك مع أخصائي لغوي أدفع له أجره بكرم لكي لا يترك شائبة لا يراها إلا من يتعلم اللغة مع حليب الأم وكمثال بسيط: حتى اليوم عندما أكون منهكا، يصلح إبني إميل أخطائي ضاحكاً خاصة وأن الألمانية معقدة في حرف التعريف “ال” الذي يختلف من المذكر(der) الى المؤنث(die)والحيادي(das) ويختلف معه كل التصريف ( الإعراب) والحيادي مصيبة تصيب كل أبناء اللغات الأخرى التي لا تستعمله فالطفل حتى ولو كان مذكرا أو مؤنثا يلزمه أل التعريف الحيادية. هناك أيضا إختلاف جذري بين اللغات في تحيـيد جنس كثير من الأمور التي تحيط بنا. اللغة العربية تميل حسب تقديري لتأنيث كل ماهو مثمر بينما تنزع اللغة الألمانية للتذكير لأنها لغة حديثة القواعد نسبيا بالمقارنة باللغة العربية. الشجرة والقمر والمطر والنهر والطريق الخ.كلها بالألمانية مذكر. المهم فكرة توظيف مساعد يعمل معي بشكل شبه يومي ساعدني جدا في الحفاظ على السلم والهدوء في الحياة العائلية وعلى إنتاجية كبيرة ونقاش يومي لكل أخطائي.

 

*متى استقر وضعك ككاتب في المهجر-المنفى؟

 

**مع نجاحي الذي أتى في نهاية الثمانيات، أستطعت ترجمة كل أعمالي المتكدسة منذ عشرات السنين إلى الألمانية وتقديمها للقراء بلغتي وأسلوبي. لكن هذا النجاح أتى بعد 13 سنة من البدء بالنشر. ففي 1976 نشرت أولى قصصي في المجلات والصحف.وفي 1978 نشرت أولى مجموعاتي القصصية بعنوان “أساطير أُخرى” وأول نجاح هز المجتمع الأدبي وحفر إسمي بشكل ثابت حتى في القواميس الأدبية وكتب اللغة المدرسية أتى في نهاية عام 1989.

 

*هل تعتقد الآن أن فترة 13 سنة لتكريس اسمك كانت فترة طويلة وانت تمكنت من الالمانية قبل أن تبدأ وكتبت بأسلوب خاص ومتمكن …إذاً لماذا استغرق وصول أدبك للقراء هذه المدة الطويلة في بلد حر ديمقراطي؟

 

**ليفهم القراء ظروف عملي في المنفى الألماني لا بد من شرح أوضاع سوق الكتاب الألمانية. وهنا يجب التنويه على أن المانيا بلد حرية وديمقراطية برلمانية بكل مؤسساتها لا تتدخل الدولة فيها ( أو المخابرات أو إتحاد الكتاب) بما ينتشر في السوق الثقافية ويمكن نشر أي شيء مع تحمل مسؤولية المنع من دوائر الأخلاق والقضاء إذا أخلت بالأدب أو كانت معادية للسامية أو محرضة لكره الشعوب والديانات الأخرى. لكن الجزء الأخير يطبق بصورة أقل مصداقية لأن القوانين صيغت بعقلية أوروبية لا تحترم شعوب العالم الثالث وثقافتها وهي هنا مطاطية ضبابية وليست صارمة. وقبل أن ننسى وننجرف مع الكره والسم الذي تبثه الدوائر القرضاوية المعادية للإسلام حقا والمدعية الدفاع عنه. دلت الإحصائيات في الأسبوع الماضي على وجود أكثر من 2000مسجد للمسلمين منها 141 بمنارة في المانيا. هذه المقدمة ضرورية لأن كثير من مثقفيي السلطة العرب يخلطون عن عمد أو غباء بين الوضع في البلاد العربية والبلاد المتمدنة والمتنعمة بالحرية ويلصقون تهماً سخيفة بكل المجتمع مع دولته إذا قام كاتب أو مغني أو رسام حقير عنصري بإهانة النبي العربي قاصدا إهانة المسلمين والعرب غير المسلمين معاً. سوق الكتب إذاً لا تتحكم فيه أو توجهه الدولة بل قوانين السوق الرأسمالية في البيع والشراء. والشعب الألماني شعب يحب القراءة جداً كما نوهت أعلاه وهذا يؤثر بشكل إيجابي وسلبي على الكتاب والكُتاب. إيجابي لأن الشعب الألماني يحترم الكُتاب ويقدسهم أحيانا ويأخذ مايكتبوه بعين الجد. ولكن بما أن السوق جيدة ومغرية إلى هذا الحد فإن دور العالم الغربي بأجمعه تلقي بثـقلها على الساحة الألمانية لتحظى بقطعة من الحلوى وليس من الصدفة بشيء أن أكبر معرض دولي للكتب في العالم هو معرض فرانكفورت السنوي في المانيا. هذا التهافت على السوق الألمانية يقلل بدوره فرص دور النشر الصغيرة والمتوسطة أمام جبروت دور النشر الكبيرة بوسائلها الدعائية غير المحدودة (تكلف الصفحة الواحدة للدعاية في صحيفة أو مجلة واسعة الإنتشار ما بين 20 و50 ألف يورو أو دولار). وليس صدفة أيضا أن تكون الكتب الأولى في المبيعات ترجمات لكتب احتلت في بلدانها المراكز الأولى في قائمة المبيعات. السوق الألماني يؤثر بدوره على الأسواق العالمية الأخرى فكل كتبي الناجحة في المانيا تم بيع حقوقها فور نجاحها إلى 20-23 لغة أُخرى بينما كتبي الثانية الأقل نجاحاً لم تجد إلا في لغات قليلة من يرغبها من الناشرين.

هذا التنافس المرير على السوق يسبب تراجعاً لإمكانيات الكتاب من العالم الثالث مقارنة بالكتاب الأوروبيين والأمريكيين. سوق الكتاب كسوق الفيلم مغري بأرباحه ويبلغ حجم تدواله التجاري السنوي حوالي 12 مليار يورو. فطبعة مليون نسخة من رواية ترمي حوالي 10 ملايين دولار أو يورو لدار النشر. فإذا أضفنا إلى ذلك حقوق الترجمة والفيلم والمسرح والإذاعة لأخذنا صورة عن المبالغ الهائلة التي يدور حولها التنافس.

هناك قائمة غير رسمية تجدول أهمية اللغات في ميدان الترجمة وتعتبر اللغة الإنكليزية الأهم على الإطلاق. هذا للأسف ليس رأيي بل الواقع ويترجم من الإنكليزية أطنان من الزبالة الثقافية ( وفي الأفلام بصورة أبشع فكل فيلم أمريكي من الدرجة العاشرة يتمتع بإنتشار أكبر من أي فيلم عربي، صيني أو حتى ألماني جيد) بينما تظل قافلة من الكتب الممتازة أمام الباب ولايسمح لها بالدخول إلى نعيم التداول الدولي. تحتل اللغة الإسبانية أيضا موقعا ممتازا ليس بسبب الأدب الإسباني بل لأن عباقرة الرواية الأمريكية اللاتينية فرضوا أنفسهم على السوق باقتحامهم قلوب وعقول القراء وغارسيا ماركيس يطبع من كتبه بالألمانية أكثر مما طبع في البلاد العربية في عشر سنوات. وهل من الضروري التأكيد عل أن كل رواية من مسلسل “هاري بوتر” تحتل ولأشهر المرتبة الأولى في كل الأسواق الأدبية العالمية. هذا وحده يلعب الدور الرئيسي في صعود أو هبوط لغة ما على هذه القائمة وليس دولة أو حزب ما.

 

*ماذا عن دراستك الاكاديمية .. هل كتبت فيها أم اقتصر الامر على الابداع الأدبي فقط ؟

 

** في البدايةكنت متأكداً من حتمية العودة لذلك قمت بترجمة أفضل كتاب للعمل المخبري في الكيمياء العضوية ألفه أخصائيون من ألمانيا الديمقراطية وكان الكتاب يُدرس في عدة دول أوروبية وقد كان مقرراً إلزامياً هنا في المانيا الإتحادية رغم العدائية غير المحدودة بين النظامين السياسيـين الذين وقفا كنقطة مواجهة للمعسكرين الرأسمالي والشيوعي آنذاك عند حائط برلين. وحصلت من الدار الألمانية في برلين الشرقية بعد حوار مكثف طويل على حق النشر مع تخلي الدار عن الرسوم ونصيبها في الأرباح لأملها الحصول على تقدير علماء الكيمياء العرب وبالتالي الصناعة الكيميائية العربية. ترجمت الكتاب الضخم الذي بلغ عدد صفحاته790 صفحة كبيرة ودقيقة بنفس الوقت، بعمل دؤوب طوال ثلاث سنوات وعرضته على حوالي عشرين دار نشر عربية دون مقابل وذلك ليس لأني قديس بل لأملي أن يسهل لي إنتشار هذا الكتاب الرائع أيجاد عمل كأستاذ للكيمياء. ولم أتلق خمس سنوات بكاملها إلا الرفض. يصعب على الإنسان دفن أحلامه أكثر من دفن أبنائه. لم أكل من المراسلة، لكن فشلي الذريع أجبرني على دفن هذا الحلم. وقد برر لي أحدهم أن السبب يكمن في أنني مسيحي والدار الناشرة شيوعية!! وكأن هناك كيمياء مسلمة وأخرى مسيحية أو كأن الذرات والروابط الكيميائية تتبع النظام السياسي وكأن أنظمتنا السياسية التي كانت تتعامل مع المانيا الشرقية أشد عداءً لها من المانيا الغربية. بعد ذلك ألفت مع زميلي الدكتور الياس الكبة كتابا عن الطاقة الشمسية وتطبيقاتها. ورفض الكتاب أيضاً بإجماع عربي فريد. هذه المرة كنا ندرك سلفا سبب الرفض. فلقد كنا معاً ولا نزال أعداء الطاقة الذرية بكل أنواعها سواء ما يسمى سلمي أوما يسمى حربي. ولذلك إحتوى الكتاب فصلاً عن مضار وخطر الطاقة الذرية. وأتت أجوبة الرفض مرائية كاذبة إلا أن صديقة لبنانية مدت يدها للمساعدة وتوصلت إلى إقناع دار الحداثة في بيروت لطباعة هذا الكتاب. فطبعه الناشر نسخاً عديمة الذوق وببخل منقطع النظير، وكنا قد طبعنا هذه الأوراق هنا في المنفى على آلة كاتبة بسيطة ويشهد الله بإصبع واحد أو إصبعين. صدر الكتاب عام 1982 تحت إسمي الحقيقي (د. سهيل فاضل) وإسم زميلي (د. إلياس الكبــة) ولم نر حتى اليوم قرشاً ولا كتاباً واحداً رغم رسائلنا العديدة سوى بضع نسخ انتزعتها الصديقة اللبنانية عند صدور الكتاب في طريقها إلى ألمانيا.من يومها توقفت عن إرسال أي شيء لدور النشر العربية. لكن دعنا هنا نقف معاً دقيقة حداد على وضع الكتاب العربي الذي يُحارَب في البلاد العربية أكثر من محاربة المخدرات. اليس من العار أن تنشر المانيا حوالي 80000 كتابا سنويا ويبلغ عدد سكانها 80 مليون (أي أن المانيا تنتج بمعدل 1000 كتاب لكل مليون مواطن (للمقارنة إسرائيل تنتج 600 والبلاد العربية أقل من 4 كتب لكل مليون مواطن) فإذا قلت ذلك إتهمني كتاب الدولة الثوريــين جداً بنزع صيت الوطن إذاً لنقف دقيقة أخرى حداداً على ضمير هؤلاء الذي مات بعد عبورهم بوابة البالغين أو بعد ذلك بقليل.

 

* لنعد بعد دقائق الحداد هذه إلى بداياتك في ألمانيا ..كيف كان المناخ العام الألماني في فترة وصولك إلى المانيا وبداية اشتباكك مع الرأي العام الألماني وكيف كان نشاطك ( السياسي ) في هذا المناخ الذي أصبح غير مؤاتياً -كما يعلم الجميع- لتفهم القضايا العربية ؟

 

**اتجهت إلى المانيا الإتحادية ولم يكن بعلمي أن ما ينتظرني هنا معقد إلى هذه الحدود، فالشعب الألماني من أكثر شعوب العالم محبة للقراءة وما يجهله الكثير من مثقفينا المولعين بفرنسا أن المانيا كانت قبل أن تصبح مركز للإختراعات والتصنيع بلد الفلاسفة والشعراء. وحتى اليوم يتمتع الكتاب في المانيا بموقع فريد وسوق الكتاب أفضل سوق عالميا مما يزيد المنافسة.

ما أدهشني عند وصولي وتمكني من اللغة هو جهل الألمان الشبه تام بالبلاد العربية والثقافة العربية وعدائية شديدة لكل ما هو عربي. الجهل نتج عن عدم تعاطي الألمان كشعب مع مستعمرات كالشعب الفرنسي أو الإنكليزي رغم تزايد أبحاث المستشرقين الألمان في القرن التاسع عشر في خدمة الإمبراطورية الألمانية وأطماعها في الشرق لكن هكذا أبحاث ظلت في الإطار الجامعي أو استعملت في وزارة الخارجية أما تأثيرها على الشعب فظل يقارب الصفر. الحكم النازي الذي استمر 12 سنة فقط ألقى بالمجتمع الألماني ثقافيا عشرات السنين إلى الوراء. أضف لذلك الجريمة الشنعاء بقتل ما يزيد عن 6 ملايين يهودي و20 مليون إنسان من الإتحاد السوفييتي. رزح الألمان عن حق ( وليس ظلماً كما يتبجح بعض السفهاء وعديمي الضمير) تحت كابوس هذه الجريمة التاريخية ونتج عن ذلك مراجعة نقدية وحوار لا يرحم يدور حتى اليوم عن التاريخ والمسؤولية وأنا لا أظن أن شعبا من شعوب الأرض فعل ذلك بعقلانية وشجاعة كالألمان. أريد التذكير فقط بجرائم إسرائيل التي ترتكبها يوميا ضد الأطفال الفلسطينيين وليس فقط على يد شارون. أريد أن أذكر بجرائم الفرنسيين التي ارتكبوها في مستعمراتهم وخاصة الجزائر وفيتنام وهم يشيرون بغرور لاتاريخي وعديم الضمير الى فظائع الشعوب الأخرى. وما الذي يفعله الأمريكيون لفهم تأريخهم الدموي تجاه السكان الأصليين في قارتهم والذين أفنوهم في البدء قتلاً ومرضاً وفيما بعد كذباً وتزويرا؟ ما الذي يناقشه الإسبان أو اليابانيين أو الصينيـين عن تأريخهم؟ من من العرب يعتذر عن مذابح قام بها أسلافنا تجاه شعوب أخرى وأولها الإفريقيون؟

هذا الإتجاه الخِيِر الشجاع في المانيا قابله إتجاه رخيص جبان في التخلص من عبء التاريخ بالتماهي مع إسرائيل وأمريكا. وقد قامت الحكومات الألمانية بكل أطيافها الحزبية بالإرتماء أمام إسرائيل متعامية ومعادية للعرب وحق الفلسطينيين الشرعي بوطنهم. وتبع الحكومة جيش إعلامي رهيب يفرح ويطنطن لهزائم العرب ويفرح لانتصارات إسرائيل وكأنها إنتصارات يحققها الجيش الألماني. وانقلب النازيون عن خبث إلى أفضل أصدقاء لإسرائيل وتبعهم معاديي النازية وحتى أشرف شرفائهم مثل المستشار فيلي برانت والذي قاوم النازية منذ نشأته وحصل فيما بعد على جائزة نوبل للسلام. ولم يكن شيئاً إستثنائياً أن تصادف شيوعي أو ديمقراطي أو ليبرالي أو حتى محافظ يؤيد كل حركات التحرر في إفريقيا وآسيا ويرفض أي نقد لإسرائيل.

للأسف لم تقدم الجهات الرسمية العربية في 35 سنة عشتها أنا في خضم العمل السياسي الذي كان يلاحقني بدل أن ألاحقه إلا صوراً تزيد من قناعة مؤيدي إسرائيل. السفارات وأتباعها كانوا – ولا زالوا – يتصرفون بشكل تسأل نفسك معه هل تمول إسرائيل هؤلاء ليصبوا زيتاً فوق النار بحمق فريد من نوعه. لذلك كان هؤلاء الأغبياء يجبروني وأصدقائي على الوقوف علنا وبعقلانية مع الشعب الفلسطيني رافضين الإرهاب بكل أنواعه وأولها إرهاب الإحتلال والديكتاتورية وأيضاً وبدون لف ودوران رفض قتل المدنيـين الأبرياء. وكان علينا العمل بإستمرار لتغطية الأسئلة المطروحة وبنفس الوقت توضيح الحدود الفاصلة بيننا وبين الشوفينيــين العرب – الذين لم يخجلوا أحيانا من إتخاذ مواقف معادية للسامية كانو يطرحونها للملأ بلغة ركيكة تزيد الطين بلة- كنا أيضا مجبرين على توضيح الحدود بيننا وبين اليسار الألماني ذو العقلية المتحجرة التابعة للسوفييت آنذاك أو المركزية الأوروبية ( يوروتسنتريزم).

 

*كيف كانت تجربتك الخاصة في مجال النشر في ظل هذه الظروف الصعبة التي ذكرتها وانت الكاتب القادم من العالم الثالث وغير المعروف أساساً.. كيف تيسر لك أن تتجاوز كل هذه العوائق ؟

 

**عندما هممت بالكتابة في المانيا كانت الموضة السائدة في الرواية الألمانية هو ماسمي بتعجرف “ما بعد الحداثة Postmoderne” ( وفي البلدان المرفهة موضات للأدب والموسيقى كما للثياب. أما ما أراه في الفضائيات والصحف والمجلات العربية فهو ليس الموضة بل تقليدها والفرق شاسع كذلك بين السيد وعبده)

“ما بعد الحداثة Postmoderne” هو أسلوب بناء رواية دون قصة ودون تشويق. وهي كما وصفها الفيلسوف والناقد الأدبي الفرنسي جان فرنسوا ليوتارد “نهاية القصة الكبيرة”. وقد شجع النقاد وأساتذة الأدب الألمان بكل قواهم هذا الإتجاه ليتصدر الصحافة والمحافل الأدبية. لكن جمهور القراء رفضه للملل الكبير الذي يسببه كتاب يتحدث فيه الكاتب بلغة معقدة ليظهر للقارىء مقدار ذكائه عن لا شيء سوى مشاكله النفسية أو مشاكله مع أمه أو أبيه. هذا الوضع الذي يعترف الجميع اليوم أنه سبب أكبر هزيمة للأدب الألماني المعاصر الذي تراجع دوره بصورة كارثية وهو قريب في تأثيره السلبي إلى تأثيرالنزعة الخطابية في الأدب العربي اليوم لم يعد أحد من العقلاء ينادي بما بعد الحداثة لكن في أواسط السبعينيات يوم بدأت بأولى محاولاتي للنشر كان هذا الإتجاه أكبر عائق لي. ليس فقط لأنني عربي وليس أيضا لأنني بنظر بعض الألمان الشوفينيين “أتعدى” على لغتهم وقد قال لي أحد الأدباء الذي حسدني “لو أردت تسلية الجمهور مثلك لأستطعت كتابة رواياتك باليد اليسرى وأنا سكير.أنت لاتجيد الألمانية. تعلمها أولاً ثم حاول كتابة قصة حديثة.” وكنت قد قرأت نفس الشتيمة الذي وجهها أحد الشوفينيين الإنكليز للكاتب جوزيف كونراد البولوني الأصل والذي عاش وكتب روائعه في إنكلترا. وهو بالمناسبة معلم كبير أدين له بالكثير. أجبت ذاك الزميل في إتحاد الكتاب الألمان: ” حاول أولا أن تكتب قصصا شبيهة بما أكتبه بيدك اليمنى وأنت صاحٍ. أنا أعرف أكثر منك مواطن ضعفي في اللغة الألمانية وسأحاول السيطرة عليها لكن دعني أعطيك وظيفة أمام الحضور فسأقول لك جملة عربية واحدة وأكتبها لك وسأعطيك مدة سنة حتى المؤتمر القادم للإتحاد فإذا استطعت لفظها وكتابتها دون خطأ سامحت سماجتك” ضحك كثيرون عليه إذ أنهم يعلمون أن الألماني لا يستطيع حتى بعناء شديد لفظ بعض الأحرف العربية مثل ح ظ و ط وع.

في تلك المرحلة باءت أكثر من خمسين محاولة لنشر أولى مجموعاتي القصصية بالفشل لكن على الأقل كنت أحصل على جواب رفض مؤدب وإن كان تبرير الرفض على الأغلب كاذباً. لكن حتى هكذا جواب لم أحصل عليه من أية دار نشر عربية من كل أنحاء الوطن العربي واللذين رجمتهم بدون رحمة بإنتاجي الأدبي إلى أن أيقنت أنهم لا يستحقون حتى كلفة الطوابع البريدية. لأن من أرجمه لا شيء، خيال صحراء على قولة فيروز. كان وضعي في المانيا يشبه وضعي في دمشق مع فارق أساسي أنني هنا فقدت الخوف وكنت أروي وأحاضر كلما دعيت إلى نقاش دون أن يكون لي كتاب واحد قد نُشر، وخلال إحدى هذه المحاضرات في مدينة كاسيل شمال ألمانيا عرض أحد الحاضرين علي نشر القصة التي رويتها وهكذا بدأت قصصي بالظهور في دور نشر صغيرة جداً وبطبعات صغيرة لكنها كانت بالنسبة لي دفعة جبارة للأمام. هذه الدور الصغيرة الحيوية والمثالية التوجه انهارت أو بلعت أغلبها من دور نشر كبيرة وهي سائرة للإنقراض، لكن دورها في اكتشاف الجديد، الجريء الذي لا يسبح مع التيار لا يزال عظيماً إذ أن الدور الكبيرة لا تغامر بجهازها الضخم الكثير التكاليف. وقد قال لي أحد مدراء هذه الدور الكبيرة إنه مصاب بلعنة النجاح إذ أنه يحتاج في الموسم لكتاب في سدة قائمة المبيعات وإلا أفلس.

ظهرت لي على التوالي مجموعات لقصص عجائبية أسطورية خيالية ” الخطاب الأخير للجرذ المتجول”، “العبور الأول لخرم الإبرة”، “الحمل في ثوب الذئب” , وكتاب ضاحك ساخر لقصص شامية ” حلاب الذباب” وكتاب “أساطير معلولا” الذي ذكرته سابقاً. لى جانب الفرح الذي ملأ قلبي لإختراقي جدار الصمت المطبق حز في نفسي أن دور النشر الصغيرة لاتستطيع أن تؤثر على النقاد ولا على بائعي الكتب. وبهكذا وضع يظل وصول الكتاب الى يد القارىء عسير في بلد تطبع سنوياً من70 إلى 80 ألف عنوان جديد تنضم إلى مئات الألوف التي تحتويها مخازن ولوائح بائعي الكتب أو الموزعين. فتجار الكتب يقعون تحت سيطرة دور النشر الكبيرة التي تدفع أجراً لإحتلال أفضل مكان في دار بيع الكتب وهي الأمتار المربعة الأولى عند المدخل والواجهة حيث تملأها بكميات هائلة لافتة للنظر من إنتاجها الجديد. أما كتبي وكتب آلاف الكتاب من المانيا والعالم فبالكاد تجدها على الرفوف وكلما كان الكاتب غريــباً كلما صار تصنيف كتبه أصعب بالنسبة للعاملين في المكتبة. كم من مرة وجدت كتبي بين كتب الزراعة في العالم الثالث وأبحاث عن الآثار المصرية أو كتب إقتصاد العالم الثالث.

 

*هل كان الأدب هامشاً مثل اغلب الكتاب العرب، بمعنى ماذا كنت تعمل أثناء الفترة التي لم تكن فيها معروفاً ولم يحقق لك الأدب دخلاً.. هل عملت في اختصاصك العلمي؟

 

** بعد تخرجي بدرجة دكتوراة في الكيمياء مع إختصاص إضافي في الأدوية وفشلي في الحصول على عمل في عدة بلاد عربية ( رشحت نفسي لوظائف في الكويت واليمن الجنوبي آنذاك والجزائر أعلن عنها هنا في الصحافة العلمية ورفض طلبي والحمد لله.) عملت من سنة 1979-1982 في شركة كبيرة للأدوية. وفي ربيع 1982 قدمت إستقالتي وقررت التفرغ للأدب مهما كلف الأمر.

وبما أنني صرت أعيش كل يومي متفرغا نهائيا للعمل الأدبي ولإيصاله للقراء إذ لا معنى لأدب لا يصل لقرائه. صرت أراقب وأبحث وأسجل كل خبرتي في دفاتر عمل دقيقة وقاسية الحكم على الآخرين وعديمة الرحمة تجاه ما أقوم به (مقلداً بذلك برتولد بريشت الذي كان آنذاك أكثر أدباء المانيا تأثيراً في نفسي وقد التهمت كل ما كتبه حتى ملاحظاته على قصاصات الورق وقد كان عديم الرحمة مع ذاته والآخرين) وكنت أرجع بين الفينة والفينة إلى هذه الدفاتر لأقرأ وأراجع خططي على ضوء التجارب. بعد سنة أو سنتين اكتشفت عبر مراجعة الخطوط البيانية للمبيعات والتي يحسبها الناشر أسبوعيا ولا يهتم بها معظم الكتاب، إكتشفت بما لا يمكن لتكراره أن يكون صدفة بأن مبيعات الكتب تبلغ ذروة في المدن التي حاضرت بها ولفترة قصيرة لتعود مجدداً الى مستواها العادي المنخفض. لذلك قررت الإنتقال من الدفاع والإنتظار إلى الهجوم. قررت أن أتجاوز صمت النقد الأدبي اللامبالي أو العدائي في موقفه تجاهي والحصار الدعائي للدور الكبيرة. قررت أن أذهب بنفسي لجمهوري وأروي له قصصي بشكل لا يعود فيه محتاجا إلا لتقييم عقله وبالتالي قد أستطيع جذبه لكتبي رغم فقري وفقر دور النشر الصغيرة. وقد ساعدتني طريقتي في الرواية على ذلك.

 

فاصلة كـ مقهى:

* كونك تحمل دكتوراة بالكيمياء لم لا اشاهد اسمك مسبوقا بحرف الدال على مؤلفاتك كما يفعل الدكاترة العرب (والدكاترة هنا جمع دكتور وليس دكتاتور)؟

 

**لقد توقفت عن كتابة د قبل إسمي من يوم سمعت أن رفعت الأســد وصابر فلحوط وبهجت سليمان وغيرهم صاروا دكاترة فقلت في نفسي لا أريــد أن يشبه إسمي في أي أقسامه أعضاء هذه الجمعيــة للرفق بالحيوان وتمسيح الأرض بالإنسان. هكذا إسمي “حاف” كما يقول أبناء حارتي أفضل.

 

الوطن .. العرب .. النظرة لكتاب المنفى

 

*الشرق كما يريده الغرب هكذا قيل عن كتاباتك من بعض الكتاب العرب المقيمين في الغرب مثلك أيضا. هل يمكن ان نصف هذه المقولة بأنها تلامس شيئا من الحقيقة ؟ أم أنها لا تعدو تدوير لخطاب الانظمة الشمولية الالغائي وتالياً لا يجد حزب اعداء النجاح سوى هذه الثغرة ليبرروا عجزهم عبر لعن نجاح الاخرين، أم انها رؤية نقدية تمثل خلاصة قراءتهم لك وتمتلك مشروعية تسندها من خلال اعمالك ؟

 

**قد تكون أفضل إجابة على هذا السؤال هو الجملة القصيرة: إقرأوا وأحكموا على المكتوب. لكنني قررت أن يكون جوابي لك ولقرائك شاملا لمعلومات أولية عن طبيعة وظروف الكتابة والنشر في المانيا لا تعرفها الغالبية العظمى من القراء العرب. وقبل البدء في الجواب، لي أن أتساءل ساخراً على طريقة أهل حي العبارة الدمشقي الذين أدين لهم بالكثير: يا أحبائي قولوا لي ما الذي تركه حكام العرب وأجهزتهم وأقلامهم وفضائياتهم  لنا – كتاب المهجر والمنفى – من صورة للعرب لكي نزيد فيها تشويها كما يريد الغرب؟

هل يحتاج المواطن الغربي لصور أكثر من نماذج الحكم العربية الطاغية والتي لا يمكن حتى لعباقرة الكاريكاتور أن يصوروا أسوأ منها؟ نتائج إنتخابات 99% و15 جهاز مخابرات لمراقبة وتعذيب 1% من الشعب.

هل إخترع أحد الكتاب المنفيـين قصص المافيا العربية التي تضج بها صحافة الغرب والمأخوذة مباشرة من الواقع حيث تقوم المافيا بحراسة ورعاية مخابراتها ومثقفيها بسرقة دم وكنوز وعرق الشعوب العربية؟

هل هناك إذا إستثنينا إفريقيا منطقة يعاني فيها الِكتاب والكتُاب وضع أسوأ منه من البلاد العربية؟

هل هناك كاتب عبقري يمكنه أن يقديم صوراً للفقر المدقع في البلاد العربية فوق بحر البترول أكثر إيلاماً من عدسة تلفزيونية تتجول ببراءة أو خبث في مدن وريف العروبة؟

هل قام كاتب مهجري أو منفي واحد عبر التاريخ بالمذابح التي تمارس يوميا بين أبناء البلد الواحد أمام عدسات صحفي العالم؟

هل هناك أخصائي عالمي يمكنه بسرعة الأنظمــة العربية قلب الحق إلى باطل وتحويل النقد على كاريكاتورات عنصرية لنقد الإنســان العربي الذي يحرق سفارات ويمزق بهستيرية أعلام؟

هل هناك منطقة في العالم تعاني فيها المرأة ( نصف المجتمع وأم الحياة) ما تعانيه المرأة العربية؟

هل أسس كاتب واحد مهجري أو منفي سجناً واحداً من آلاف السجون للمعارضة التي يعرفها العالم والتي يخفيها الحكام عن شعوبهم؟

هل يستطيع أي قارىء جاد أن يدلني على بلد عربي واحد يعيش شعبه في نعيم الحرية والديمقراطية مترفها بها ككل شعوب العالم المتمدنة؟

هل أمر كاتب مهجري واحد بتفجير طائرات ليدفع بعد ذلك مليارات للتعويض عن فعلته راكعا أمام جبروت الغرب؟ هل دمر كاتب منفي مدينة آمنة ليعاقب مقاومين إسلاموين؟ هل إقترح أحدنا إلقاء قنابل غاز سامة على إخوتنا الأكراد في مدينة عزلاء؟

هل باع واحد منا الشقاء الفلسطيني ليصبح مالكاً للفنادق والكازينوهات وليسكن في أغلى الشوارع الباريسية بينما يجوع أطفال جنين وغزة؟

هل تزلف كاتب منفي واحد كما يتزلف أفراد العشائر الحاكمة في لندن وباريس وبرلين لراقصة من الدرجة الثالثة (فيها كمية سيليكون أكثر من لحم) ويعرضون عليها أمام الصحافة علناً الملايين من أجل ليلة ؟ بينما يسير أبناء شعبنا حفاة أو يحتذون الشحاطات البلاستيكية المثيرة للشفقة.

هل يلزم الإستمرار بعد بطرح مزيد من الأسئلة عن المتبقي من صورة للعرب؟

لا أظن.

إذاً لما يتعرض كتاب المهجر والمنفى الناجحين لهجوم غبي مستمر منذ أيام جبران خليل جبران حتى اليوم؟ إن ما قرأته عن إدوارد سعيد، الطاهر بن جلون، أمين معلوف وعني يكفي لعمل فيلم وثائقي عن إنحطاط القيم الإنسانية في مجتمعنا وعن الدرك المنخفض الذي وصل اليه التعامل مع الآخر. كما وعن النفس المهزومة.. الذليلة التي لا تثق بأن أبناء جلدتها قادرين بذكاء وعمل دؤوب وفي مناخ ديمقراطي على إقتحام كل القمم الفنية والمهنية.

هناك قول مأثور في الألمانية بما معناه: يمكن أن يغفر كاتب أية خطيئة لكاتب آخر إلا نجاحه. قد يغري التحليل السريع للواقع بالقول: أن كارهي كتاب المنفى والمهجر لا يرفعون أصواتهم علناً (وسآتي فيما يتبع على أنواع أخرى من حروبهم) إلا ضد الناجحين من الكتاب ولا يهتمون بجيوش جرارة من الكتاب المغمورين في المنفى والمهجر. لكن الحسد ليس السبب الوحيد لكل هذا الهجوم ولإستمراريته رغم كل الهزائم الذي يمنى بها أعداء الكتاب المنفيين.

 

*هل لنا أن نعود إلى التخصيص وتحدثنا عنك أنت من واقع تجربتك الشخصية ؟

 

**هذا ما أردت الوصول إليه، سأذكر لك لمحة عامة عن مجمل نتاجي الأدبي. إذ يبلغ مانشرته حتى اليوم 25 كتاباً ترجمت في غالبها الى 23 لغة ما عدى العربية، والى جانب الكتب نشرلي عدد صغير من المسرحيات ومئات المقالات السياسية الثـقافية. يبلغ الحجم الكلي لما نشرته حوالي 4500 صفحة تقريباً. وأنا أتحدى أي باحث أن يجد في كل هذه الصفحات سطراً واحداً مهيناً للإنسان العربي وللثـقافة العربية. وهذا ما يلمح له القول الضبابي سيء النية “الشرق كما يريد الغرب رؤيته”

وكأن الغرب كتلة واحدة بإمرة قيادي واحد لا يعرف سواه الحقيقة. أيديلوجيي الكره وأقلامهم يعرفون أنهم يكذبون. لكن هذه التهمة الضبابية لم تكن الأولى. كان أول وأروج التهم في الماضي ومازال حتى اليوم بعض الأغبياء يروجها، التهمة التي تقول أن الصهيونية والإمبريالية وراء نجاح هؤلاء الكتاب المنفيين. وقد كتب أحد السفهاء قبل فترة في غمار شتائمه على الطاهر بن جلون أن هؤلاء الكتاب يربون بعناية من الدوائر الغربية ليطلق لهم العنان في اللحظة المناسبة. قد يضحك بعض القراء لمثل هذا التجريم المبتذل. لكن النظر اليه بإمعان أفضل من الضحك. يطلق هذا التعيس هذه التهم الخطيرة ليس كمبادرة للحوار بل كتحريض جبان على قتل من يهاجم. في الأحوال المعتادة تصدر هكذا إتهامات من أناس لا يعرفون سوى نظام القمع حيث يهتفون بالدم بالروح نفديك يا فلان” والرعاع يشكون بكل من لا يهتف. لكن من يكتب مثل هذه الجمل يحمل أحياناً درجة دكتوراة ويعيش في باريس فهل هذا تناقض؟ جوابي: لا، فالرعاع تطوروا أيضاً وفي زمن المافيا قد يتبوأ أحدهم منصب أستاذ جامعي أو وزير.

لكن بعد أن أصبح أغلب الحكام العرب ومثقفيهم- وليس الكتاب المنفيين- يلهثون وراء المصالحة مع إسرائيل والإرتماء في أحضان أمريكا بهت لون تهمة العمالة لإسرائيل والإمبريالية. وأخرج الحاوي من كمه بيضة أخرى ليعلن للملأ: هؤلاء الكتاب الناجحون يكرهون أوطانهم، قالها لي أحد أتباع البعث في مدينة هامبورغ وأكد بصوت عالي وبالمانية ركيكة لو سمعها غوته لعزف في حياته عن التأليف أنني مع إدوارد سعيد وأمين معلوف لم نكن لنحلم بهكذا نجاح لولا أننا أهنا الوطن الأم . أجبته بهدوء أمام الناس لنترك الكتاب الآخرين بسلام رغم أنني قرأت أغلب ماكتبه أمين معلوف وإدوارد سعيد وأنا أكن للكاتبين محبة وإحترام كبيرين رغم الاختلاف في الرأي على بعض النقاط. رجوته أن يسمي الكتاب الذي كتبته أنا أو السطر أو الجملة التي أهنت بها وطني. وبالمناسبة قلما يحضر أبناء الجالية العربية الندوات الأدبية لذلك كنت ولا أزال أفرح بكل عربي يأتي إلى محاضرة لي. وظننت بادء الأمر أن الأخ يريد إثارة نقاش جميل بمبالغة مسرحية تحريضية يعني عكسها.  وقد قام بذلك مرة أخ من المغرب ذكي جداً في محاضرة لي بميونيخ وكان صاحب نكتة وفنان مرهف الحس. أخونا العربي حامي الديار وقف – وهذه أيضا نادرة – ليتبعج بقوله أنه لا يقرأ كتبي. ولما سأله أحد الألمان بإحترام “عفوا أيها السيد، كيف تحكم على كتب أنت لم تقرأها؟” أجاب منقذ الوطن:” صديقي الألماني قرأها وقال أنها كلها مسبات على حكومة بلدي. إنفجرت القاعة ضحكا وحزنت لهذه البهدلة التي ألمت بنا والتي لا تستطيع سفارة إسرائيل أن تقوم بأفضل منها. وعلى مناسبة إسرائيل. في 35 سنة منفى لم يحضر مسؤول ثقافي عربي واحد محاضرة لي أو لزملائي العرب في المهجر الألماني. ما الذي يفعله هؤلا في السفارة الى جانب كتابة التقارير عن المغتربين؟ غسل سيارتهم في عطلة الأسبوع تماهيا مع جوارهم إذ تعتبر السيارة النظيفة دلالة على نظافة المالك عند الطبقات الدنيا في المانيا، ولم أر أبناء جالية أخرى أجنبية يهتمون بماركة سيارتهم وبغسلها كالعرب. وكم إمتعض بعض العرب أنني لا أسوق المرسيدس.

عندما يأتي كاتب إسرائيلي أو يهودي حتى المعادين منهم للصهيونية كالشاعر الراحل أريش فريد(Erich Fried) أو المؤرخ إيلان بابه(Ilan Pappe) أو معارضين أشداء لشارون مثل إتكار كيريت) (Etgar Keretأو الممثل والمخرج الذائع السيط وودي ألن(Woody Allen)وغيرهم.تتسارع الأقلية اليهودية للإحتفاء بهم وللحوار معهم والتعريف بهم عبر كل الوسائل. لماذا لا والصراع الثقافي برأيي أهم أنواع الصراع؟ ألم يقل إسكندر المقدوني “أحب أعدائي لإنهم يظهرون لي أكثر من الصديق مواطن ضعفي”؟ فهل تعلم القائمون على الثقافة العربية من عدوهم شيئا خلال 50 سنة؟ الجواب الصادق: لا.

كم تأثرت عندما دعاني بيت الأداب الجميلة في مدينة شتوتغارت مع صديقي التشيلي أنطونيو سكارميتا الذي رافقنا في المنفى بعد إنقلاب بينوشيه الدموي الفاشي وعاش هنا في المانيا15 سنة ليعود الى وطنه تشيلي وليصبح بعدها سفير بلاده في برلين. وكان موضوع الحوار “الوطن عن بعد وقرب”. وأتى أنطونيو مرحاً متواضعاً جميل الخلق كعادته رغم نجاح فيلمه ساعي البريد (il Postino) عالمياً وهو تحية حب لبابلو نيرودا. وإمتلأت القاعة وكان اللقاء مثيراً للألمان وتجربة فريدة لنا معاً ونظم أبناء الجالية الأمريكية الجنوبية بمساعدة سفاراتهم حفلة شرف مرافقة لنا بالطعام والشراب. العرب الرسميين؟ تألقوا بغيابهم.

 

*هل يهتم رفيق شامي بمثل هذه الأقاويل أم لا يأبه لها ويردد لهم دائماً: اقرأوا أولاً ثم احكموا .. ولماذا يتكاثر حولك القوالون أو الذين يحاولون إيجاد تفسير لنجاحك وشهرتك خارج نتاجك الأدبي إذاً ؟

 

** بما أنني أعرف تأثير مثل تلك الأحاديث كنت أتركها جانباً لأهتم بعملي إذ ما سيبقى مننا إن سمح أغبياء الأرض لها بالبقاء إنما هو مساهمتنا في تقدم الإنسانية وليس ما قاله هذا الحاقد أو ذاك العميل لسفارة. ولا آبه لـفلان قال وعلتان شكك. كتابي عن الشاعر غوته وعن ملك عربي حكيم صدر في عام 2005 بالعربية عن دار النشر الشجاعة (منشورات الجمل) دون حذف أية كلمة. وستتبعه روايتي “يد ملؤها النجوم” وهي مذكرات شاب يانع لثلاث سنوات في دمشق. لكنني واثق أن أعداء الإنسان لا يقرأون المكتوب بل ما في رؤوسهم وهم في ذلك نسخة عن الطاغية العربي. وبعد مراقبة 30 سنة أستطيع بإيجاز تصنيف أعداء أدب المنفى وبالتالي أدبي إلى مجموعتين:

المجموعة الأولى وهي على الأغلب من العرب تحقد على كل من يخرج عن وعلى القبيلة ولا يموت. هكذا علمتهم القبيلة وشيخها. أن الحياة في ظل القبيلة وتحت رحمة القائد الأوحد كانت وما تزال بنظرهم رغم قرفها الطريق الأوحد. وهذا بالمناسبة أحد أشد الأمراض فتكاً بمثقفينا. فأحدهم يجادلك في هيغل وماركس وتظن أنك تتحدث إلى وريث أبي ذر الغفاري أو إبن عم إرنستو الغيفاري وفجأة ترى الأستاذ يجلس مع لواء المخابرات بهجت سليمان أو يدافع بخجل عن رفعت الأسد الذي يلقب نفسه بالدكتور والذي تعيد قناة إبنه  ANNبالطريقة الكاذبة المعهودة خبر إنتظار الجماهير السورية وترقبها لعودته. وأنا من هنا أتصور بخيالي المحدود الجماهير خلف نوافذها تترقب بفارغ الصبر وصول الحرامي الكبير ليسرقها من جديد ويقتل أبناءها ويمسح أنفها بالوحل إذ أن الجولة الأولى لم تكفيه بعد.

هؤلاء المثقفين وكتاب السلطة هم أول من يشعر بزلزلة كل مفاهيمهم وكل ثقتهم بأنفسهم عندما يرون أن بعض كتاب المهجر والمنفى وصلوا إلى تحقيق أحلامهم بعرق جبينهم ودون أن يركعوا لأحد. وبما أنهم رغم كل مزايداتهم لا يؤمنون بالحرية وبالإنسان المبدع فلا بد من إيجاد تفسير تآمري للنجاح والتفسيرات التآمرية تنتج بمجملها عن نفسيات مقهورة وتميل إلى المبالغة ظانة أنها بذلك تفسر هزيمتها بشكل أفضل. هؤلاء يجدون ويا للمفارقة الرهيبة سندا لهم في صفوف اليسار الشوفيني الألماني المهزوم أيضاً.

هناك فئة أخرى عربية بدائية وكانت خطيرة في الماضي، لكنهم حاليا ضعفاء إلىحد الرثاء وهم اتباع السفارات العربية مباشرة وبالمعاش الشهري هؤلاء أقل حساً من أن يقرأوا أي شيء وكان لهم الدور القديم في محاربتنا سراً بالتهديد الجسدي المباشر أو بكتابة التقارير التي تفشى أمرها أحياناً عبر معاملة السفارة السورية لنا وكأننا أعداء الوطن وأحياناً أُخرى عبر حديث معتقل رحمته الحياة بالنجاة وأطلعنا عن أخبار المخبرين الأشاوس في مدن المانيا الذين لا يفتحون أفواههم في مواجهة الدعاية الصهيونية أو العدائية الغربية للثقافة العربية بل يتركون الساحة لنا. وكتبت مرة عنهم: لقد ظنوا الصمت ذهباً وقلدوا أفواهم به.

تهمتهم لنا بالخيانة تكررها السلطة الطاغية وسببها ليس حبهم المفرط للوطن بل لأننا ننتقد حكم الطغاة بكل لغات العالم بدل أن نحفظ لهم ماء وجههم وهذه الظاهرة، ظاهرة حفظ ماء الوجه، ظاهرة مرضيــة في مجتمعنا.تنقلب المقاييس رأساً على عقب. ليس الإجرام بحق المجتمع ونهبه وإذلاله هو السيء بل كاريكاتور ناجي العلي الشهيد. وحفظ ماء الوجه سببه تعشعش عقلية القبيلة في نفوسنا ولهذا حديث طويل وقد شرح د. مصطفى حجازي الكثير منه في كتابه الشهير التخلف الإجتماعي، سيكلوجية الإنسان المقهور.

هؤلاء العملاء المباشرين للسفارات هم اليوم أضعف خلق الله لأن الوضع المزري في البلاد كمم أفواهم. فهم أعجز من أن يقارنوا سلطاتهم العربية حتى مع المستعمر!! فالإستعمار العثماني والفرنسي لم يسجن مفكرا بلغ الستين كعارف دليلة. ولم يغتال المستعمرون صحفيا في بلد آخر. وأية ثقافة هذه التي تشرد كل معارض أو مشكك؟ اليس الشك أول طريق الفلسفة؟ وهل نتج فكر ما نتيجة الموافقة والتأييد من نمط 99،99%. وهل أنتجت 70 سنة ستالينية أديباً واحدا من وزن تشيخوف أو تولستوي أو تورغينيف أو دوستويفسكي الذين قدموا في ظل القيصرية (العاتية) للعالم روائعا أدبية خالدةً؟ هل أخرج البعث في كل تأريخه كاتباً عالمياً واحداً أو حتى مهماً ؟!

هؤلاء العملاء المباشرون صمتوا اليوم لكن في بداية الثمانيات من القرن الماضي كان شأنهم غير ذلك.

كان أحدهم – وهو اليوم دكتور صحة – حقير لم يخجل من شتيمتي أمام الجمهور في هايدلبرغ عندما ألقيت محاضرة تقييم لأفلام المخرج السوري العبقري عمر أميرالاي صائحا أمام الجمهور أن ذلك الفيلم خيانة وطنية مع أنه كان من إنتاج سوريا. هكذا كان مفهومهم عن رسالة أمتهم الخالدة.

 

*كيف كان هؤلاء ينشطون ضدك خارج حدود السفارة هل كان لهم تأثير في ألمانيا بعلاقتك مع الجمهور الألماني ؟

 

**سأروي لك جواباً على هذا مافعله أحد البعثيين السوريين في المدينة الألمانية التي يقيم فيها. كان ذلك في أول طريقي إلى العلنية الأدبية في المانيا في مطلع الثمانيات. كنت آنذاك أطبع كتيباتي الصغيرة في دار نشر صغيرة أفلست فيما بعد. وبدأت بجولاتي للمحاضرة لكي أعرف القراء بكتبي بعد أن أطبقت عليها الصحافة الثقافية جدار الصمت وهو من أكثر أدوات النقد المميت فعالية. وقد كان وقتها يأتي الى محاضرتي من 10 إلى 20 شخص لا أكثر (وذلك بعد سفر مسافة 500-700 كم). تلفن البعثي قبل يوم من المحاضرة للمكتبة وأعلم مديرتها التي لم تكن بالكاد تعرفني أنها أخطئت بدعوة رفيق شامي فهو غير مرغوب فيه لدى كل العرب في المدينة (ليتصور كل قارىء بهدوء هكذا إساءة للثقافة العربية أمام الملأ) وهو ينصحها بإلغاء الدعوة والمحاضرة لأن “العرب” سيأتون ويكسرون القاعة فوق رؤوس الكاتب وجمهوره. منع يومها العقد المبروم بيني وبين المكتبة إلغاء المحاضرة لكنني لاحظت إضطراب المديرة حين وصولي. وكدت أظن أن الأمر مجرد حالة نفسية. كان عدد الحاضرين كالمعتاد بحوالي 20 شخصا. المحاضرة سارت على أحلى مايرام والنقاش كان جادا ومفيدا لكل الأطراف. عندما ذهبنا للعشاء المشترك بعد المحا ضرة تأوهت المديرة بحسرة “لغبائها” كما قالت إذ أنها كانت قد طلبت من أقربائها وأصدقائها إرجاع البطاقات خوفاً على سلامتهم وهي الآن تبينت متأخرة أن أحد “معارفها” العرب قد كذب عليها وقررت الإعتراف الصادق أمامنا وأنها ستعتذر ممن منعتهم من الحضور لأنها حجبت عنهم امكانية التعرف على ثقافة إنسانية كبيرة. تقريبا هذا ملخص ما قالته الإنسانة بصدق وشجاعة واعتذرت مني. قبلت اعتذارها بشرط تسمية الشخص أمام الحاضرين وتبينت فيه إسم أحد المخبرين والمترجمين السيئين الذين يتعيشون من السفارة السورية.

هذه المكافحة السرية فقدت عندي كل مفعولها إعتباراً من سنة 1989 حيث تقدمت روايتي “حكواتي الليل” كل قوائم المبيعات وترجمت حتى اليوم الى 22 لغة ( رواية رمزية عن الخرس المفاجىء لحوذي كان من أروع المحدثين وكيف أنقذ أصدقاؤه السبعة لسانه ليعود ويغرد في نهاية القصة بأجمل القصص. بالطبع يفشل الرجل السابع – ولولا ذاك لما كانت الرواية روايتي –  فالرجل كان خجولاً مُقِل في الحديث لأن والديه ربياه على الخوف من الكلام الذي يكشف حسب رأيهم مواطن ضعف المتحدث ولمعرفة زوجته بهذا الخوف رافقته في الليلة الأخيــرة لتروي قصتها في جو معادي لها إذ أن الرجال لم يشركوا حتى تلك الساعة إمرأة في جلساتهم. الحوذي سليم يومىء لزوجة صديقه مشجعاً أن تسرد ماتريد فتحكي العجوز قصتها لتنقذ بحكايتها لسانه وليشك في النهاية القارىء مع الأصدقاء وكل جيران الحي إن كان الخرس المفاجىء ليس إلا حيلة الحوذي الثعلب ليسمع من أصدقائه قصص حياتهم التي بخلوا بها عليه طوال السنين ).

منذ ذاك العام وقاعات محاضراتي تحجز سلفاً وقلبي مليء بالإمتنان للمستمعين والقراء الذين إستضافوني في قلوبهم وعقولهم. منذ ذاك العام توقفت الحرب السرية ضدي فهي لم تعد مجدية.

بعدها استلم زمام الأمر الفريق الأكثر قدرة والذي يتمتع بمدخل جيد إلى الصحافة العربية الناطقة بإسم الطاغية ولحدود صغيرة جدا إلى الصحافة الألمانية عبر تحالفات مع العنصريين الألمان. مثالان يكفيان: فجأة وبدون مقدمة أو مبرر يهاجمني أحد الأسلاميين المصريين المتمركسين بعض الأحيان والمتدينين بعض الأحيان ( على قولة فؤاد نجم وبصوت الشيخ إمام الرائع) بحقد عنصري لا مثيل له ضد ” الشام” وضد “من يكتب بلغة أجنبية” في مجلة “أخبار الأدب المصرية” وثانيهم شاعركردي سوري على صفحات جريدة تشرين العالمية والتي لايتجاوز تأثيرها الرصيف المحاذي لمبناها. وأنا أتساءل إن كان الشعب الكردي قد انتهت كل مشاكله مع السلطة السورية ليلتهي شعراؤه بتجريح صيت كتاب المنفى السوريين.

فاصلة كـ مقهى:

*تكرس اسمك في الالمانية بعد جهد طويل استمر الى الان. اي حواليثلاثين سنة. كم –باعتقادك- ستحتاج من السنين لتكريس اسمك فيما لو كنت في سوريا وخصوصاانك تعرف ان الامر ليس ببساطة المانيا!! لان التعاطي مع الالمان كونهم بشر اسهل منالتعاطي مع الالهة السوريين ؟

 

**نحن لسنا آلهـة بل مجتمع كله أنبياء لا يخطئون لكن ينقصنا فقط من يصلح السقف والمزراب. أنا لا أظن أن الأمر كان سيستغرق أكثر من أسابيع ليقر أنبياء الأدب والنقد الأدبي أن قصصي ليست صالحة للنشر وإذا أصريت برأسي اليابس كانوا سيكسروه بكل محبة أخوية لإقناعي أنه من الأفضل لي أن أبيع بندورة بدل هذه المساخر التي أكتبها.

 

المستشرقون واليسار والـ … والنظرة للواقع العربي وثقافته

 

*هل يقتصر ( أعداءك) فقط على العرب الذين ذكرتهم؟ ألم يقف ضدك أحد من اليمين الألماني وأنت كاتب قادم إليهم من خارج ألمانيا ..

بل هناك مجموعة من الكتاب الألمان العنصريين وخاصة المستشرقين والمترجمين منهم، وهناك حلف غير مقدس بينهم وبين فريق من أعداء حرية الكلمة العرب ولهذا التحالف المفاجىء للوهلة الأولى سبب وجيه يجعله بديهي.

ولتوضيح ذلك يجب العودة إلى محتوى ما أكتبه وأسلوبه. فأعدائي ذوي الإنتماء العربي لايهمهم الأسلوب بقدر ما يغيظهم محتوى قصصي خاصة الساخر منها لنقده اللاذع للديكتاتورية ولكل نتائجها. بينما يحاربني قلة من الألمان ليس لما أكتبه في المحتوى بل لأنني لا أتبع تخيلاتهم المحدودة عن شكل وأسلوب أدب الرواية “الشرقي” عموما والعربي خصوصا. لقد حلم العنصريون دوما أن يمارس العالم أجمع رؤية وتذوقا للجمال عبر منظارهم ووضعوا قيما للنقد ومعايير تتفق مع رؤيتهم الأوروبية. الثقافة الأوروبية هي المركز وكل من يريد الحضارة وأشعة شمسها عليه الدوران بفلك نموذجها الأوروبي. لا بأس أن يكون الأمريكي أمريكيا أو أرجنتينيا أو برازيليا ولا بأس أن يكون وحشي بعض الشيء أو عجائبي بعض الشيء لكن العمود الفقري لكل مايعمله عليه أن يبقى أوروبيا. أقول هذا بإختصار شديد. لذلك يصعب على المثقفين الأوروبيين المصابين بعقدة “المركزية الأوروبية”(اليوروسنتريزم) قبول أشكال أخرى للديمقراطية أو الفن أو الإعتقاد الديني أو حتى أسلوب الفرح والحزن الضحك والمحبة. كله له في ذهن العنصريين الأوروبيين مقاييس ثابتة يضعونها هم للعالم. هذا الموقف واضح وكان بمثابة إعلان حرب على كل ما أكتبه وخاصة أسلوبه.

 

* هل قادك هذا الموقف من النقاد الاوربيين إلى شعورٍ أو موقف عدائي اتجاه الأدب الأوروبي ؟ وهل لك تحفظ سابق على تصورهم هذا  ؟

 

**لا أشعر بأية عدائية فأنا منذ شبابي ولظروف سعيدة تعرفت باكراً على الأدب العالمي بشكل لا بأس به وأعجبت بكثير من الروائيين وحاولت فهم أسلوبهم الفني ولي تجارب متواضعة لم أنشرها موازية لأسلوب همنغوي وجاك لندن ومكسيم غوركي وفوكنر وكافكا. وكنت ولا أزال أعشق الأدب العربي القديم خاصة منه الروايات التي التهمتها بجوع كبير ولا أزال حتى اليوم في منفاي الألماني أحاول الوصول الى كثير من الكتب القديمة. وأكثر ما شد إنتباهي كان الكتاب المقدس بعهديه القديم ( التوراة) والجديد(الإنجيل) ثم روايات ألف ليلة وليلة (الكاملة).

 

*كيف تأثرت بهذه الكتب.. أو كيف أثرت فيك.. بدقة أكثر مالذي تعلمته منها ؟

 

**باختصار: ليس هناك أي مانع من التأثر بأي أسلوب لروي قصة ما فالفن ملك الشعوب بأسرها وهو من صنع هذه الشعوب مجتمعة. فالتداخل بين الحضارة اليونانية والمصرية القديمة من جهة والعربية فيما بعد التي هي بدورها تأثرت وأثرت في الحضارة اليونانية وحضارات أسيوية وإفريقية أخرى كبير ومعقد وأصبح من سابع المستحيلات تحديد خطوط فاصلة بين الحضارات. أرفض إذن ومبدئياً الفصل بين “شرق” و”غرب” وهذا بالذات يشكل العمود الفقري للإستشراق والإستشراق المعكوس (وهذه الأخيرة أحق صادق جلال العظم في نقدها).

الشرط الأساسي للتبادل الثقافي هو معرفة الذات والآخر. وهذه بالذات – معرفة الذات – هي موطن الضعف في أكثر كتابنا الذين يخرون، بعد أول إحتكاك مع الغير، راكعين أمامه ويظنوه لذلك عملاقا. نحن لدينا تراث قديم في الحديث والرواية، منجم ذهب مليء بآلاف الأمثلة عن قصص مشوقة ببنية قريبة من فن الحكاية الشفهية التي كانت ولا تزال تأسرني وهنا وجدت مباشرة الجواب على سؤال حيرني لسنين: لماذا يصيبني على الأغلب ملل عندما أقرأ بعض الروايات العربية الحديثة بينما لا أشعر باي ملل من قراءة المستظرف للأبشيهي أو لطرائف وقصص العرب القديمة وللمرة العاشرة. السبب وجدته في تقليد أغلب كتاب الرواية العربية للأسلوب الأوروبي في الحديث تقليدا أعمى. أنا لا أبسط الموضوع إلى حد نكران إمكانية التهجين بين أساليب الحكاية. أنا أنتقد التقليد السائد والذي لا يزال إلى اليوم متعلقا بما هو موضة. المدرسة الفرنسية ثم الإنكليزية ثم الأمريكية ثم الروسية والسوفيتية ثم أخيرا وليس آخرا الأمريكية الجنوبية منذ إقتحام غارسيا ماركيس لغات العالم في “عزلته”. سؤالي عن الأسلوب طرحته وأنا لم أتجاوز العشرين وقررت الذهاب في طريقي بحثا عنه وكنت أعلم أن هذا الطريق الخاص بي سيكون طويلاً وعسيراً. أول تعليق حصدته من صديق دمشقي مقرب لي جداً عندما تجرأت وأعطيته قصة تحكي معاناة طفل صغير في مدرسة يطلب منه الأستاذ كتابة موضوع عن سيران( بالعامية الدمشقية =نزهة الى البساتين غالباً مع مأكل ومشرب) فيكتب الطفل كيف تشاجر أبوه وأمه لمجرد طرح موضوع السيران وقد كتب الطفل الحوار ببراءة تضحك وتبكي الحجر وبدل التقدير أعطاه الأستاذ في النهاية صفر لخروج الطفل عن الموضوع. ” هل تريد أن تصبح تلميذ شهرزاد؟” سألني. أجبته: “ياريت”. شهرزاد التي قاومت الموت بالكلمة وسحر جمال الكلمة وحولت طاغية الى مستمع مرهف، إلى طفل صغير تلعب الراوية بأعصابه. لم يهمني الأمراء والأميرات اللواتي كن يسقطن مغشيات على طوال السيرة لفرط رهافة أعصابهن. لم يهمني قط ما قاله الخليفة الفلاني وما أغدق به على فلان من الجواهر فأدبنا القديم مليء بتلك المبالغات لكن هذا لا ينقص جماليته فنحن كثيرا ما نحكم بعنجهية على زمن كانت مقاييسه وأسلوبه متعلقة بظروف حياة تغبرت ولم نعد نعرف عنها إلا القليل. ومن جهة أخرى منهجية: لماذا هذه العدائية المفرطة؟ هل لأن بعض ما تحتوية آلاف القصص من ضعف بنيوي أو فكري؟ إثارة الأوهام في بعض القصص ورجعية بعضها الآخر ومحافظتها عل ثابت لا يتحول؟ كل هذا قد يكون صحيحاً والنقد محق ولكن من الذي يرفض الأدب الواقعي الأوروبي لمجرد إحتوائه على آلاف آلاف القصص والروايات والمسرحيات المملة والمولدة للوهم كأطنان الأدب الواقعي الإشتراكي السيء أسلوباًً والمضل محتوى ؟ وبين ملايين الصفحات المملة تضيء جوهرة أنتجها فرانس كافكا، بريشت، سرفانتيس، شكسبير أو فرجينيا وولف. هكذا أيضاً تراثنا، هكذا كل فن وهكذا الحياة.

نصحني صديقي الطيب آنذاك أن اترك هذه الحكايات القديمة “فالعصر عصر كافكا وهيمنغوي وشهرزاد ليس لها خبز” قالها بمحبة ورفضت، مسكوناً بسؤالي الخاص: لماذا يفرض الغرب علينا كره ذاتنا وثقافتنا ولا يطرح كره ذاته وثقافته ابداً للنقاش؟

 

*هل يفهم من هذا اشتققت أسلوبك الخاص من ألف ليلة وليلة و أساليب السرد العربي القديمة ؟ وما الذي ترى أنه ميز أسلوبك بالدرجة الأولى ؟

 

**ما أدهشني دوما وما كنت أفتش عنه ولا أزال هي الحبكة التي تأخذك معها عبر مئات الصفحات دون أن تشعر. أردت أن أنهب قرائي من أرضهم ومحيطهم وأدخلهم عالم أبطالي الذين ينحدرون كلهم من حي العبارة الشعبي ولا يغادرون دمشق إلا ماندر لكنهم يأتون بالعجب العجاب ويدهشون حتى أعظم سيرك زار دمشق ( وهو موضوع روايتي الصادق الكاذب التي صدرت عام 1992). لم يكن يهمني من أين يأتي معلمي ومعلمتي في البحث عن أفضل أسلوب ومن أية قارة اتعلم أكثر ولكني رفضت قطعا وبإصرار عدائي أن يملي علي كائن من كان كيف علي أن أحدث الناس. فمعمودتيي النارية خضتها في حي العبارة وأنا خريج هذا الحي.

وأنا أعتــقد جازماً أن التفتيش عن أسلوب فريد لكل قصة يستحق أكبر حيز من إهتمام الفنان. فالمحتوى والأسئلة الإجتماعية التي تحتويها  قصيدة، قصة أو فيلم أو أغنية أو لوحة ما هي ذاتها لم تتغير إلا بشكل طفيف منذ بدايات المجتمع الإنساني. أنظر الى الأشعار المصرية والصينية واليونانية(خاصة كاتبي المفضل لوكيانوس السميساطي السوري الأصل والذي كتب باليونانية أولى قصص مغامرات الرحلات الفضائية) والعربية والأوروبية القديمة وسترى أنها جميعا تعالج ما لا نزال نعالجه إلى اليوم. ما يحول أي موضوع إلى فن هو كيف نسبك هذا الموضوع أو المحتوى وأنا أعتقد جازما عبر دراسة طويلة لا مجال لتفصيلها الآن أن كل موضوع له شكل واحد فقط يجعله فناً خالداً. ليس مئة شكل بل شكل واحد. رواية زوربا مثلا ليست بهذه الجودة إذا قرأتها باليوناني فهي مكتوبة بيونانية صعبة الهضم وبفلسفة إنتقائية أخذ فيها كازانتزاكيس من كل حديقة فلسفية زهرة وهذا مايعيـبه الكثيرون عليه فهو يظهر في النهاية كونفوشي مسيحي مسلم ماركسي مثالي…الخ. تحسنت الرواية وتحدثت في طبعتها الإنكليزية حيث ترجمت بشكل جيد جداً وأتى الفيلم العبقري تضافرت فيه موسيقى الشعب اليوناني القديمة مع حساسية ثيودوراكيس العظيمة ومع أنطوني كوين وإرين باباس لتجعل من القصة جوهرة فنية خالدة وهي في هذا المثال الشكل الوحيد الذي كان يفتش عن مكتشفه. مقابل ذلك ترى آلاف الأفلام عن أدب عالمي تشوه القصة وتنحدر بها إلى مستوى رخيص أو ممل أو متصنع الخ.. هناك أيضا مئات القصص والقصائد والصور واللوحات عن مأساة القرية الباسكية غارنيكا (شمال إسبانيا) التي دمرتها الطائرات النازيةفي 26 نيسان 1937دعما للجنرال الفاشي فرانكو ولكن لوحة بيكاسو هي الوحيــدة التي حولت الرمز الإنســاني هذا إلى عمل فني خالد. لذلك أعطي التفتيش عن أسلوب لرواية حيزاً كبيراً ولا أترك شيئاً للصدفة والفهلوية.

 

*كيف كان تلقي الأوساط الأدبية الألمانية لنتاجك.. خصوصاً بعد أن حققت حضوراً ؟

 

**ازدادت المحافل الأدبية إحتفالا بي وبأعمالي واصدقك القول أنني توقعت الكثير من الحسد ومن هجوم الأوساط الرجعية المعادية للعرب وهذا حصل وما زال يحصل حتى اليوم بشكل محدود. سلاح الأعداء في المجتمع المدني الديمقراطي الحديث هو البحث عن نقطة ضعف فيما تقول وتفعل فإذا لم يجدوا شيئاً لجأوا  للسلاح الأكثر فعالية وهو إحكام جدار الصمت على كل ما تنتجه.

المفاجأة الكبرى التى أصابتني من حيث لم أحتسب. عدائية أتت من صفوف المستشرقين وأخصائيي الأدب والثقافة والإجتماع في بلاد الشرق. اغلب هؤلاء الألمان يستطيع قراءة العربية بصعوبة ويتحدثها بشكل بالغ السوء ولا يمتلك وسائل اللغة الألمانية الأدبية اللازمة للترجمة لكنهم ولأنهم عورٌ بين عميان صاروا يسموا أنفسهم “خبراء” الأدب العربي والتأريخ العربي والنفسية العربية لا بل وخبراء في قضية المرأة وفلسطين ولولا خجلهم لأصبحوا أيضا خبراء الفلافل والفول المدمس.

فجأة في خريف 1989 بدأ أحدهم بالتكرار الممل – آملاً أن تصبح الكذبة حقيقة – أن رفيق شامي يكتب بشاعرية قصص خيالية تقدم صورة زهرية بهيجة عن الشرق(لاحظ التناقض الحاد بينهم وبين من يشتمني للإساءة للشرق.لكن متى كان الكذبة يأخذون المنطق بعين الإعتبار؟). وأن هناك كتابا عظماء يقدمون صورة صادقة سوداوية مأسوية عن الشرق ولذلك فهم كخبراء ينصحون الجمهور بقراءة تلك الكتب المهمة جداً. وكانت هذه من أكبر المفاجآت سوءاً.

 

*لماذا ؟

 

**المفاجئة كانت كبرى، لأن أغلب هؤلاء الأعداء الجدد ينحدرون من الحركات الطلابية اليسارية المؤيدة للعالم الثالث – كما كانوا يظنون على الأقل – ومن تلك الحركات ينحدر بالمناسبة المستشار الألماني السابق الإشتراكي الديمقراطي شرودر( بكلمته الشهيرة: اليوم أكافح ما كنت أكافح لأجله) ووزير خارجيته يوشكا فيشر من حزب الخضر (أسوأ وزير خارجية في تأريخ ألمانيا تجاه العرب والفلسطينيين.)

بالطبع يمكن على الطريقة الشامية لعن جد جد الذي خلفهم وبالطبع كانوا قلائل ولا قيمة لهم لدى جمهور القراء لكن أثرهم في الدوائر الثقافية كان كبيرا مثل مثقفي السلطة لدينا الذين يتسللون زحفاً وبمهارة ليعشعشون في وزارارت الثقافة والأمية.

كان عدداً قليلاً منهم عميل مباشر للسفارات العربية وأغلب الظن عميل لكلا الطرفيين الألماني والعربي. فالألمان شعب عادي جداً يمكن شراء بعض أفراده. هؤلاء فضحوا أنفسهم بأنفسهم ووفروا علينا العناء إذ صاروا فيما بعد مترجمين لصدام حسين والقذافي ورواياتهم المملة ونالوا على التطبيل والتزمير لهما ما يكفيهم من النقود والإحتقار. بعضهم كان ضيفاً دائما على وزارات الثقافة العربية التي تعج بالكتاب الذين يحلمون أن يأخذ هذا المستشرق أو ذاك عملهم بعين الإعتبار وينقله للغة أوروبية. وبالتالي كان هؤلاء الألمان يشمون شيئا من رائحة السلطة العربية ويظنون أن لهم سلطة ويوهمون من يتكلمون معه من الكتاب أنهم ذو شأن في المانيا. لكن تأثيرهم ألمانيا كان – كما كانت تقول جدتي المرحومة – “مثل الضراط على البلاط” صوت قوي دون مفعول يذكر. لكن رائحته كانت مزعجة. فجأة تجد نفسك في صراع مع بيروقراطيي الثقافة وكأنك في بلد عربي.

 

*إذا كان نجاحك سببا معقولا لعدائية أعداء الثقافة العربية فما سبب عدائية أناس يدعون أنفسهم تقدميين و يعملون جهدهم ساعين لنشر الثقافة العربية في المانيا ثم يعادون أكثر الكتاب العرب إحتراماً لدى القراء الألمان بدل التعاون معا على إنجاز المهمة الكبرى في الدفاع عن الثقافة العربية؟

 

**ليست المسألة مسألة إنفصام شخصية ولا يشرحها الحسد وحده ، إنما هناك سبب أكبر وأكثر عمقاً من ذلك بكثير.

 

*ماهو هذا السبب الأكثر جذرية الذي يفسر هذا العداء ؟

 

**يصاب الكثيرون من الأوروبيين المثاليين العاملين في ميدان تحرر العالم الثالث (وأقولها بدون سخرية) بخيبة أمل وإحباط عندما يرون موضوع شوقهم ومحبتهم على أرض الواقع.

ورأينا الكثير من اليساريين المان المتحمسين لقضية فلسطين عندما عادوا بعد عدة سنوات من العمل الميداني في بيروت أو الأردن ليصبحوا من ألد أعداء القضية الفلسطينية العادلة أو ليلقوا بكل تسيسهم إلى الجحيم ويعودوا إلى حظيرة العائلة الغنية التي غادروها وإلى الفكر الأوروبي المركزي والذي يرى في صرته مركزا للكرة الأرضية. وإذا كان الشاعر الكبيرهانس ماغنوس أنتسنسبرغر والصحفي اليساري الراديكالي هيرمان غريمليتسا أكثر الألمان يسارية وراديكالية في أواخر الستينيات قد أصبحا اليوم لأسباب عديدة منها إحباط أمالهما في كوبا ومناطق أخرى من العالم الثالث من ألد أعداء العرب والإسلام فإن ما حصل لآخرين في هذه الحركة شبيه جداً وإن كانوا أصغر حجما بكثير من المذكورين أعلاه. مأساتهم تظهر بانقلاب شعارهم اليساري المتطرف:” لنتعلم من فيتنام وكوبا” الى تطرف آخر” كل ثقافات العالم ينطبق عليها مقاييس أوروبا” هذا هو نقطة الخلاف المركزية بيني وبينهم والتي لا يمكن الإلتقاء عندها أو التوافق عليها. ليست المسألة مسألة عناد بل هي مسألة مصير. إما أن نحطم طوق العبودية والتبعية باحثين عن إسلوبنا في التعبير وإلا فنحن هالكون إذا بقي دورنا ليس إنتاج أدبنا بل ترديد ببغائي لرؤاهم وخصي المواضيع وقصقصة أجنحتها لتناسب أسلوب المدارس الأوروبية بالحديث. كل منهم لا يكاد يلم بتأريخ حياة عائلته وينصب نفسه أخصائيـاً في نقد الأدب العربي أو النيجيري. وكانت وجهة نظرهم التي صرحوا بها مرارا، في مقالات هشة:إن أهم ما ينتظروه من الكتاب العرب هو مساهمة هؤلاء بما “بعد الحداثة”. أو عبر إختيارهم وتشجيعهم عملياً لكل مقلد لأدب الغرب ” هذا بإسلوب كافكا وذاك يذكر بتوماس مان أو بلزاك وهذه بسيمون دو بوفوار وتلك بالكاتبة الأمريكية علانة…”

صار الأدب العربي برمته صورة مهزوزة للأدب الأوروبي. وشيئا فشيئا توضحت الخطوط الفاصلة بيننا وإنتقل الحوار من الصوت الهادىء إلى الصراخ. وأتى مهرجان “آفاق Horizonte”. إذ لأول مرة تتبرع برلين من خلال هذا المهرجان  بمبالغ ضخمة لإجراء حوار بين الشرق والغرب وبما أن الدوائر الرسمية على عكس نظيرتها الفرنسية أو الإنكليزية لا خبرة لها بالشرق أوكلت لأحد هؤلاء ” الخبراء” بتنظيم الدعوة لكتاب من الشرق فحقق هذا (الخبير) كل تصوراته الإستعمارية حول الحوار. دعى حوالي 20 كاتباً منهم 9 إسرائيليين 4 مصريين والباقين من بلاد العروبة. واقصى كل الكتاب الفلسطينيين وكل كتاب المهجر والمنفى الألماني الذين يكتبون ويتكلمون باللغة الألمانية. و كيف كان الحوار الختامي بين الشرق والغرب؟ إنه مسخ لكنه يعبر عما يعتقد به هؤلاء: حوار ممل بين الكاتب الألماني غونتر غراس والكاتب الإسرائيلي عاموس عوز عن علاقة الشرق بالغرب. وقد مسحت الصحافة الأدبية الأرض بمنظمي الإحتفال.

هذه هي حقيقة وموقف هؤلاء قدموها علنا لمن يريد أن يتعلم. وهاجمتهم بعنف شديد بمقالات أثارت وقتها حواراً علنياً عنيفاً. وتمت القطيعة النهاية بيني وبينهم ولا تزال حتى اليوم. لم يفتح مثقف من مثقفي السلطات العربية ولا ملحق ثقافي عربي واحد فمه على هذه الإهانة.

كانت نتيجة إحتفال “آفاق” مخزية “للخبراء” فحاولوا تفسير فشلهم بأن رفيق شامي خرب ذوق الجمهور الألماني الذي أصبح لا يريد سوى الشرق الذهبي الذي يقدمه هو وزملاؤه في المهجر. وادعوا أن إقصاء الفلسطينيين كان خطأ “وأما رفيق شامي وزملاؤه فهم ليسوا راديكاليين ولاهم كتاب عرب لكي ندعوهم”. فهذا (الخبير ) الذي درس عدة فصول علوم إسلامية ويستطيع بعناء شديد فك الحرف يشتم منفيـين سياسين بأنهم ليسوا راديكاليـين كفاية و يقرر من منا يكتب أدب عربي ومن لا يكتب. قد يثير ذلك الضحك لكن أن ينسى كتاب عرب أقصيوا من الحفل هذا العمل المشين ويعقدوا بعدها صداقات مع هؤلاء (الخبراء ) فهذا مصيبة النفس الذليلة مهما كانت جنسيتها وليس لمثل هكذا خنوع وطن.

حاول هؤلاء ( الخبراء) بكل إمكانياتهم فيما بعد محاربة كل زملاء المهجر والمنفى بترويج دعاية تضحك أي مبتدأ في حقل الطباعة والتجارة بالكتب. رفيق شامي يكتب قصص ألف ليلة وليلة ويدوخ الألمان بلغة جيدة ولكن بمحتوى خطير. وهذا يقولوه وهم يعلمون أنهم يكذبون وينقله بعض العرب دون قراءة كتبي فترى تلك التلميحات تتكرر في بعض الصحف العربية وتيقن عندها أن هذا الناقد العربي ليس حمارا لأن الحمار حيوان ذكي.

 

*ما هو موقع اللغة العربية ومكانة الأعمال الأدبية العربية لدى الناشر والقارئ الألماني والاوربي بشكل عام ؟

 

**اللغة العربية تحتل على قائمة أولوية اللغات موقعا منخفضاً. والجرم في ذلك لا يقع على كتابنا بل على حكوماتنا التي تنام منذ عقود ولا تبالي ولا تهتم بالترجمة من وإلى العربية وبشكلٍ عام وضع اللغة العربية كلغة عالمية في خطر. وقبل أن نندب على وضع اللغة العربية والكتاب العربي خارج بلدانها لننظر الى سوء وضع الكتاب العربي داخل البلدان العربية لننظر إلى منع الكتاب العربي من التنقل بين البلدان العربية قبل مطالبة الأوروبيين بإحترامه. أنا أعرف عبر حاجتي الدائمة للكتب أنه من الأسهل لي للتعرف على كاتب سعودي مثلا أن أطلب كتبه عن طريق لندن أو باريس من أن أفتش عنها في البلاد العربية. اليس هذا فضيحة؟

الأدب العربي وضعه في الأسواق الأوروبية مُبكي للأسباب الموضوعية للسوق وللتنافس الشديد والتي نوهت بإختصار شديد عن طبيعتهما كما ولأسباب ذاتية يقع الجرم فيها علينا أولها تأخر عقل ووعي السلطة الديكتاتورية بكل أنواعها وكتابها الأشاوس الذين يخربون يومياً ارضية الفكر والكتاب ليقدموا بعدها تفسيرات مضحكة مبكية ( رحم الله حبيب كحالة) عن سبب عدم إنتشار مايكتبوه.

لقد إقترحت مرة (ساخراً لعلمي أن هذا الذي أقترحه من سابع المستحيلات) تخصيص مدخول البترول في كل البلاد العربية ليوم واحد سنويا للإعتناء باللغة العربية مثلاً للترجمة من وإلى العربية مما سيرفع شأن الكتاب العربي عالمياً ضد كل أعداء الثقافة العربية. بدل ذلك لا تسمع إلا ندباً على ما أسسه اليهود من دور نشر وشركات لإنتاج الأفلام والموسيقى وبدلاً من أن نجهد عقولنا لإيجاد تفسيراً مريضاً عن مؤامرات يهودية لنطرح سؤالا أقرب للعقل وهو ما الذي يمنع العرب من التنافس مع كل الشعوب في هذا المجال بدل الطرق الغبية التي يبددون فيها أموال شعوبهم بدون أية فائدة ؟

إضافة لذلك يجب أن لا نتجاهل أن هناك ضعف رئيسي في بنية الأدب العربي أساسا تعيق إنتشاره. خذ مثالا بسيطا. عندما أقرأ كتباً أو روايات عربية يلفت نظري كثرة الأخطاء اللغوية والبنيوية كما والهفوات الفنية. إنه إهمال شنيع يطبع به كثير من الكتب مظهراً ولغةً ومحتوى. هذا إحتقار للكلمة وكاتبها وقارئها. المسؤوليــة تقع بكاملها على دار النشر. هنا في المانيا تعتبر وظيفــة المدقق والمنقح أكثر الوظائف أهمية في دار النشر. والمنقح ليس مهمته المنع والمراقبة والتشويه بل تخليص الرواية من كل شائبة المت بها لكون الراوي ملتصق بأحداث روايته وقلة من الكتاب تتمتع بموهبــة الإنفصال النقدي عما يكتبوه ليكتشفوا مواطن ضعفه. المنقح يلعب دور القارىء النقدي المشكك بكل شيء وعمله صعب جداً لكنه يخفف عدد الأخطــاء التي سيكتشفها قارىء وفي روايتي الأخيرة التي قاربت صفحاتها الألف لا نزال حتى الطبعة العاشرة نجد هفوات مطبعية. ونجهد في تصليحها ونرسل هداية جميلة لمكتشفيها. ذلك رغم عملي الطويل في هذه الرواية وتنقيح مساعدتي الأخصائية في الأدب ومطالعة زوجتي النقديــة وتنقيح الرواية من قبل منقحين إثنين في دار نشر هانزر أحدهما أفضل منقحي المانيا على الإطلاق وهو مدير دار النشر بذاته ميشيل كروجر الذي أمضى شهراً كاملاً في القراءة ووجد الكثير من الهفوات.

 

*  هل تحسب حساباً لعداء هؤلاء لك ولأقرانك من كتاب المنفى .. هل تخيفك اراء النقاد هذه التي تنشر حول نتاجك الادبي في الاوساط الألمانية ؟

 

*عدم الخوف من أي شيء ليس شجاعة بل قلة عقل. أنا أخاف من كل شيء ومن عاش طفولة وشباباً كالذي عشناه يعشعش الخوف عميقاً في عظامه. لكن الشجاعة هي أن تعمل رغم الخوف ما تراه حقاً.

خسارتي عبر المنفى كانت جسيمة وهي بالذات تشجعني على مواقفي. أنا خسرت في حياتي رؤية أمي وأبي وحارتي الشعبية ومدينتي الجميلة دمشق ليس لأخاف من هذا المستشرق أو ذاك المخبر وليس لآخذ كلام أي ناقد بعين الإعتبار. لي طريقتي وأسلوبي في الرواية ولي مواضيعي التي تشغل بالي وهذا فقط ما يهمني أما عدا ذلك فلا. لقد وجدت طريقي لأنني لا أسمع لفلان وعلتان وهذا ما لا أنوي تغييره في المستقبل. لذلك لم أهتم بعد ذلك بالصراع العلني بما يفعلوه أو يقولوه.

لكني أسرد ذلك لكي يدرك القراء تحت أية ظروف معقدة إيجابا وسلبا نكتب نحن كتاب المهجر والمنفى.

 

*ألا زال الموقف النقدي لهؤلاء (المستشرقين ) هو نفسه من الأدب العربي بشكل عام ومن أسلوبك الروائي بشكل خاص ؟

 

**بعد فشل الموضة الألمانية “ما بعد الحداثة” عاد الألمان من سنوات الى أسلوب الرواية المشوقة التي دافعنا عنها طوال السنين. والآن تخلى الإنتهازيون “خبراء الأدب العربي” عن موقفهم وبدأوا بمدح سندباد وشهرزاد ليس بطريقة أبو علي ياسين الرائعة الذكية بل باسلوب مبتذل أرفضه كلياً. وبرأيي أن للأدب العربي في المانيا مشاكل كثيرة أولها هؤلاء القائمين عليه علاجا وتحليلا وكأنهم في عيادة مريض.

*ماهو مصدر سوء الفهم لقراءة هؤلاء المستشرقين للادب والثقافة العربية بشكل عام.. هل يمكن نسبة هذا إلى أن مصادرهم ” إسلاموية ” وسطحية ربما ؟

أظن أن النظرة المتعالية نتيجة التفوق الإقتصادي والعلمي توهم هؤلاء أنهم أيضاً يعرفون مايلزم وما ينقص العرب من أدب وشعر وهذا نكتة غير متعمدة وأحياناً مضحك جداً.

 

*هل تعتقد أن هؤلاء المستشرقين يلتقون عن عمد أو غير عمد مع الإسلامويون. أم أننا نقع في مطب المبالغة إذا قلنا ذلك ؟

 

**أبدا لست تبالغ. المستشرقون يلتقون مع الإسلاميـين رغم تأكيدهم الدائم الممل أنهم أعداء. والنقطة المشتركة هي أيهام الناس بأن الإسلام كدين يخرج عن كل الأديان وله صفة خاصة تمنع إبعاده لا بل فصله عن الحكم. المستشرقون يزعمون ذلك إحتقاراً والإسلاميون يؤكدون ذلك كصفة إيجابية وسابقة لا مثيل لها. وكلا الموقفان عنصري في صميمه. الأول يحتقر الشعوب الإسلامية ويفترض وجود شيء خفي سحري في الإسلام يؤخر به مجتماعته ناسياً أن الحضارة العربية في أوج تألقها لم تكن على سطح القمر بل في وسط المجتمع العربي. والإسلاميون يدعون أن الإسلام وشعوبه روحانية لا تنطبق عليها قوانين الإنسانية التي أثرت على المجتمعات الأخرى. وكأن الأتراك يعيشون على كوكب آخر أو أنهم أصبحوا أقل إسلاما من يوم فصل كمال أتاتورك الدين عن الدولة. ويذكرني هذا بصورة الإسلامويين في أفغانستان وإيران وسوريا وفلسطين ومصر الذين يرتدون أحيانا طقماً أوروبياً ولكن ويا للفرادة دون ربطة عنق. هذا يا سادتي لم يوصي به أحد سوى إنفصام شخصيتكم.

 

*كيف كانت ردة فعل هؤلاء المستشرقين على روايتك الأخيرة؟

 

**عندما ظهرت روايتي ” الوجه المظلم للحب” التي حملتها معي أكثر من 30 سنة واستقلبها النقد الأدبي الألماني فور صدورها عام 2004 بكل احترام وعبر قرائي عن حبهم لهذه الرواية الضخمة ورفعوها لثلاثين أسبوع الى قمة قائمة أفضل المبيعات (Bestseller) كما لم يعق حجمها الضخم بيع حقوق الترجمة لأهم عشر لغات عالمية في سنة واحدة. أما العربية فهي ملكي والنسخة العربية ستصدر في وقتها المناسب عن دار الجمل.

عندها لم يبق أمام ألد أعدائي سوى الباب الأخير للهروب إلى الأمام. “الرواية جيدة جدا” قالوا، لكنها “شامي جديد” لا علاقة له بـ”شامي القديم”. لم يكن مقصودا في تعبيرهم التجديد اليومي المفروض على كل إنسان لا يريد أن يتحجر ويصبح تمثالا لنفسه. لا، هذا لم يكن ما قصدوه، فعدائيتهم أكبر من الحرص على سلامة تطوري . وقد رددت على سؤال صحفي استشهد بمقولة هذا “الخبير” بقولي رجاءً أن نتكلم ألمانية صحيحة ما معنى “شامي جديد”؟ شامي الذي كتب هذه الرواية يستيقظ معي طوال فترة كتابته منذ ثلاثين سنة ويشرب القهوة وهو يتذكر معي صبحيات دمشق ويكتب معي ويذهب لعند طبيب الأسنان معي يحلم يوميا بالعودة الى دمشق ثم يسقط منهكا وسعيدا في الثانية بعد منصف الليل في فراشه. بربك ما الجديد الذي فيه من جديد؟

ومن المؤسف – وأنا أكرر لدهشتي – أن ينساق كتاب عرب لا يفهمون الألمانية ويكذبون على قرائهم بمقالات ضدي تستند في كليتها على معلومات من أعدائي الألمان. وكم دهشت لبعض الكتاب العرب الذين يتملقون لي عند مقابلة ما ثم أسمع فيما بعد أنهم يهاجمون ما أكتبه دون قراءته.

كتابي الأول بالعربية ” التقرير السري عن الشاعر غوته” متوفر الآن في أغلب البلاد العربية فأين دليلهم على تحقيري للثقافة العربية؟

ويبلغ الأمر ذروة مضحكة مبكية عندما ينتقد كاتب فلسطيني عملي الأدبي لكونه – كما يدعي الأخ – لا يعالج معاناة شعبي والتي حسب رأيه الفرويدي التيليباتي – إذ أنه يحللني نفسياً عن مسافة لا تقل عن 3500 كم – نتج عن إبتعادي عن الوطن. ويلمح ويلوح آخر من ابناء العروبة في مجلة ” فكر وفن” العنصرية بالجهات التي تقف خلف نجاحي. هكذا وبدون قراءة كلمة مما كتبت. بينما تعففنا عن مهاجمة الأخوة الفلسطينـين في الوسط الألماني رغم كذب بعضهم المحترف خاصة أولئك الذين يحلون ضيوفاً على كل الأنظمة العربية ويخرجون دوماً سالمين غانمين ومثقلين بالهدايا ثمناً للسكوت عن كل ضحايا الإستبداد في تلك البلاد.

 

*وهل يصيبك ذلك بمرارة خاصة وأن زميلة قالت لي أنك تقوم بالكثير من أجل أطفال فلسطين؟

 

**مرارتي أصبحت في المنفى وعبر الزمن الرديء محترفة لا تفرز علقمها لهكذا تفاهات صغيرة. فلسطين كما كتبت في إحدى مقالاتي جرح يحمله كل العرب مثل صحرائهم. لذلك يصعب على أي عربي نقد زملاؤه الفلسطينييـن بنفس الصراحة التي نواجه بعضنا فيها. وهذه ظاهرة مرضية. ومن تعافى منها سيُسمع الزملاء الفلسطينييـن يوما نقداً تشيب له رؤوسهم.

هناك مشاريع عدة يقوم بها ناشطون هنا في المانيا خاصة من أجل الأطفال الفلسطينيـين اليتامى التي خلفتهم الحرب الأهلية اللبنانية. أحد هذه المشاريع هو “بيت أطفال الصمود” في مخيمات اللاجئين الفلسطينيين. وقد ساهم اللبناني سعيد أرناؤوط مع ثلة المانيـــة من أطيب البشر معدناً بعمل دؤوب إلى نقل هموم هؤلاء الأطفال الى آذان وقلوب الألمان والسويسريين. ومنذ سنين نقيم حفلة سنوية وإحتفالاً أدبياً لنصرة الأطفال ثقافياً ومالياً وللتعريف بهم وبهمومهم. طبعا هذا كله لا يمثل إلا قطرة ماء صغيرة لهذه الأفواه العطشى لكنه على الأقل قطرة والأنهار والمحيطات تتألف من قطرات.

 

*هناك مجلة المانية تصدر بالعربية وتدعى “فكر وفن” توزع في كل السفارات الألمانية ومعاهد غوته. لماذا لم نقرأ لك مشاركة واحدة فيها؟

 

**هذه المجلة إذا دلت على شيء فإنما تدل على الطريق الذي علينا تحاشية عند حوار الثقافات. فوزارة الخارجيــة الألمانية تهدر الطاقات والأموال في الطريق الخاطىء لتنتــج هراءً سطحياً ملونا على ورق مصقول وبإدارة تحرير تكلف المواطن هنا مئات ألوف اليورو سنويا.

كانت هذه المجلة التي بدأت وزارة الخارجية الألمانية بإصدارها عام 1963 تقصد الوصول إلى النخبة العربية لتغريهم بالفكر والإنتاج الصناعي والثقافي الألماني وكانت ولا تزال مصممة للدردشة في صالونات أنيقة أكثرمنها كمساهمة جادة في الحوار. اشرفت عليها خلال حوالي 40 سنة ثلاث نساء هن على التوالي: أنة ماري شيمل و إردموته هيلر و روزماري هول. كانت المجلة مملة ومليئة بالدعاية لألمانـيــا لكنها كانت على الأقل لطيفة وحذرة تجاه العرب وثقافتهم حتى في فترة حكم الحزب الديمقراطي المسيحي الطويلة.

ومع صعود التحالف بين الحمر والخضر للسلطة توقع الكثيرون تحسن هذه المجلة التي توزعها وزارة الخارجية ومعاهد غوته وتوجست الشر ليس لأني أحبه أو أميل للتشائم بل وبكل بساطة لأنني أعرف وزير الخارجية الأخضر يوشكا فيشر منذ أيام الدراسةوحين كان راديكالياً وفوضوياً في مدينة فرانكفورت لكنه كان منذ ذاك الوقت معادياً للعرب وخاصة الفلسطينيـين. وعندما تولى السلطة تخلى عن راديكاليته ونسي فوضويته لكنه ظل معاديا للعرب.

وبرعاية هذا الوزير الذي اعتز شارون علناً بصداقتـه بُدلت هيئة التحرير وقدم السيد شتيفان فايدنر منذراً بعصر جديد ولم يتركنا ننتظر طويلا لنرى أسوأ ما يمكن إصداره يصبح منهجاً لهذه المجلة التي تدعي رغبة بناء الصداقة بين الشعوب. وفتحت المجلة وبدون أي خجل أبوابها لمترجمة رواية صدام حسين وكأنه لم تكفينا جرائمه وكان لا بد من رائحة فمه الأدبية التي تزكم الأنوف. أتت هيئة التحرير “لتردم الخنادق” كما ادعى مديرها فايدنر “بين الشرق والغرب” ففتحت هاوية. هَرّب فايدنر بكذب لا مثيل له كاتبة إسرائيلية ترعرعت في إسرائيل وخدمت في جيشه تدعى منى يحيــا على أنها أديــبة عراقية ونشرفي العدد 77 (2003) كاريكاتورا مستهزءاً بالإسلام ( تمثال الحرية الأمريكي بحجاب وقرآن). ولكي يبــين مدى إحترامه للعرب كرر رغبة إيرانيين أن لا يُخلط بينهم وبين العرب وأكد (في العدد79 سنة 2004) أن بعض المثقفين العرب يبالغون بمكانة وأهمية (Bedeutung und Wichtigkeit ) الثقافة العربية. هذا ما أدى إلى رفض العمل معه عندما دعاني اليه ومنعته خطياً وحذرت كل دور نشر كتبي من السماح له ولمجلة “فكر وفن” بأخذ أو نشر أي مقطع من أعمالي الأدبية.

 

فاصلة كـ مقهى:

* هل تعتقد ان كونك كاتبا عربيا مجهولا ليس له أي فائدة ؟ فقد كان منالممكن عندها ان تكون عضوا في اتحاد الكتاب العرب برئاسة عرسان !! فما سيكون موقفك لو حضرت انتخابات الاتحاد الاخيرة وكان عليك أن تنتخب أما عرسان أو خليفته الذي أنسى اسمه غالباً ؟

 

**كنت سأنتخب علناً وبصوت عالي ابو نواس فهو رغم أنه ميت يقدم للأدب العربي إلى اليوم أكثر من إتحاد الكتاب العرب منذ يوم تأسيسه.

 

الحلقة الثالثــــــــــــــــة

 

الطاغية العربي يحول كل ما تلمسه يداه إلى عدم

 

روايتي الأولى بالألمانية عالجت الحياة تحت الديكتاتورية بواقعية وحازت على ثمان جوائز أدبية

العمل في رواية “الوجه المظلـم للحب” استمر حوالي 30 سنة.. وصدرت في العام 2004

الروايـة كما هي اليوم إختراع أوروبـي ولا داعي للقول أن الأوروبي يحمل المـصري القديم والعربي

أدونيـس كالحكام العرب لا يعترف بأخطائه ويسبح كل يوم على موجة.ونـزار قباني ركع أمام صدام

مثقف السلطة جبان محترف. ومن لم يصدق هذا ليدرس بعناية سيرة أصدقاء صـدام وغيره من الحكام..

المثقفون العرب يشنون حربا على أدبـاء المنـفى لأن هؤلاء يبدون لهم كالمرآة التي تعكس لهم حقيقتهم

 

 

 

 

لابد من التنويه أن الحوار بدأ مع رفيق شامي قبل أكثر من ست أشهر والحديث عن حزب الله لا يتعلق بالحرب الاخيرة وخطف الجنديين الاسرائيليين التي جلبت الدمار لـلبنان على يد الاسرائيلين كما نوه الكاتب قبل نشر الجزء الثالث من الحوار- جدار
التفرغ للكتابة: الرواية الشفهية .. الحضور.. النجاح
*بعد تفرغك النهائي للأدب أصبح هذا مهنتك . ماذا عن تحويل الكتابة لمهنة؟ هل هو امتهان وتحقير لها كما قد يرى البعض ؟

**انتقد البعض أنني لا أعيش للفن بل أعيش من (الفن) فقلت: ياسادتي الكتابة مهنة شريفة ومشكلتكم أنتم وليس مشكلتي انكم لا تحترمون هذه المهنة سواء كانت فن أو حرفة فنية. وللحقيقة مثل هذا النقد يبدو لأول وهلة فائق الثورية، أما عند النظرة الثانية فهو فارغ رجعي يدعو الكتاب والفنانين فيه الى العيش في ظل خليفة أو بنك أو أرملة صناعي أو أميرة بترولية تسبح في المال وهؤلاء يغدقون المال على كاتب ليكتب ليس بحريته بل بحريتهم. نحن في عصر إنتاج رأسمالي والكاتب هو المنتج الإبداعي للكتب التي لا توزع بلا ثمن في دير من الأديرة بل في المتجر كسلعة مربحة، وحتى في المانيا تبلغ حصة الكاتب أقل الحصص من ثمن الكتاب فيما يعود الفضل الأول له في إنتاجه. هذا هو الواقع وما دام مجتمعنا مجتمعا رأسماليا فالكاتب منتج لسلعة تباع. نوعيتها ومحتواها ليسا هنا موضع البحث. ما هو مهم أن المنادين والمتأوهين من مادية الكتُاب اللذين يطالبون بحقوق نشر وبيع كتبهم يفعلون ذلك إما عن عدم دراية أو عن عمد غبي رجعي يريد إعادة الكُتاب إلى موضع الشحاذين الذين يعيشون من فضلة الحكام وهذه العقلية هي إحدى دواعي تأخر وعي منتجين الأدب العربي واعتزازهم بما ينتجوه. وقلة من دور النشر العربية تحترم كتابها. وقبل الدخول في المزايدات أو شتم أصحاب دور النشر، أطرح السؤال الأهم من المهاترة: هل يلعب دور الوعي الوظيفي المنخفض للكتاب العرب دورا رئيسيا في تسبيب هذا الظلم أم لا؟
وما دام أحدنا لم يرث بنكاً مثل الكاتب الألماني الشهير توماس مان فمن أين يعيش ؟ هل أحكي لصاحب البيت حكاية بدل الإجرة أم أشتري خضاري بقصة؟ ومن يمول الفترة التي أحتاجها لكتابة روايتي القادمة والتي ستبلغ حسب تقديري أربع سنوات؟
لا أنكر حق بعض القديسين أن يحتقروا حتى لمس النقود وأن يحيلوا معالجة هذه الأمور التافهة التي نسميها العيش الى أيدي زوجة مخلصة راضية أن تتحمل كل هذه الأعباء لتتيح الفرصة لزوجها أن يصنع الجنة على الأرض. أقول ذلك بشيء من الحزن ودون سخرية. لكني أسأل من الذي يعطي محرري البشر هؤلاء الحق في استعباد زوجاتهم. حسناً هناك فلان عاش أو يعيش هكذا زاهداً بكل شيء وامرأته راضية وأيضا قديسة. حسناً هذا قبلناه ولكن مجتمع كله قديسين يصبح مصيبة. دعونا إذن نتكلم عن مجتمع بشري عادي وفي هكذا مجتمع يكثر ليس القديسين بل مدعوا القداسة وهؤلاء يسيرون منتفخي الأوداج بتعالي يعيقهم من فهم الكتابة كمهنة شريفة في القرن 21 ويخفي تعاليهم، خوفهم من الواقع ومن المغامرة بكل شيء من أجل مانكتب ويحمل ضمن طياته أيضاً إحتقاراً بالغاً للكتابة ومن يمارسها لأنه يدعو بصورة غير مباشرة إلى إتباعها بجوقة الشحاذين الذين يعيشون من فضلات مائدة السلطان.

*هل وجدت أن نتاجك الأدبي تطور بعد التفرغ له؟

**عبر رحلاتي الأدبية المكثفة التي بدأت مع سنة التفرغ 1982 ولمدة سبع سنوات على التوالي في كل أنحاء البلاد أصبحت الأرضية مجهزه عندما ظهرت روايتي الأولى بالألمانية عام 1987 “يد ملؤها النجوم” وهي رواية على شكل مذكرات يومية لشاب دمشقي مسيحي وتعالج الحياة تحت الديكتاتورية بصورة واقعية جداً ونجح الكتاب نجاحا جيدا وحاز على ثمان جوائز أدبية. لكن النجاح الذي دمر آخر الحواجز كان من نصيب الرواية التالية والتي كانت مطبوعة على الآلة الكاتبة وراقدة في درج طاولتي تنتظر بفارغ الصبر الظهور إلى العلانية: “حكواتي الليل” وهي رواية عن الخرس المفاجىء كما ذكرت سابقاً ومنذ تلك الفترة استقرت أوضاعي ككاتب ولم يعد لدي أية مشاكل مادية مما سمح لي بالكتابة بتأني أكثر ولذة فائقة لأنني لم أعد بحاجة للتفتيش عن دار للنشر فقد أصبحوا هم يفتشون عني لمصلحتهم المحقة، وبذلك لم أعد أخشى سوى ضميري والكلمة. كان ذلك النجاح المدوي في صيف 1989. التأريخ ضروري لأنه يظهر وبالمحسوس طول الطريق الذي قطعته والذي كان ولا يزال في ذاكرتي – والكاتب الذي لا ذاكرة له مصيره الهلاك – مركز المناعة الأكثر فعالية ضد أية إغراءات سخيفة.

* مما قرأته عنك وأنا أعد لهذا الحوار أنك انتهجت اسلوباً خاصاً في قراءة قصصك وفصول من رواياتك للجمهور إلى الدرجة التي قال عنك البعض أنك لست سوى حكواتي .. كيف كنت تقدم رواياتك للحضور ؟

**لم أسر على الطريق المألوف هنا، حيث يأتي الكاتب ويجلس على كرسي (مع أو بدون طاولة) ليقرأ فصلا أو فصولا من روايته أو قصائده. لقد كانت طريقة روايتي للقصص تستمد هيكلها من التراث الشفاهي. أي أنني كنت ولا زلت أصعد إلى خشبة المسرح بدون كتاب بعد أن أكون قد أصبحت عبر التحضير الدقيق متمكنا من قصتي كتمكن ممثل مسرحي من نصه. لم أكن بحاجة لحفظ النص بصما كالببغاء فالنص نصي ويعيش معي. لكني كنت ولا زلت بعد أكثر من 25 سنة ممارسة أخشى النسيان وتداخل الأحداث والإنفعال لتجاوب الجمهور الذي يبلغ هنا حدودا تحرك قلباً من حجر. وكذلك كنت ولا أزال أخشى تساقط اللغة الأدبية الجميلة الى درك نشرة أخبار. لهذا ولكي يكون النص درة أدبية مثيرة للعقل والقلب تلهب الجمهور وتبهره بجمالها كنت أحضر كل أمسية بكل ضمير وأحفظ فقط خيطا أحمرا يوصلني إلى مخرج المتاهة وأما القصة فكانت حاضرة في قلبي وعقلي تماماً. كانت أمسياتي الأدبية شبيهة بما يسمى في المانيا “مسرح الرجل الواحد” الذي يعتمد على مونولوج طويل. وطبعاًً يمكن بشيء من السطحية تشبيهه بالحكواتي مع الفرق الجذري أنني أروي قصصي التي تولد على خشبة المسرح كل ليلة من جديد، أما الحكواتي فيقرأ أو يسرد قصصا قديمة يحفظها بصماً وتسرد بنفس المحتوى والبنية في كل مكان ( الزير سالم، عنترة ، علي الزيبق.. الخ) يقال في الألمانية “كل تشبيه يعرج”، وهذه حكمة، فلا قصصي تتشابه مع غيرها، ولا أسلوب إلقائي يمت بقرابة لماهية وكيفية مايلقيه ما يسمى بالحكواتي. كل قرابتنا تتلخص بإنتماء كلانا للفن الشفاهي. وهذا التشابه الذي يحبه أعدائي كآخر سلاح للتقليل من أهمية أدبي يشابه في دقته تسمية الأميين كل من يلبس طقم “أستاذ”.
القصة في الشفاهية لا حدود لها فهي تولد كل مرة من جديد بحدود رؤية وقدرة راويها اللغوية. كان هذا بالنسبة لي تحديا يوميا فيه كثير من المتعة واللذة وكثير من الإرهاق خاصة وأنني أروي لمدة تتجاوز الساعة قصة بالألمانية الأدبية ذات حبكة تزيد من فضول الناس الى بقية الكتاب. وكنت عند النهاية أنزل من خشبة المسرح وأنا كجثة سعيدة بينما قلبي ينبض فرحاً لأنني كنت في تلك اللحظات قريب من دمشق وحي العبارة حيث حلمت يوما أن أقف على مسرح وأحكي للناس. بعد سنتين من التجربة أيقنت دون غرور أن ما أقدمه بهذه الطريقة لا يقدمه أحد غيري وبالتالي كان ذلك الفرصة الوحيدة الممكنة للخروج من الظلمة

*وكيف كان تفاعل الجمهور الألماني مع طريقتك في الرواية .. وماهي ردود أفعاله ؟

**كان لعنصر المفاجأة دوراً إيجابياً. إذ كيف يملأ أجنبي أمسية أدبية بكاملها لوحده ؟ أحد النقاد الأدبييــن المشهورين أقر بصراحة أنه أتى إلى محاضرتي كمن يذهب إلى السيرك آملاً أن “يحدث” شيء، أن يسقط البهلوان من علو شاهق ويدق عنقه أو يلتهم الأسد مروضه وأضاف الناقد أنه راقبني لمدة 10 دقائق مفتشاً عن أخطاء ثم وفجأة نسي نفسه وبدأ يخاف على بطل القصة الذي وقع بأزمة.
بدأت رحلاتي مثل المسرحيين والمطربين عبر البلدان الثلاث الناطقة بالألمانية سويسرا، المانيا والنمسا وكان الإقبال ضعيفاً في البدء ثم ازداد تدريجياً لأن كل من سمعني لمرة أصبح سفير شرف لي في مدينته وكنت أسجل بعد إنتهاء الأمسية عنوان القصة التي رويتها لكي لا أعيدها عند زيارتي المقبلة للمدينة ثم أسجل ( وهذا لا زلت أفعله حتى اليوم) أخطائي في الأمسية لأتجنبها في المرات القادمة. وبدأت الهجوم في مطلع الثمانيات بحوالي 40 محاضرة سنوية ازداد عددها ليصل في منتصف الثمانيات الى أكثر من 150 محاضرة. كنت أسافر طوال الأسبوع لأعود في عطلته للبيت حيث أجهز حقائب سفري وأرتاح وأحضر للأسبوع التالي. كنت في تلك المرحلة عازباً، مما سمح لي بالحياة البدوية من فندق لفندق حاملا معي حقيبتي وآلة صغيرة للطباعة ( لم يكن الكومبيوتر بعد منتشر بهذه الصورة) لكي أرد من الفنادق على البريد الهائل الذي كان يصلني من قرائي، ولكي أستمر بالعمل في رواية “الوجه المظلم للحب” التي رافقتني حتى ظهورها عام 2004 حوالي 30 سنة. كنت أمر ببعض المدن الكبيرة كبرلين وميونيخ وفيينا وزيوريخ ثلاث.. أربع مرات في السنة وألاحظ دهشة المستمعين لأنني لا أكرر قصة. وكنت ألاحظ امتلاء القاعات الذي أصبح نهاية الثمانينات القاعدة.
وزاد هذا النشاط من توزيع الكتب بشكل كبير ولما بدأ تجار الكتب يطلبون من المستمعين ثمن بطاقة للدخول تجاوز آنذاك 10 مارك (5 يورو) طلبت بجرأة وبعد نصيحة المستشار الحقوقي لإتحاد الكتاب الألماني على كل محاضرة مبلغا يعادل تقريبا ثلث دخل الأمسية (الثلث الثاني للتكاليف والثالث يربحه من ينظم الحفل، إن كان ذلك نادي أدبي أو مجموعة ثقافية أو تاجر الكتب ذات .

*هل كان هذا (العمل ) المتواصل والشاق ضروري لتحقيق كل هذا الحضور على الساحة الألمانية؟

**نصحني البعض بالتقليل خوفا على صحتي ( كنت أدخن وقتها ثلاث علب سكائر من النوع الثقيل ولا أنام أكثر من ست ساعات) لكني أيقنت أن صحتي تزداد قوة كلما فرّج الجمهور بمحبته عن همي. خاصة أن الشعبية هذه كسرت وللأبد حاجز الصمت وردعت العديد من أعداء الثقافة العربية والذين جمدت الضحكة الساخرة على أفواههم عندما رأوا أني أفلت من حصارهم. لم يبق نجاحي سراً على الناشرين وهكذا بدأوا في مطلع التسعينيات سؤالي عن “قصة” من قصصي مما سمح لي بحرية الأختيار. بعد إفلاس دار النشر الصغيرة “ماليك” واستعادتي لكل حقوق الطباعة إخترت الذهاب إلى أفضل دار نشر المانية “دار هانزر” التي تملكها عائلة هانزر الألمانية منذ خمس وسبعون سنة وهي من الدور القليلة الحرة ( أي بدون شريك عملاق) وهي دار نشر أومبيرتو إيكو وميلان كونديرا وهينينغ مانكيل وسوزان سونتاج وغوته وغيرهم من الكتاب العالميين. ودون هذه الرحلات الشاقة والتي لم تترك مجالا للتعامي عما أكتبه لم يكن بإمكاني إيصال كتبي للقراء.

*ما هو الأثر الذي خلفه هذا النجاح لك؟

**النجاح لدى الجمهور وتحرري من ديوني المتراكمة حررني من التبعية لمبيعات الكتب وزادني جرأة (بعض الناشرين سماها وقاحة) في المباحثات حول العقد وأنا لا أبالغ إن قلت أن أغلب الكتاب ضعيفون في الحساب خاصة الجمع والتقسيم ويحسدوني على عقودي التي تضمن لي ولعائلتي الحياة الجيدة ، وتضمن لعائلتي حياة بدون عوز بعد موتي فحقوق الطباعة تستمر لمدة 75 سنة بعد صدور الكتاب.
هذه الأمسيات ربت لي جمهور من المستمعين لا يزال حتى اليوم يحملني بإخلاص في قلبه حتى وإن غبت عن المحاضرات لسنين كما حصل بين

عامي (2001-2004) أثناء المرحلة الأخيرة من إعداد الرواية الكبيرة “الوجه المظلم للحب”. فهذا الجمهور استقبلني في “رحلة المئة مدينة” التي قمت بها بين خريف 2004 وصيف 2005 استقبالا حارا .. يجبرك أحيانا ولدقائق على الصمت أمام هذا اللطف الذي تستقبلك فيه قاعة تعج بأكثر من 500 إنسان عملوا طوال النهار وتركوا كل شيء ليسمعوا قصصك (في بعض المدن وصل عدد الحاضرين في يوم عادي من أيام الأسبوع الى 1200 مستمع.

المركزية الاوربية .. الشرق: الخصوصيات
*لمَ تنكر على الكاتب العربي إن يتأثر بـ بلزاك أو دوبوفوار أو حتى ماركيس الذي هو خارج المركزية الأوربية كما تذكر. أليس الحضارة العالمية سلسلة متصلة منذ فجر التاريخ حتى الأن؟

**أنا لا أنكر على أحد الأخــذ بأي طريق. لا بل أوكــد أن كل موضوع يملي طريقاً خاصة ليصبح رواية وقد يكون الطريق في بعض الأحيــان طريق ماركيز أو بلزاك أو الماغوط بديع الزمان أو مزيج منهم. ما أرفضه بتاتاً هو أن يصبح أحد هذه الطرق الطريق الواحــد الأحد. ومتى كان الموقف إحتقار كل ماهو في جذورنــا الثقافية وإعتباره باليــاً يصبح رفضي مؤكــداً. خذ مثال من الحياة كل لغة جميلة وتعلم اللغات عمل مفيد جداً ويساعد الفرد والجماعة على التقدم. لكن أن يتفذلك بعضهم وسط دمشق أو القاهرة بتكلمه الفرنسية لأنها حسب إدعاؤه أجمل فهذا ليس تقدم بل تأخر.

*هل سيكون استنكارك نفسه لكاتب أوربي تأثر بألف ليلة وليلة أو الحكايا الشفاهية في الشرق أو حتى برفيق شامي؟

**رفضتــه وسأرفضــه إذا كان تقليــداً كموضة أما إذا كان ذلك إبداعي عصامي فأنا أول من يشجعه.

*عن المركزية الأوربية.. ألا تعتقد أن هذا صحيح على الأقل راهناً فنحن لم نعد نقدم أي شيء للعالم سوى الأرهاب وبالتالي أليس هذا أمراً واقعاً أن نكون متلقين جيدين فحسب إن لم يكن لدينا ما نقدمه للعالم غير السيء.

**ما دمنا لا نحرك ساكنا فسيجرنا التيار إلى حيث يشاء. لدينــا الكثير من الطاقات المبدعة الذكيــة والتي تُظْلَم بحجمها ومنعها من النور وأنا أعطيــك مثالاً بسيطاً . لقد حظي الكاتب المصري الشجاع وشهيد الكلمة فرج فودة بترحيب كبير عندما إطلع القراء الأكاديميــن الألمان على كتبه. لقد قرأت أغلبها وأنا أعتقد أن أعمالاً كثيرة أكثر دقة مما كتبه فرج فودة لا تزال مجهولــة في العالم وستفرح قراء كثيرين لو عرفوا بها بعد ترجمــة ممتازة. ما أقوله عن الكتب السياسية ينطبق على القصــة والشعر. فأنا أشعر بسعادة غامرة عند قرائتي الكتاب الجدد من المغرب إلى الخليج إلى بلاد المهجر والمنفى. قبل فترة قرأت كتاب الكاتبة التونسية رجاء بن سلامة “العشق والكتابة” والذي أصدرته دار منشورات الجمل. هذا ليس كتاب، هذا درة نفيسة. هناك فعلاً محاولات جريئة وجديدة كل الجدة وستجبر يوماً العالم على أخذها بعين الإعتبار.
الأبحاث العلميــة تحتاج إلى رعاية دائمة وإلى قاعدة عريضة وبنية مدرسية علميــة وعقلانية تبدأ هنا في المانيا في الصف الخامس حيث يشترك إبني إميل منذ سنوات “بأبحاث الشباب” وهو تشجيع على الإختراع وقد حصل إميل عدة مرات على جوائز لكن الأهم من الجائزة هو تشجيع الأطفال على التفكير العلمي، على التنطيم وعلى الصبر وطول النفس. في السنة السابقة قدم إميــل مع زميله وكلاهما لم يتجاوز 13 سنة بحثاً عن الأذن البشرية كخاصة مميزة لكل إنسان كبصمة الإصابع. وقد صور حوالي مئتي أذن ليصل إلى نتيجة علمية وكنت أرافقه كسائق وهو يبحث عن توائم ليبرهن أن آذانهم أيضا مختلفة وهنا تعلم معي وتعلمت معه الصبــر والبشاشة خاصة وأن الأشخاص غرباء كلية. الذي أثر علي أكثر الحفاوة التي قابله بها الناس الذي ذهب اليهم طالباً السماح له بتصوير آذانهم ولزم في بعض الحالات تصوير الجد والجدة والإبن والإبنة والحفيد والحفيدة ليقارن نقاط التشابه والإختلاف في الكومبيوتر إذ أن الصور كانت بكاميرا إلكترونية (ديجيتال).
وما دامت المدرسة والجامعة في البلاد العربيــة لم تع مهمتها الحضارية بل أصبحت إمتداداً لعصى الدولة فليس هناك أمل أن نساهم عالمياً بالجديد. وليست الصهيونية من يسبب تأخر أبحاثنــا بل نحن بذاتنا.

*أليست الرواية هي فن أوربي حديث وكل محاولة لتأصيلها عربياً هو من نوع الديماغوجيا القوموية الإسلامية التي تعاد وتدرس وتلقن بشتى الوسائل منذ مئات السنين بأننا مصدر كل شيء ولدينا جذر لكل شيء في تارثنا …؟

**الرواية كما نعرفها اليوم هي فعلاً إختراع أوروبي ولا داعي لتكرار أن الأوروبي يحمل في أعماقه المصري القديم والعربي…الخ وليس هناك أي داعي للبحث العقيم عن جذور إسلاميــة لكل شيء حتى لداروين. لكن بما أنه ليس من الممكن فصل الشرق عن الغرب خاصة في المجتمع الحالي السلعي والذي يمكن فيه شراء حذاء مصمم في المانيا ومصنع في جزء منه في الهند وفي جزء آخر في بولونيا. فمن المضحك أن نُصِرعلى إمتلاك جذور ما وكأننا بائعي فجل.
نحن كبشــر محكوم علينا بالتداخل و الإختلاط – وهذا ما سيدق إن عاجلاً أم آجلاً أعناق القوميين والإسلامويين لأنهم يقفون ضد مسيرة التأريخ – بل لا أبالغ إذا قلت لاإنسانيــة بدون تداخل للحضارات. من الممكن دون رياء أو خداع للنفس أو تقليد أخذ أي شيء وصنع ما هو خاص منه لتزداد إنسانيتنا جمالاً وهو غرض الأدب من وجهة نظري. الأعداد مثلاً عربية في إنتشارها العالمي وهندية في أصلها ودون إختراع الصفر العبقري لما كان الكومبيوتر ممكناً فهل توقف الغرب حيال الصفر مصفراً خوفاً أنه لم يخترعه؟أم أمضى الليالي بالفتاوي حول أوروبيــة الصفر؟ أم أنه أخذه وصاغ الكثير من تقدمه به؟ أنا لا أشغل نفسي كثيراً بالأسئلــة المضنية حول ملكية وجذور فن القصة بل أعمل منها ما أراه مناسباً مثل الخياط الذي ينظر إلى لفة قماش ويتصور صنع 10 قمصان أوروبية المظهر أو هندية أو عربية.

*في الوقت الذي تنتقد فيه سدنة الخطاب الرسمي العربي ها أنت تكرره بصيغة أخرى حول الخصوصية وما إليها التي هي أحد أهم مفردات خطاب السلطات العربية في قمع شعوبها …

**سامحك الله يا جميل الخلق. إنا أدعو ليل نهار للمساواة بين البشر والشعوب وأنت تلصق فيَ خطاب السلطة. لا خصوصيــة لأي كائن إلا بالجميل الذي يقدمه ليصبح ما نراه كقوس القزح المتعدد الألوان والذي يعود في مجمله للون واحد ولكن حتى الرمز في الكتاب المقدس فيه حكمة. ظهور قوس القزح بعد الطوفان بالألوان المتعددة كان عهدا للسلام بين الأرض والسماء

.
*من خلال حديثك عن خصوصية ثقافتنا وأسلوبنا و… ألا ترى أنك تقف ضد الاتجاه العام عالمياً السائر نحو الإندماج في كرة أرضية واحدة.؟
بالعكس أنا مع إزالــة كل حدود ولكني أرفض أن يتخلى الإنســان عن جمال فرادته وإلا أصبحنا مخلوقات عديمــة الوجه متماثلة 100% تسبح كلها في حوض زجاجي وتتغذى بنفس الشكل وتغني وترقص وتبكي بنفس الشكل وتحيي عند كل صباح العلم الأمريكي أو أي علم آخر. هذا بالفعل ما أخشاه عندما نسقط الخاص في الإنسان.
المثقف العربي: الغياب الحضور.. علاقته مع السلطة و… الضمير

*أنت في مجتمع ديموقراطي ومعروف في ألمانيا إن لم نقل مشهور أليس لك علاقة مع بعض الساسة الألمان؟ كيف ترى لعلاقتك مع السلطة أياً كانت ؟

**علاقة خوف ورفض. وقد يضحك ذلك بعض القراء. أرفض أية علاقة بأي سياسي حاكم. فأنا على يقين من أن الحكام كالمفاعلات الذرية تلوث نفسها ومحيطها. ورغم أنني أعيش منذ 35 سنة في ألمانيا ورغم أنه بين ملايين قرائي سياسيين كثيرين يعلنون بدون تكلف أنني كاتبهم المفضل ويدعوني هذا السياسي أو ذاك لحفل عشاء أو حتى زيارة شخصية لكني أرفض شاكراً بأدب.
هنا في البلاد الديمقراطية يصبح الوزراء والنواب جيرانا عاديين وليس كما عشت أنا تحت الديكتاتورية التي تحول حياً بكامله إلى ثكنة عندما يقطن إبن خالة سائق رئيس المخابرات في الحي. أو عندما يزور أحد الضباط الأشاوس عشيقته. لكني رغم ذلك لاأرتاح في أي علاقة شخصية مع أي حاكم.

*ما هو المصدر أو الجذر الأساسي لهذا الرفض الشامل ؟

أظن من طفولتي وخوفي الدائم من الحكام. لأن السلطة الطاغية لا تعرف الحياد ولا ترى من ألوان الطيف سوى الأسود والأبيض ولأنها لا تسمح لحرية من يعاشرها إلا بحدود ما يسمح لها عقلها وهو في عصرنا في منتهى الصغر. وحتى حكام الماضي الأذكياء كمعاوية والمنصور وهارون الرشيد والمأمون كانوا لا يرضون عن فكر معارض في جوارهم وأجرموا في حق كل من خالفهم حتى ولو كان الخلاف على نقطة واحدة ولم يخجل الطغاة من مكانة المفكرين وثمراتهم ومسحوا بهم الأرض أمام الملأ حتى لو كانوا من عظماء عصرهم كابن المقفع وابي حنيفة ومالك وإبن رشد والمتنبي وبشار بن برد وإبن مقلة وغيرهم مما ذاقوا الويلات.
فكيف الحال مع طاغية أيامنا الفقيرة هذه الذي لا يمكن مع كل تسامح تشبيهه بالمأمون دون إهانة الأخيــر. الطاغية العربي يأتي في الزمن الفقير من العدم ويحول كل ما تلمسه يداه إلى عدم. والأمر الأكيد أن أحد أسباب ركود الفكر وفقره أن قلة من المثقفين العرب تدرك الأثر السلبي لدور العشيرة التي أنقذت العرب من الموت في الصحراء لتستعبدهم حتى اليوم. كل هذه الطاعة لشيخ القبيلة كل هذا السحق للفرد أمام أهداف القبيلة والركوع أمام الكبير حتى ولو كان غبياً. كل هذا التضخيم والتفخيم لما يقوم به شيخ القبيلة أصبح الآن في القرن الواحد والعشرين سلاسل تكبل إنساننا في عصر محركه الوحيد الفرد الحر الكريم وإبداعه.

*تقودني هنا إلى السؤال: لمَ لا يجد المثقف العربي حرجاً في عدم اتخاذه موقفا اخلاقيا واحداً ثابتاً بصفته ضمير قبل أي شيء آخر وكيف تنظر إلى هذا بالمقارنة مع المثقف الاوربي مثالاً ؟

**الحرج يحتاج لنقاء نفسي لذلك يصاب به الأطفال أكثر من البالغين. النفس يمكن ترويضها على كل شيء ومع إستمرارية 40-50 سنة من الترويض يصبح مثقفوا الدولة ذوي مناعة لكل ما يحرك الضمير. خذ مثالا من الطبيعة. الشجرة الصغيرة التي لا تنحني أمام الإعصار تقلع أو تكسر فإذا استمر الإعصار 50 سنة سبب الأنحاء الدائم للشجرة نمواً مشوها لها يصعب إصلاحه.
من جهة ثانية ليس هناك فرق بين النفس الأوروبية والعربية وهذا ما أحاول قوله في كل ما أكتبه فالإنسان هو هو سواء في أوروبا أو أفريقيا أو البلاد العربية. الكاتب الغربي يتمتع بالحرية ولا يرزح تحت طغيان حاكم أو عشيرة أو إرهابي إسلاموي. لكن المثقف الأوروبي عرضة لأغراءات ومخاوف أخرى تمنعه أيضا من التحليق الى فضاء الإنسانية. إغراءات مادية يلوح له بها أصحاب وسائل الإعلام والذين إحتلوا بهدوء ودون ثورة دموية مكان القياصرة والأمراء والنبلاء وصارت محطاتهم ودور نشرهم بديل للقصور والقلاع في الأزمنة الغابرة. وترى هنا كيف يُفرض بعض الكتاب والمخرجين ويدعمون بالملايين لكي يقدموا لنا في النهاية فناً من الدرجة الثانية لا يتجاوز بتأثيره الحدود الألمانية بينما يرفض نفس القائمين على هذه الدور أعمالاً عظيمة أو يحجبوا كل مساعدة مجبرين الكتاب والمخرجين على العمل المنهك وليس الإبداعي لتجاوز جدار الصمت الرهيب. قلة من الكتاب الغربيين يستحقون تسمية “ضمير” شعبهم. كما أن تماهي الكتاب الأوروبيون مع حضارتهم المنتصرة يسبب نوع من الكبرياء والعجرفة تجاه العالم الذي أجبر على التخلف، تذهب بآخر ما أثر به فلاسفة النهضة على شعوبهم الأوروبية. لدي زميل ألماني يتحدث بفخر وعجرفة عن الصناعة الأوروبية والعبقرية الأوروبية وكأنه هو الذي اخترع السيارة.
وأكثر ما يخافه المثقف أو الكاتب الأوروبي هو نسيانه من القراء. الحياة هنا سريعة جداً ومن كان بالأمس مشهوراً يصبح وبسرعة مذهلة مغموراً. هذه سنة الحياة هنا ومن يفهمها لا يخشاها.

*إذا كانوا يشبهوننا كما ترى فما هو سر تفوقهم ( الحضاري ) علينا، ولمَ لم تتخلف بلدانهم مثلنا. ومرة أخرى أراك حين تقول بأن مجتمعاتنا أجبرت على التخلف تتجاهل العامل الذاتي الذي هو سبب رئيس لتخلفنا كما يرى آخرون

**جازاك الله خيــرا ياكريم. جواب هذا السؤال مكتبة كاملة تخرج بعدها وأنت لا تملك الجرأة أن تجيب.لو سألتني هذا السؤال قبل 40 سنة لنتعتك ( بعامية حي العبارة = ضربتك) خطاباً مجلجلاً طناناً كالطبل وفارغاً مثله يشبه خطابات السبعينيات أما وقد شاب شعري فسأحاول بتواضع لمس بعض زوايا الجواب.
عليك أخذ مسألة دور القبيلة في حضارتنا ثم دور المدينة في الإنتاج الآسيوي بنمطه العربي والذي يختلف جذرياً عن دور المدينة الأوروبية ثم خصوصيات الفكر الأوروبي الذي قاد المجتمع الأوروبي بما يشبه إنفصام الشخصية ( أو كما يقول الألمان بأخلاقية مزدوجة أو كما تقول ستي من برا رخام ومن جوا سخام) مناديا بحرية الفرد ومستبسلاً حتى الموت في الثورة من أجل الحرية من جهة ومستعبدا لكل ما يمكنه بقوة سلاحه الفتاك وناهباً لخيرات وأرواح شعوباً بكاملها وتحطيم كل من تساوره نفسه بالسير معهم كتفاً لكتف كما حدث لمحمد علي الكبير في مصر وللصينيين الذين كانوا حتى أكثرتقدماً وإنتاجاً من أوروبا كما بينت الأبحاث الحديثة فاضحة الكذب الإستعماري أن الصين كانت حتى احتلالها من البريطانيين متخلفة. اليوم يعود الصينيون ليقتحموا أسواق العالم.
وهذه الحضارة ذاتها لها نواحي سلبية كثيرة منها مثلاً لا حصرا: رافق التطور الصناعي تصور خاطىء أن الأرض منبع لا ينضب للخيرات وهذا سمح لهم بالإنقضاض على ثروات الأرض وتلويثها بهمجيــة ما بعدها همجيــة على عقلية “وليأتي بعدي الطوفان” والأرض المسكينة الجميلة حساسة كالطفلة الصغيرة. ولا أريد هنا التأكيد أن الصينييــن تخلوا عن كل “أخلاقهم” القديمــة المحبة للأرض وانهالوا في تسابقهم عليها كالصناعييــن في القرن التاسع عشر والأرض بدأت على طريقتها بالإحتجاج بالزلازل والطوافانات والتلوث والأمراض التي لم تعرفها البشرية وأنا أظن حسب ما أقدره عبر دراساتي المتواضعــة أن أول كارثة سيذهب ضحيتها الملاييــن ستكون في الصين. وأن البلاد العربيــة قادمة على كارثة بيئيــة إن لم تصحوا الأنظمــة إلى واجباتها تجاه الأجيال المقبلة.
ومن جهة أخرى – لنعود إلى أسباب التأخر- للإستعمار العثماني حصة كبيرة في تأخرنا إذ أن الظلمة سادت لـ400 سنة ولم نخرج منها إلا والقطار صار وراء الأفق. ثم أتى الإستعمار الأوروبي ثم الديكتاتوريات على مختلف أوجهها لنزيد الطين بلة كما يقال. ومسؤليتنا نحن في أسباب التأخر كبيرة. بدل الإجتهاد للحاق بهم لا زلنا حتى اليوم نزيد كارثة تأخرننا بتمويهها كذباً وهذا جرمنا نحن. هناك إمكانيات كافية ووافية لكنها تهمل وهناك كوادر رائعــة مؤهلة لكنها تمنع وتقصى.
التأخر هو تقييم عبر قياس مقارن. والعصر الحديث يتصف بصفة تجعله يختلف إختلافاً جذرياً عن العصور القديمة بالسرعة المذهلة لتطوره. اليوم تطبع المانيا مثلاً في سنة كتباً لم تطبعها الكرة الأرضية مجتمعة في القرون الوسطى بمئة عام. هذه السرعة تلقي بكل من لا يملك وسائلها إلى الخلف. لذلك يزداد تأخرنا رغم محاولاتنا اليائسة لتمويهه. فنحن اليوم في سوريا مثلاً أكثر تأخراً عننا في أواسط الخمسينيات. هذا ليس داعياً لليأس بل للتشمير عن الساعدين والبدء بأول مؤهلات التقدم وهي برأيي الحرية والديمقراطية وبدونهما سنظل نرواح في مكاننا مكذبين على أنفسننا بأن الآخرين هم السبب.
الحرية أم السؤال الباحث والمنقب والديمقراطيــة هي المرشــد الأفضل للطريق الصحيح إذ يمكننا حل أية مشكلة بالتشاور بين الخبيرات والخبراء أفضل مئة مرة من عبقريات طاغية آتي من العدم الفكري. ولن أنسى المشهد الكاريكاتوري في الفضائية الصدامية لصدام حسين وهو يلقي بتعليقاته العلمية على علماء ذرة عراقيين وهم يهزون رؤوسهم موافقة وإعجاباً. بالنهاية كل هذا المشهد الكاريكاتوري ليس له علاقة بالتقدم بل نتج عن تقليد صدام المريض نفسياً لأفلام الدعاية الستالينية والهتلرية التي درسها بعناية وحفظ ما ظنه لازماً لقائد فذ.
أنا لا أعتقد بضرورة التصنيع الثقيل مثلا في بلد صغير مثل سوريا بل بالتركيز على أبحاث في مجال الطاقة الشمسية الممكنة بتقنية معقولة ثم بتصنيع على مستوى عالي من الجودة للحرير وللقطن والملابس القطنية ليس كبضاعة رخيصة بل كمنتجات نادرة الجودة لأسواق حرة. لدينا بيئة نحسد عليها فلمَ لا نبحث ونتقدم في الصناعات الغذائية ذات الكيفية العالية بدل أن نسلك طريقاً نحرق البيئة والأخضر واليابس لكي نزيد وبعنف قسري إنتاجنا ليفرح وزير ما بالإحصائيات المملة.
إنسان مكتف ذاتياً ويعيش بحرية وكرامــة هو الهدف الأعلى لأية حضارة وهذا ليس بعيداً عن متناول اليد. وفنلندا البلد الصغير الذي شارف على التأخر وقيل أنه يعيش كلياً من الوساطة بين جاره العملاق السوفييتي والغرب. إنتقل بأقل من عشرين سنة ليس فقط لأضخم منتج للجوال(الموبايل نويكا) لا بل وبجهود بناته وأبنائه لأفضل دولة أوروبية من ناحية التعليم تاركاً المانيا وفرنسا وسويسرا وووكل البلاد التي بدت وكأنها لا تُلحق ورائه حسب الدراسات المتوالية لوضع المدارس الأوروبية. واليوم يتسابق الألمان والإنكليز والفرنسيين للتعلم من الفينلنديين.

*هل تعتقد أن عدم قبول الصوت المغاير المختلف… من الانظمة الحاكمة هو سبب فيما نحن عليه الآن من تخلف …

** بالتأكيد. هل تريد أن تعرف أحد أسباب تأخرنا ؟ أقدم لك مئة مثال. وأقولها دون مزاح هذا موضوع لكتيب سيكتب له نجاحا منقطع النظير لدى القراء العرب: 100 حكاية ( وليس مقالة) صادقة عن أسباب تأخرنا. واحدة منها تكفي ببلاغتها في حوارنا. من التأخر أن يعاق أكاديمي لامع ومفكر كبير مثل عبد الرزاق عيد عن العمل والبحث والتعليم، لينهي مع آخرين زمن الظلمة بأسلوبه الرزين والحكيم والمشوق لكل طلاب العلم والمعرفة كما ولقراء العالم، بينما تسيطر أذناب المخابرات العقيمة فكريا على كل المقاعد الحساسة في سدة التعليم والبحث الجامعي. ولا عجب أن ينحدر صيت ومستوى الجامعات السورية والعربية إلى أخفض درك. وعفوا أيها الأخوة ليست الصهيونية وراء هذه المصيبة ومصائب أخرى فنحن السوريون والعرب على العموم نخفف عنها العمل ونوفر عليها الكلفة. جزارونا الأبطال ينحرون ثقافتنا بأيديهم وبمنتهى الوطنية.
كم من مثقف تابع لهؤلاء الجزارين التقيته في معرض الكتاب العالمي في فرانكفورت وحاول إقناعي أنه يلعب على أحد الأنظمة وأنه لا يزال رغم عمله في الجامعة أو حتى وزارة الإعلام أو الثقافة يقاوم!! – ومع سعة خيالي لا اعرف ماذا يقاوم هذا التعيس – اذا كان منخرطاً في مؤسسات النظام.

*هنا أيضاً تستدرجني لسؤال حول المثقف العربي أو الذهنية العربية بشكل عام. لمَ يشكو (العقل العربي) من غياب الموقف الاخلاقي الذي لا يمكن له إن يساوم عليه؟ موقفه من قضايا السجن.. الرأي .. الحريات سواء لاقرانه في نفس البلد أو لاقرانه في بلدان عربية أخرى وتلاحظ كما الاحظ أن كتابا عرباً لا يجدون غضاضة في الالتقاء بحاكم عربي يعذب ويسجن اقرانهم ومع ذلك يصدرون كتبا عن الحريات والحقوق والـ … كمثال يحضرني ( المفكر ) المناضل عزمي بشارة الذي التقى باكثر الحكام العرب وأكل على موائدهم في الوقت الذي لا يبعد أنين المعتقلين عن مكان المأدبة التي يأكل عليها كثيرا … والامثلة الاخرى كثيرة….

**لو أن الأمر انحصر بعزمي بشارة لسهل الجواب. لقلنا مثلاً هذا قد حصل نتيجة فقدان عزمي بشارة لرشده لما حل به وبوعيه من تنكيل إسرائيلي جعل أغلظ العرب وأبشعهم جميلا في عينيه وقريبا من قلبه. لكن المسألة أبعد من ذلك. إنظر بربك إلى الجيوش الجرارة للكتاب العرب الذين لا يتركون طاولة حاكم إلا ليلحقوا بطاولة ثانية. كمثال بسيط من الكتاب المعروفين نزار قباني ومحمود السعدني اللذان ركعا أمام صدام ومن لا يصدق فليقرأ ما كتبوه. ولذلك لا أتوخى الخيـــر من أي هؤلاء المسكفين والمناضلين على الموائد لشعبهم إذا وصلوا إلى سلطة ما حتى ولو كانت وزارة لا قيمــة ولا حول لها. فهم سٍيعيدون نفس المآسي وسيصبحون بعد فترة قصيرة في السلطة توأم لإخوتهم في سدة السلطة القمعيــة العربيــة.
يعاني الكاتب العربي عموماً من ثلاث سلطات طغيانية تمنعه من الصعود بنفسه إلى سماء الإنسانية والإلتحام غير المحدود بالإنسان المسحوق الجميل مع كل آلامه. هذه السلطات القاتلة هي العشيرة، الطغيان السياسي والإسلامويون. ومن يخرج عليهم أو يفلت منهم يصبح بنظري قادرا على معانقة الكون. وهي معانقة أليمة قام بها ويقوم بها آلاف مؤلفة من المثقفين والمثقفات من المغرب إلى الخليج إلى بلاد المنفى والمهجر. لكن هذا يتطلب ليس الشجاعة فقط بل القدرة على التخلي عن المال والنجومية وعن دغدغة الأنانية المريضة في أنفسنا. هناك نقطة مهمة في تأريخ أدبنا وثقافتنا أملتها ظروف الصحراء وهي أن المثقف والكاتب على وجه العموم كان منذ القدم مرتبطاً بشيخ القبيلة وبعده بالملك والسلطان ومثـَل جهاز دعايته. فنحن اليوم نعرف عن الحكام الذين تغنى بهم ومدحهم الشعراء أكثر من أولئك الذين لم يكن لهم بوق دعاية. طبعا كان هناك شعراء ومفكرون ” صعاليك” خرجوا عن الطاعة لكن نتاجهم ذهب بأغلبه ضحية القسر والنسيان والحرق. ونحن لا نقرأ إلا ما كان يجول في القصور وما سمح بتسجيله هناك.عندما كان الخليفة ذا نزعة تنويرية كان هذا من اللحظات المنيرة للثقافة ومتى أظلم القصر أظلمت معه الثقافة.
لكن هذه التبعية للحاكم ولدت نزعة مرضية في تربيتنا الثقافية وهي يقين أكثر الكتاب أن مصيرهم بيد حكامهم. ويحضرني اليوم تعريف محمد سعيد القاسمي للشاعر في قاموس الصناعات الشامية الذي بدأه في القرن التاسع عشر. الشاعر: “هو من يحترف بواسطة أدبه وشعره، فينظم شعراً يمدح به الأمراء والأغنياء فينعمون عليه بما تسمح به أنفسهم”. لذلك استغرب أحد الكتاب حتى درجة الرعب عندما رفضت مقولته بأن لا أدب خارج السلطة بأطروحتي أن الأدب الوحيد الممكن اليوم سيكون خارج السلطة من داخل البلاد وخارجها.
إن ما يميزنا هو مقدار تماهينا مع مظلومي الأرض وليس فقط وقوفنا موقفاً صحيحاً وشجاعاً من قضية وطنية تمس مصلحتنا الشخصية اليومية لأن هذا من المواقف البديهية لأي إنسان له كرامة.
وأنا لا أظن أن مثل هؤلاء الذين يأكلون على موائد الحكام قد فكروا ولو للحظة بإخواتهم وإخوتهم في السجون وإلا لكانت اللقمة علقت بحلقهم وخنقتهم وهذا ما أتمناه لهم دون شفقة.

*هل قدر لمنطقتنا أن يبقى كَتبةَ السلطان هم أسياد المشهد ؟ ويحتلون برطاناتهم السمجة حاضر الثقافة العربية؟

العكس هو الصحيح. كتبــة السلطة والسلطان برهنوا بعد خمسين عاماً أنهم فاشلين ولا يقنعون حتى حماتهم ( لولا خوفها منهم). أنا لا أتنبأ إذا قلت أن وقت الأدب الآخر والصحافــة الأُخرى أتى وها أنت ترى كم من المواضيــع الحساسة أصبحت وبأساليب مثيرة للدهشة قابلة للنشر والتعميم. ها أنت ترى أدباً عربيــاً جميلاً يصدر من أيد الكاتبات والكتاب العرب من البلاد العربية ومن كل أصقاع العالم. وسترى يوماً كيف ستنقلب الموازين ويصبح كتاب الدولة معزولين بصحفهم التي لا يقرأها أحد ويتوددون حتى للشيطان لكي ينشر لهم إحدى قصصهم المملــة خارج البلاد.
*برأيك على من يكذب هؤلاء الكتاب هل يعتقدون أن القارئ من الغباء لحد تصديقهم أم أنهم فعلاً عبر كذبهم المتواصل استطاعوا خلق ذهنية عامة تصدق أكاذبيهم.. ألا ترى أن الكذب أصبح حالة عامة في مجتمعاتنا ؟
**الكذب عملية دفاعية ذات بنية معقدة جدا تبينتها عندما كتبت روايتي “الكاذب الصادق” والتي أجبرتني على البحث والتمحيص في كل أنواع الكذب حتى الحيواني منها ( التمويه أو الظهور بمظهر أكبر من الحجم الحقيقي أو إصدار الأصوات المخيفة أو إفراز ألوان وطعم يحذر المهاجم من سمية الطريدة مع أنها على الأغلب ليست كذلك… الخ)
كاتب السلطة يكذب دوماً وإلا لما بقي نهارا واحدا في جريدة الأهرام أو تشرين أو الوطن …الخ وهو يكذب أولاً واخيراً على نفسه ومتى كذب الإنسان على أعزما لديه وهي ذاته لا يصعب عليه الكذب على الآخرين. يوهم البعض نفسه بأنه سيد كلمته ويوهم البعض الآخر أنه يقاوم قدر مستطاعه وأنه لايعمل مع السلطة إلا لأنه مجبر ويستغرب منح السلطة له مناصب في هرمها الثقافي القزم ويُظهِر لك – إن أعطيته شيئاً من الوقت – أشعاراً وأبحاثاً منعتها السلطة لخطرها ومعارضتها.
إنه المثقف الذي لا يقول ما يفكر به ولا يصدق ما يقال له بل يبحث دوما عن المختفي الباطني وراء وتحت الكلمات. هذا التفكير الملتوي دوما يلوي بعد 40 سنة من الديكتاتورية عنق صاحبه.
الكذب يغمر بلادنا ويصل إلى حدود رهيبة. ولا أقصد بذلك الحكام فقط. أنظر حولك إلى التمويه الذي مكننا البترول منه. بعض العرب يظن نفسه متقدم ومتمدن لأنه يستعمل الجوال بسبب وبدون سبب أو لأن جاره يسوق سيارة حديثـــة ولأن لديه تلفزيون يلتقط أكثر من 100 فضائية… الخ أترى سيصدق هذا الشخص أنه متأخر أكثر من ممرض في بيمارستان نور الدين الدمشقي في القرن الثاني عشر؟ هل من التقدم إستعمال مصنوعات ليس بقدرتنا إنتاج ولا حتى البرغي الذي يشد غطاء الجهاز.؟ما هو عدد الإختراعات التي يسجلها العرب سنوياً؟ ماهو عدد الكتب التي تنتجها دولنا؟ أي دولة متقدمة يعامل فيها الإنسان كمعاملة الإنسان العربي في موطنه؟ كل هذه الأسئلة تكشف القناع عن الكذب الإجتماعي الذي تغلغل إلى قلوبنا.

*إذاً كيف نتقدم… بل السؤال الذي لازال راهناً منذ ما سمي بـ ” فجر النهضة العربية ” من أين نبدأ وكيف ..؟

هذا الواقع مصيبة. أحيانا أتساءل عندما أقرأ كتابا أو أسمع خبراً من أين أبدأ بالنقد مادام كل شيء كاذب. فلا حربنا حرب ولا سلامنا سلام ولاجبهتنا الوطنية جبهة ولا هي وطنية. لذلك يخاف الحكام وأقلامهم المأجورة من طرح الأسئلة حتى ولو كانت أسئلة طالب صغير. ليس صدفة أن يصر نظام تعليمنا على البصم والحفظ غيباً. لا أسئلة عن البيولوجيا ولا عن السياسة والجنس والدين ( رحمة الله عليك يا بوعلي ياسين أيها الشجاع) وأما عن التأريخ أبو الحاضر فأعوذ بالله. لماذا لا نتكلم بصراحة ودون تجريح عن كل شيء ونترك ذلك لقمة سائغة وأداة إبتزاز لأعداء الثقافة العربية؟
هذا إذا سألتني هو أيضاً أحد أسباب فشل الكتاب العربي في العصر الحديث المحتوى يدور ويلف حول الأمور الساخنة دون المساس بها.
هل هو الخوف من أن ينهار صرح وهمي؟ يشكك البعض أنه لو قلنا كل مانعرفه ويعرفه الكثيرون عن تأريخنا لما بقي إلا الشيء القليل مما نعتز به. حسنا لكن هذا الشيء القليل سيشكل قاعدة كافية ومتينة للبناء بدل هذه الأبنية الشاهقة على رمال متحركة. أمثلة بسيطة غير منتقاة: ماالذي أنجزه صلاح الدين فعلاً وما الذي خربه؟ ما الذي فعله الحسيني والقاوقجي في برلين النازية؟ لماذا لم يتفوه الشاعر الفلاني المشهور براديكاليته وإنسانيته بأية كلمة ناهيك عن قصيدة في محاضراته الكثيرة في دمشق للدفاع عن المعتقلين السياسيين السوريين الذين أحبوه وكانوا أول من ردد قصائده؟ كيف كان الشاعر المرهف والمدلل نزار قباني يستيقظ يوميا في بغداد صدام حسين؟
من يضطهد الفلسطينيين أكثر ويحاصرهم بالجوع؟ العدو الاستراتيجي إسرائيل أم المافيا الفلسطينية التي تهرب أموال الشعب الفلسطيني بمئات الملايين تاركة الأطفال وحتى الجرحى في جنين وغزة جائعين بين الأنقاض في شتاء عديم الرحمة؟
لا أزال حتى اليوم أذكر لقاءً مع مخرج سينمائي فلسطيني للأفلام الوثائقية، شاب نشيط بخلت عليه منظمة التحرير رغم حيازته على عدة جوائز بثمن الأفلام التي يحتاجها فراح يشحذ ويشتري أرخص أنواع الأفلام وبقاياها ليحقق حلمه في الدفاع عن جنين والقدس. لماذا؟ وأين مئات الملايين من الدولارات التي تجمع باسم الشعب وإلى أين تختفي بدل تمويل هذا العمل الثقافي؟
إن لم نبدأ بطرح هذه الأسئلة كيف سيتسنى لنا إيجاد الجواب؟

*هل تعتقد أن المنفى هو الذي منحك فرصة للرؤيا عن بعد كي تصوغ كل هذه الأسئلة.. هل له تأثيرات إيجابية أيضاً .. وماذا تعلمت منه ؟

**ليس المنفى شربة شاي مع سمر. الضريبة التي يدفعها المنفي عن وطنه وأهله وعن أمكنة طفولته عالي جداً. شبهت المنفى في إحدى مقالاتي بالوحش الضاري الذي يمكنك بتدريبه اليومي أن تقدم معه نمرة أو عرض فني اخاذ كما ينجح المروض في تحويل الأسود والنمور إلى قطط أليفة كبيرة نوعا ما ولكن فقط لدقائق. وعليك دوما الحرص لكي لا يدق هذا الوحش الضاري عنقك في غفلة. المنفى له الى جانب وجوهه المؤلمــة الكثيرة وجه مضيء فهو يحررك بضربة واحــدة من كل خوف بعد أن ولدت من جديد وحيداً عارياً من كل شيء لا قبيلــة لك ولا مرجع سوى ضميرك.
أنا أدين لهذا المنفى بالكثير وهو يدين لي بالأكثر. فحرماني من صبحيات أمي وقهوتها وضحكتها ومنعي من وداعها في فراش الموت لأقول لها كما قلت لها دوما أنني أحبها وأنها ستظل حية ما دام في قلبي حياة. هذا الحرمان لا يقابله كل ما أعطاني وسيعطيني المنفى إياه.
لكن قول الحق يجبرني أن اقر بأنني لولا المنفى ما كنت لأنجز رواية من رواياتي.
ورغم كل شيء فإني لا أتمنى المنفى حتى لأعدائي ولذلك لا يمكنني التعالي على الباقيين في الوطن والمعانيين معه وبه. من يفهم المنفى لا يترفع بل يتعلم أبجدية الحب وأول أحرفها إحترام الآخر وبالدرجة الأولى من نختلف معه.
المنفى ككل مصيبة إن لم يقتلك (وفهمته) أصبح عامل قوة لك. المنفى يعلمك طرح الأسئلة الضرورية بجرأة وهي أول عملية لا غنى عنها عند كتابة الرواية. ولا أقصد التساؤل عمَ هو ممنوع ومسموح ومرفوض ومرغوب بل الأسئلة المحركة للرواية وعن الأسلوب الأفضل للإجابة عليها.
وهنا أريد شرح نقطة ضعف مركزية للرواية العربية وقد كتبت عن ذلك مراراً آخرها مقالة عن سبب إنعدام شبه كلي للرواية البوليسية العربية (نشر ملخصها في كيكا في 15-7-2005). هناك أسئلة يلف عليها ويتحاشاها أغلب الكتاب العرب. وبدل أن اعيد ما قلت أو أن أحاضر سأبني مشهداً روائياً يشرح بشكل كافي ما أقصده.
بطل القصة يستلقي في غرفته وتطرق فجأة جارة له الباب لتفتحه بحذر هاتفة بصوت فيه بحة أنثوية: ” هل لك مساعدتي فزوجي مسافر لأيام وأنا لا أعرف كيف أبدل قنينة الغاز”.
ويرى الرجل عبر الضوء المنساب تلافيف جسد الجارة التي كان منذ قدومها مع زوجها يلمسه كل ليلة في أحلام يقظته.
يقفز واقفاً ويتلعثم بكلمات لم يفهمها أحد.
جاره بائع الخضار اليهودي يعقوب علا صوته في شجار مع أحد النصابين المشهورين في الحي والذي كان من أكثر الجيرة صلاة وصياماً.
ابتسمت الجارة…
كيف يتطور هذا المشهد؟ ما هي إحتمالاته وأيها ممنوع؟ ماذا لو كان اليهودي أو المسيحي على حق تجاه المسلم؟ أو إن كورديا أفحم محقاً في كل مايقوله جاره العربي؟ ماذا لو كانت الجارة مسلمة أو درزية والجار الذي يعشقها عن بعد مسيحي؟ أي الإحتمالات غير المستساغة للذوق العام وإن كانت ضرورية جداً لبناء الجو الدراماتيكي للمشهد بمصداقية قوية تقنع القارىء وما هي الحيل الممكنة لرواية هذا التطور دون الوقوع ضحية مقص المراقب؟ وهل إذا أنجزنــا ذلك لا نكون قد صرنــا ضحية المقص في رؤوسنا؟
كل هذه الأسئلة وأكثر تتضمن إجابتها لمس مراكز الضعف الذاتية في الأدب والفيلم العربي.
المنفى يعلمك الجرأة في إختيار الجلدة اللغوية ( وليس الثوب كما يعتقد البعض) للجسد القصصي الذي تنوي بناؤه إن لم أقل خلقه. يعلمك الحذر ورفض كل تهديد لسلطات الذوق الأدبي وملحني الموضات الأدبية التي يرقص البعض على أنغامها. في كل قصة أحتاج لوقت طويل ( وأحيانا وقتا طويلا جداً) للبداية لأنني أعود عند البدء لمبتدأ يفتش بصبر عن الطريق الأفضل لرواية محتوى القصة.

فاصلة كمقهى:

*هل تغازل امرأة جميلة لاتعرفها وهل حدث ان ( اكلت بهدلة ) من امرأة لهذا السبب ؟

** الإمراة إنسان جميــل على الأغلب بعكس الرجــال وقد غازلت نساءً منذ طفولتي ولم آكل أية بهدلــة في عمري لأنني أملك منخاراً حســاســاً يهديني كالبوصــلة إلى من يرغب غزلي. لكن حتى أنفي كان يخطأ في التمييــز بين فضوليــة إمرأة ورغبتها في التقرب مني. ولذلك كان غزلي يصطدم أحياناً بجدار لامبالاة موضوع غزلي ويسقط مفجوج الرأس فألف دنبي كما نقول بالعاميــة وأنسحب بإستراتيجية إنقاذ ما يمكن إنقاذه من ماء الوجه. الرفض إحتماله دوماً 50% وهذا ليس داعي للتشائم بل للأمل. منذ 15 سنة أغازل بنجاح منقطع النظيــر إمرأة واحدة وهي زوجتي.
العنصرية على الجانبين .. تشكيل الهوية الوطنية
*ككاتب سوري مسيحي مقيم في الغرب ويكتب بأحد لغاته ومتعالق بشكل دائم مع الجمهور والوسط الثقافي الذي ينتج قسما منه أو يروج للعنصرية ضد العرب كيف يكون موقفك رغم أنك تعرف أن هناك شيوع لثقافة الاقصاء عند كثير من المسلمين لمن خالفهم دينهم وخصوصا في الفترات الاخيرة ؟

**ما دام هناك عنصري واحد يكره المسلمين فواجبي الأول الدفاع عنهم. هذه قناعتي من أول مواجهة لي مع عنصري الماني شتمني ظاناً أنني مسلم. لكن هذا الموقف المبدأي لا يمنعني من التمحص بما يكتب ويفعل باسم الإسلام و باسم الدفاع عن الإسلام. الهجوم الواسع على الإسلام يقصدنا جميعا بتراثنا وحياتنا بماضينا وحاضرنا ومستقبلنا. إنه لا ينوي التحرير إنما الإذلال. لكل هذا أدافع عن المسلمين في أوروبا عند توجيه إهانات عنصرية ضدهم والتي تهدف أساسا لهزيمتنا جميعاً في ميدان الثقافة، الطوف الأخير الذي يمكنه إنقاذنا من الخطر..
لكن أغلب ردات الفعل الحكومية العربية والأحزاب الأصولية كانت مرائية، جبانة وكاذبة. فمن من هؤلاء وقف يوماً ليدافع عن الأقليات اليهودية والمسيحية في البلاد العربية عندما كانت هذه الأقليات ولا تزال تهان علناً. هل كان طرشهم سبب عدم سماعهم كل هذه الإهانات التي يمطرنا بها الأسلامويون من “كافر” إلى “ملحد” إلى “عباد الخشب: أي الصليب” الى آخر التقيئات المعادية للسامية والتي ينسخها بعضهم من النازيين ليقدمها لجمهور مستمعيه أو قرائه كاكتشاف لقارة جديدة أو نجاحه بفلق الذرة بالكماشة. أم أصاب الكل عمى عم ينشر في الأسواق من كتب ملؤها السم على ورق مصقول لماع وبسعر الفجل كلها إهانة للمسيح وللمسيحيين. سنوياً يصلني كتاب أو كتابين من الأسواق العربية المعروضة للجميع يهلع لمحتواها القذر أي قارىء ليس خوفا على المسيحية بل على الهوة العميقة التي سقط اليها تذوق الشارع العربي وحساسيته. وكأن قلوب مثقفي الدولة وكتابها ارتدت جلد تمساح.
ولا أزال حتى اليوم أحتفظ بما طبعته جريدة السفير في 15 آب 1980 كمقابلة مع العقيد القذافي حيث يقول وكأنه بوق المرائين الإسلامويين: ” العربي غير المسلم موقفه خاطىء ويجب أن يكون مسلماً ويصحح موقفه. لا يجوز أن تكون من الأمة ودينك غير دين الأمة. فالقومية والدين وجهان لعملة واحدة. أما فيما يتعلق بالمسيحيين في الوطن العربي، أولاً ولا بد من التأكيد على أن المسيح قد بعث إلى الإسرائيليين. فإذا كنت إسرائيليا فلا بأس أن تكون مسيحياً” ولكي لا يظن أحد أنه قرأ خطأً يعيد القذافي في مكان ثاني من المقابلة وجهة نظره:”ومن الخطأ أن تكون عربياً ومسيحياً وستبقى المشكلة قائمة طالما أنك عربي وتعيش على الأرض العربية وفي الوقت نفسه تبقى روحك إسرائيلية…”.
يمكنني أن أبين للعقيد القذافي أن الإسلامويون لا يشاركوه مقولته فهم يشتمون سراً وعلناً العروبة والقومية العربية كإختراع مسيحي لتحجيم الأمة الإسلامية والتي لايشكل العرب فيها سوى أقلية وهذا هو أحد الأسباب الرئيسية التي دفعت الإسلامويون العرب إلى أفغانستان.
لكن هذا الكلام السيء بحق المسيحيين العرب قيل وكتب آلاف المرات وهذا النموذج أتى من رئيس دولة لا تبرد مطرقة بابه لكثرة زواره من مثقفي وثوريي آخر زمان. لكن كل هذا كان يهون على إبن أقلية مسيحية لولا أن جيشاً من المفكرين الذين حسبناهم دوماً في خندقنا قفزوا فجأة مع ظهور الخميني الى خندقه وكأنهم كانوا ينتظروه ليفارقونا وبقينا مع نصوصهم القديمة في عزلة ولا أزال أذكر تصريحات أدونيس الممالقة للخميني والتي صدمتني وأبعدتني عن كل ما يكتبه. وهو كالحكام العرب لا يعترف بأخطائه حتى اليوم بل يسبح كل يوم على موجة. ودوما بقناعة 150%.
من هذا كله لا أصالح أي إسلاموي عربي ناهيك عن العمل معه في أي مجال ما لم ينتقد ذاته ومواقفه من الأقليات الدينية نقداً صادقاً. وهذا بالنسبة لي الدليل الثاني لمقدرة الأخوان المسلمين في سوريا – كمثال – على فهم أخطاءهم التاريخية الفادحة ومصداقيتهم في قصد بناء الديمقراطية في سوريا. الدليل الأول الذي لم يقدموه حتى اليوم هو نقدهم الذاتي للإرهاب الذي مارسوه وصعدوه في سوريا في مواجهة حافظ الأسد وسببوا معه ويلات للشعب السوري. لم يفاجئني علي صدر الدين البيانوني مثلاً بقفزه الى قطار الخــدام ومــد لسانه إحتقاراً للواقفين في محطة المعارضــة. تماماً مثل هذا التصرف يظهر لك مدى تغلغل الديكتاتورية إلى أنفسنا. وها هو رفعت الأسد يدعو بنباح يومي لطاولــة مستديرة. من سيلحق به ويمد لنا لسانه؟ وبعد غد من سيلحق بمن تتقيأهم السلطة أو يلفظهم التأريخ؟ السبب في كل ذلك ليس ضعف المعارضة كما يظن البعض إنما هو ضعف البنية الديمقراطيــة لمجتمعنا والتي تحتاج على عكس المعارضة – التي قد تقوى بين ليلة وضحاها تاركــة البيانوني وخدام وراءها كحدث عرضي ينساه التأريخ بسرعة – إلى وقت طويل لتصبح جزءاً من تربيتنا وموجهاً لتصرفاتنا. قد يضعف البيانوني وأمثاله صفوف المعارضــة على المدى القريب ولكن عدم فهم الديمقراطيــة كأسلوب للحياة وعدم إحترام الآخر كمتمم للذات يخفي خطراً أكبر على المدى المتوسط والبعيد. وبمناسبة الحديث عن البيانوني الذي لم يفهم المعارضــة إلا وسيلة لتسلق السلطة وبأطراف المعارضــة إلا حلفاء مؤقتين على طريقه ( وكأنه تتلمذ على يد ستالين وحفيده غير الشرعي بكداش). فيمكن الدلالــة على ما أقول أن إتفاقه مع خدام لا يصعب عليه كما يظن البعض أكثر من إقراره بالأخطاء التاريخية للإخوان المسلمين. ومن هنا يكمن شكي بكل ما يقوله.

* ما دمنا في الوطن هل لأبناء الوطن من الأقليات (: تعبير أصطلاحي لا أقره ) مدخلا آخر الى الوعي؟ هل هي حساسيتهم المرهفة الناتجة عن الظلم الثقافي التي تؤهلهم في كل أنحاء العالم للنظر بشكل مخالف للأمور؟ هل هناك فارق في وعي الذات والآخر بين أبناء أغلبية ما وأقلية.؟

**سؤال مهم جداً. هناك فرق ينتج ليس عرقياً وإنما تربوياً ثقافياً وليس من الصدفة أن تكون الأحزاب المنادية بالتسوية والعدالة بين الشعوب على الأغلب من صنع الأقليات. إنه اليقين الذي نرضعه نحن أبناء الأقليات التأريخية مع حليب الأم. إن نجاتــنا من الفناء يرتبط بالتلاحم مع القطاعات الخيرة للأغلبية. وأن قدرنا يحتم علنا أن نعرض باستمرار قاعدة اللقاء مع الأغلبيــة. لا لشيء إنما لأن كل الأغلبيــات في العالم بطيئة وكسولة لا تشعر بخطر يجبرها على الحركة.
لدينا كما يقال سيزموغراف حساس ضد العنصرية إذ تتوجه هذه دوماً للقضاء على الأقليات.
فشخصياً لدي حساسية عالية تجاه معادي السامية العرب. وأرجو ألا يكرر لي أي أحد الأغنية الغبية التي تغنيها نوال السعداوي وغيرها من المسكفين(كما يسمي أهل حي العبارة الدمشقي المثقفين السيئين) منذ سنين من أننا ساميين ولذلك لا نستطيع أن نعادي السامية. فهذا خلط غبي سواء عن عمد أم عن جهل. السامية ليس لها وجود كشعب أو أمة وليست سوى أداة مساعدة لتعريف وترتيب مجموعة من اللغات كالعربية والعبرية والآرامية والأمهرية لها جذور واحدة تسمى للدلالة عليها “لغات سامية” وتعود التسمية الى المؤرخ الألماني أ. ل. شلوزر(1735-1809) الذي ذكر هذا التعبير لأول مرة بشكل عرضي إستنادا على التوراة وعنى بها الشعوب التي تملك لغات شبيهة. لكن أول من استعمل هذا اللفظ بشكل علمي لا يزال سارياً حتى اليوم كان العالم اللاهوتي اللغوي الألماني يوهان غوتفريد أيشبورن (1752-1827) الذي سمى عدة لغات تشابه العبرية باللغات السامية.
بينما معاداة السامية حركة أوروبية شوفينية وهي فرع من العنصرية يختص بكره شعب واحد هو الشعب اليهودي أينما كان وهكذا أيدولوجية رجعية مباحة – كأي مرض – لكل شعوب العالم ولا يتمتع أي شعب بمناعة ضدها فمعادي السامية قد يكون روسي ألماني أو عربي وحتى يهودي والقاسم المشترك الأعظم بينهم هو كره اليهود.
نحن العرب لو تأملنا ما يكرره أعداء السامية لوجدنا فيها تقاربا مدهشاً بين اليهود والعرب. وأغلب الكاريكاتورات العنصرية المعادية للعرب هي في جوهرها معادية للسامية. ليس فقط الصور العنصرية ضد النبي العربي بل أيضا الصورة الأكثر إنتشاراً لشيخ بترولي يهدد بهذه الوسيلة أو تلك العالم الذي يصور على الغالب كطفل صغيرمسكين لا حول له ولا قوة تجاه هذا العملاق. أو أن العربي يدق عنق حمامة السلام أو يسيل لعابه لكل ما هو غير إنساني. هذا بعينه عنصرية لا تقبل التأويل السخيف أننا لا نتحمل المزاح.
لم تصيب جرثومة معاداة السامية، العرب إلا بشكل فردي، ولقرون عديدة ظل انتشارها فردياً. ليس لأننا ملائكة أو لأننا كرماء شرقيين كما يدعي البعض، إنما لأننا لم نعش نظاما إقتصاديا وسياسيا يخرج من جوفه هكذا تيارات. عندما الحقت إسرائيل “الدويلة” كما كان الحكام العرب وأبواقهم يسمون الدولة العبرية – مثــل سيء الذكر أحمد سعيد – أكبر هزيمة لحقت العرب منذ قرون لم يفهم كل القادة العرب ومفكريهم الهزيمة – الفهم كان يتطلب التنحي والإفراج عن الشعوب الأسيرة في المنطقة – بل إزدادوا تصميماً على إستجحاش شعوبهم ليس فقط بتقديس القوانين العرفية التي استعبدت شعوبناً ولم تحرر شبر واحد من الأرض بل بدأوا بنشر الأكاذيب أن هناك مؤامرة عالمية وقع العرب ضحيتها وأن الهزيمة كانت مؤكدة حتى ولو لم يكن البعث والناصرية في سدة الحكم بل حتى ولو كان هوشي منه يقود المعارك كان سيخسر بلا شك فاليهود وما أدراك ما اليهود… وهكذا الى آخر الأغنية المملة. وفتحت الأسواق أمام كل الأدبيات العنصرية والمعادية للسامية وهي تباع حتى اليوم علناً وبعد فترة تخدير لحساسية الشارع الحقت نفس الجهات الظلاميــية الأدبيات العنصرية ضد اليهود بأخرى ضد المسيحيـين. كنت أسأل نفسي عندما تصلني هذه الكتب إلى ألمانيــا: هل مات كل من فيه حساسية؟ كيف تباع هذه الكتب على الشارع وعلى عينك يا تاجر في الثمانينات والتسعينات وفي مجتمع مسامح وليبرالي كمجتمع دمشق؟ كتب بشعة يخجل من قرائتها كل ذي عقل ولو أن أحدهم تجرأ وعرضها في سوريا قبل الوحدة لمسح الناس فيه الطريق. ليس هذه الكتب فقط، بل فردت سلطات عدة بلدان عربية مجالا واسعاً في الراديو والتلفزيون لبث هذه السموم التي تكره المسيحيين الحياة في بلادهم وتزيد اليهود تضامنا مع إسرائيل وهي تخدر الشعوب العربية أكثر مما هي عليه من تخدير. إذ أنه من العبث واللاعقلانية مقاومة قوة متآمرة عالمية أخطبوطية تسيطر على أمريكا وبريطانيا والمانيا وبنوك العالم وعلى أغلب الحكام العرب وحتى على الفاتيكان. هناك عجائب ينتجها الزمن لا تدخل بعقل.
حزب الله الشيعي اللبناني إنتصر فعلا على الإسرائيليين في جنوب لبنان إنتصاراً ساحقاً سجله التاريخ لأبناء الجنوب الشجعان وأيضا – وأقولها جاداً- لقيادة حزب الله الذكية والمستعدة دوما للموت في سبيل مبادئها دون وجل مما يندر في أغلب قيادات الأحزاب السياسية العربية.
كانت هزيمة إسرائيل شنعاء الى حد أن انسحابها من الجنوب تم بفوضى وكأنه تم تحت إشراف عربي.
هذا الحزب بالذات يبث سمومه العنصرية عن التآمر العالمي الذي كشفه كتاب “بروتوكولات حكماء صهيون” المفضوح عالمياً كصنيعة للمخابرات القيصرية الروسية. إذاً كيف لقوة عالمية تاريخية تحكم العالم كما يرى مروجو هذه الفكرة ويهزمها حزب صغير لبناني ظهر بالأمس؟

*يرى كثيرون أن انسحاب اسرائيل لم يكن بسبب ضربات حزب الله بل بسبب أجندة إسرائيلية داخلية منها مثلاً أن هذا الوجود لم يعد يخدم استراتيجية إسرائيل في المنطقة وخصوصاً بعد اعتراف كل الانظمة العربية بها وإقامتها علاقات دبلوماسية مع الكثير منها.
**هذا هراء سياسي وتاريخي فيه غموض يلوح مجددا بمؤامرة ويضرب على نفس وتر العود البالي أننا حتى إذا إنتصرنا مرة في هذا الزمن الرديء فهذا أيضاً ليس إنتصارا. لايترك مُحتل شبراً من الأرض إلا مجبراً أو لغنيمة أكبر كما الحال في سقوط السادات. وحزب الله لم يعقد أية صفقة تنازل بل أنزل خسائر موجعة بالجيش الإسرائيلي واجبر بذلك السياسيين الإسرائيليين تحت الضغط الداخلي على الإقرار بالهزيمة حتى صار الإنسحاب أقل تلك الخسائر.

*كمقيم في الغرب كيف نظرت إلى الأزمة التي تسبب بها نشر الرسوم الكاريكاتورية التي رأت جموع المسلمين في العالم أنها مهينة للنبي محمد؟ هل تعتقد أن الأمر مؤامرة مدبرة كما هتفت هذه الجموع وخطبائهم ؟

**لا شك أن هناك مؤامرات كثيرة ومتآمرين كثر على قضايا ومصالح العرب. لكني لا أعتقد إطلاقا أن كل عمل عدائي ضد العرب هو نتيجة مؤامرة تحاك في الظلمة وعلى مدى إستراتيجي تقرر فيه جهة ما بكل برود أنه في يوم كذا وكذا يقوم فلان الفلاني بالتصريح بكذا وكذا أو بإصدار كتبا أو رسوم كاريكاتورية ليسبب ردة فعل معينة ومحسوبة لدى العرب والمسلمين ونصل بعدها إلى نتيجة وهي هزيمة ماحقة للإسلام. أعتقد أن مثل هذا التفكير سطحي وبسيط جداً قد يغري منهزمين ليخفف عنهم وطأة هزيمتهم لكنه يتعارض مع التجربة اليومية ومع تعقيدات كل خطوة من خطوات هذه المؤامرة المزعومة ووصولها حتى بمنفذيها إلى شفير هاوية. لكن الأنكى من ذلك أن هكذا تفكير يدعي الذكاء وسبر الأغوار الخفية لكنه يحول – وبعنصرية معكوسة لا يقصدها – الشعوب الإسلامية والعربيةً كاملة بما فيها مفكريها إلى دمى لا تملك الإرادة وتحرك دوماً من الخارج بخيوط تسحبها وترخيها أيدي خفية.
وللمقارنة دعنا نأخذ مسألتين أقامتا الدنيا ولم تقعدهما إلى اليوم. كتاب “آيات شيطانية” للكاتب الهندي الإنكليزي سلمان رشدي والكاريكاتورات المهينة للنبي العربي محمد.
رواية سلمان رشدي لم يوعز له أحد بكتابتها سوى رغبته المريضة بالنجومية بأي ثمن وهي رواية قرأتها ويالخسارة الوقت الثمين. رواية سيئة البنية الدراماتيكية يقحم رشدي فيها عدائيته لكل ما هو عربي إقحاماً. ويكذب عمدا كل من يدافع عنه باسم الدفاع عن حرية التعبير فالتعبير حتى في أكثر الدول ديمقراطية كبريطانيا وألمانيا وفرنسا له ضوابط وحدود فالحرية البورجوازية ليست فوضى. فسلمان رشدي الذي تباهى بمهاجمته رئيسة وزراء بريطانيا آنذاك تيتشر كان يعلم أن ذلك مسموح لا جزاء عليه ولكنه أغلق فمه في كل كتبه ولم يتفوه بكلمة مهينة للملكة أليزابت فهذا يعاقب عليه. هنا في المانيا يمكنني نقد وتجريح القنصل العام أو أي وزير من وزرائه دون أن يكلفني ذلك سؤالا واحدا للسلطة بل على العكس يدخلك هكذا نقد في نجومية الساخرين ويؤمن لك مكاناً في صالونات السخفاء وأمام كاميراتها. لكن كلمة واحدة مؤيدة لجرائم النازية تسبب دعوى وسجن حتى عشر سنوات وقد حكمت محكمة نمساوية مؤخراً على المؤرخ العنصري دافيد إرفينغ بالسجن لإستهزائه بالمحارق التي أودت بحياة ستة ملايين يهودي بريء. هل مثل هذه الحدود صحيحة؟ بالطبع فكما أن حرية الإنسان مقدسة فحرية الشعوب ومعتقداتها وحتى مآسيها مقدسة وكل كلام غير هذا باطل. من هو سلمان رشدي حتى يجرح شعور أكثر من مليار إنسان وما هو هدفه من هذا الجرح؟ تحرير هذه الملايين من بؤسها؟ لا. إنه يذكرني بغباء النكت العنصرية المملة عن الدين التي يتبادلها أبناء الطبقات المرفهة في صالوناتهم لكي يملأوا بها فراغهم. هذا كل ما في قضية سلمان رشدي. لكن أن يفتي آية الله خميني لإعتبارات سياسية محضة بقتل سلمان رشدي فهو خطأ فادح. فحرية وسلامة الإنسان واحترام حياته أكبر من الخميني وما أراده. ثم من ذاك الذي وكل الخميني بملاحقة أبناء شعوب أخرى؟ النبي محمد قال أقصدوا العلم ولو بالصين وليس لاحقوا بفتواكم البشر ولو في الصين. لذلك كان موقفي مع أقلية صغيرة هنا ضد فتوى الخميني وضد سلمان رشدي بنفس الوقت.
الخلاصة مما قلت أن سلمان رشدي لم يتآمر مع أحد، فهو أراد شراء الشهرة بعدائية للعرب. كانت الفترة الزمنية مناسبة فالمعسكر الإشتراكي وجدار برلين كانا في نهاية الثمانينيات في انهيار والغرب في بحث دؤوب عن عدو. حاول الكثيرون من رجال الإعلام تسليط الضوء على جرائم النظام الصيني لكن الصين لم تكن يوما بعبعاً يخيف الجماهير في البلاد الغربية، أما الإسلام فهو منذ ظهور النبي العربي مؤهل لإثارة الخوف لدى الجيران التي قرعت أيدي الغزاة ( وأرجو عدم إستعمال كلمة الفاتحين والفتوحات فلم أر في عمري أكذب من هكذا تعبير) العرب على أبوابهم. إن توازي مصالح ما لا يستدعي رؤية تآمر وراءها. كانت مصلحة سلمان رشدي التباهي على حساب العرب فقط ولذلك فكل العرب في روايته بما فيهم نبيهم يحتلون أدرك ما يمكن الوصول اليه من الإنحطاط بينما يسمو كل فارسي في مثالية مقدسة. وأنا أعتقد جاداً أن سلمان رشدي صُعِق لأن الحكم عليه بالموت أتى من إيران وليس من مصر أو السعودية. إيران التي مجدته بالجوائز والإستقبال الحكومي قبل ذلك بفترة وجيزة تكريما لروايتيه ” أطفال منتصف الليل” و” العار” والذي صافح فيها رشدي بكل برود أيادي حكمت بالقتل والتشريد على زملائه الإيرانيين، ولم أسمع آنذاك كلمة واحدة منه تدين الإعتقالات والإعدامات الجماعية في إيران.
ما أقوله عن سلمان رشدي يسري على الكاتب العنصري الهندي الإنكليزي ف. س. نايباول والذي لا يترك مناسبة إلا ليستغلها تملقاً لأسياده الإنكليز ومحقراً لشعوب العالم الثالث.
يسري ما قلته عن قضية سلمان رشدي على أغلب الظواهر الشبـيهة. على الأغلب يكمن وراء مثل هذه الإهانات تصرف فردي أو لمجموعة صغيرة تريد من ذلك الظهور بأي ثمن. ولا توجه ذلك دولة.
عند متابعتي لردة فعل جماهيرنا ومثقفينا كذلك رأيت أن الغالبة العظمى منهم تتبع كالعبيد أيدولوجية حكامهم التي استقرت على أن كل أمر صغير أو كبـير هو ملك الطاغية ولا يحدث إلا بأمره. لذلك يتحدث الحكام بخبث وأتباعهم بغباء عن مسؤولية الدانمرك كدولة وشعب وحتى كمنتجين للحليب والجبنة عن كاريكاتورات أصدرتها صحيفة محافظة رجعية لرسام كاريكاتوري من الدرجة الثالثة بطلب مباشر من مدير التحرير. وهكذا طلب لمقال أو رسم كاريكاتوري أو صورة فوتوغرافية يحدث يومياً في كل صحف العالم وليس بجد ذاته مؤامرة.
الكاريكاتورات المهينة عنصرية، وسياسية رجعية، تريد إهانة العرب ثقافيا بعد اقتحامهم وإركاعهم عسكرياً، سياسياً وإقتصادياً. مدير التحرير يريد ذلك وليس أكثر فهو يرى أن الفترة مناسبة لبروز جريدته خاصة وأن تصاعد الأعمال الإرهابية الأسلاموية قد هيأ الجو لذلك فكل العرب والمسلمين ألقيوا لعجزهم عن تبيان الجدار الفاصل بين المسلمين والإسلامويـين في طنجرة واحدة مع الإرهابيين. من جهة أخرى تمر الصحف، كل الصحف، منذ سنين بأزمة خانقة وكل شيء – وأكرر – كل شيء يلهب العواطف سواء بالعري الجسدي أو الإجتماعي أو الثقافي ويسبب تهافتاً على شراء المجلة أو الجريدة يرحب به أكثر من أي خبر.. تعليق ..مداخلة مشوقة فيها فائدة إجتماعية أو ثقافية. حتى مجلات ضخمة مثل (DER SPIEGEL) و(DIE ZEIT) في المانيا والتي كانت ولعقود تتصف بالرزانة فتحت أبوابها لكل رخيص لكي تحد من انهيار طبعاتها وعدد المشتركين فيها. هذه هي الخلفية لمثل هكذا حقارة.

*ألا ترى أنه على الجانب الآخر (وأعني في البلاد العربية والاسلامية) كان استخدام هذه الرسوم أكثر سوءاً من الفعل ذاته حتى أنه كتب كثيرون أن من وقف وراء شيوع هذه الموجة الإعلامية ضد الدانمارك هي شركات الألبان العربية وتحديداً الخليجية، التي يمتلكها من يمتلكون وسائل الاعلام أيضاً وهي التي حركت ( الجماهير )؟ أليس هناك ممارسات عنصرية في دول أخرى ضد الإسلام والمسلمين والعرب لماذا لم يحرك العرب ساكناً من قبل أم لأن الدانمارك دولة صغيرة ؟

**كل هذه الأسئلة محقة وقد يكون الجواب بنعم هو الصحيح.
الجماهير تندفع بعفوية منذ أكثر من أربعين سنة. تصرخ ألمها عاليا من الظلم الذي يلحق بها وهي دوما على حق وإن قلب تعبيرها أحيانا حقها إلى باطل. إنه لمن المخجل والمهين لنا جميعا أن تحرق سفارات عزلاء وهي في ضيافتنا. وإنه لمن المخجل أن يمزق رجال ونساء قطعة قماش رسم عليها علم ما. هذه التصرفات تتحول – سواء كانت موجهة أم لا – إلى صور تنحدر إلى مستوى الكاريكاتور العنصري وتصبح بحد ذاتها تكملة وليس نقداً للكاريكاتور العنصري.

*كيف تنظر من خلال هذه الحادثة بالذات لتمسح بعض الدول العربية التي كانت تقدم نفسها للعالم كدولة ( علمانية ) بالتيار الديني ومخاطبة وده من خلال السماح بإحراق سفارات بعض الدول كالدانيمارك والنرويج ؟
**إنه المسرحية أو الفيلم والدور المتقن جداً والذي تدربت عليه الأنظمة العربية التي تدعي العلمانية بشكل جيد. طبعاً الفيلم من نوعية سيئة على شاكلة أغلب الأفلام العربيــة لكنها تصل كتلك إلى نتيجــة جيدة وهي تمضيــة وقت أطول في السلطة وصرف النظر عن المصائب التي يسببها هكذا حكم وإن كان ذلك لفترة قصيرة وإن كان الفيلم سيء الإخراج مثل تعبد وصلاة صــدام حسين وغيره بحضور كاميرا تلفزيونيــة. ربح الزمن هذا أمر عبقري، لم تستطيع المعارضــة بعد إفساده أو تعطيله.

*ما الذي يمكن فعله لتصحيح هذا الاختلال في العلاقة بيننا وبين الآخرين وتصحيح وجهات نظرنا عنهم وعنا؟
**أنا اظن أن غياب الحوار الكلي بين المثقفين الأوروبيين وزملاؤهم الشرقيين هو أحد أول الأسباب لتفاقم كثير من الصور غير الصحيحة والسلبية لدى كل طرف عن الطرف الآخر. وهنا بالذات تكمن الهزيمة الكبرى. لم نستطع حتى اليوم بناء حوار دائم يمتن الجسور بين ثقافاتنا العربية والإسلامية مع جيرانـنا في حوض البحر الأبيض المتوسط ليكون ذلك أرضية للحوار الأوسع مع المثقفين الإنسانيين الأوروبيين والأمريكيين. ولا أخفيك القول أن رواية سلمان رشدي والكاريكاتورات العنصرية لم تكن ممكنة إلا في هذا الزمن القبيح الذي تراجعت فيه القوى التقدمية الأوروبية مهزومة وحلت القوى المحافظة مكانها من أمثال برلوسكوني وبلير وأزنار وميركل.

فاصلة كمقهى:

** يخيل الي انك ستحصل على نوبل يوما ما .. فعلى أي شارع ستضع عينك ليسموه باسمك عند تفطنهم أنك كاتبا سورياً و… احتفالهم بك ؟

أسماء الشوارع والحارات لا تهمني إطلاقاً. لكن المبلغ محترم (حوالي مليون دولار). لذلك قمت قبل سنوات إحتياطاً للأمر بوضع قائمة بإسم الجهات التي سأوزع عليها المال لأنني والحمد لله ولقرائي مكتفٍ ولا أعتقد بالإكتناز والتوفير والتوريث. وتضم هذه القائمة 22 مشروعا مهما منها بيت للطفل بإسم أمي في معلولا وآخر في دمشق يقدم العاملون فيه يومياً طعاماً لمئة طفل ويحكون لهم طول النهار قصص مضحكة. المشروع الثاني معهد خاص للأبحاث الفلسفية والإجتماعية والإقتصادية وكل تداخلاتها مع اللغــة بإشراف العلماء الشرفاء عبد الرزاق عيد، ياسين الحاج صالح وعارف دليلة. المشروع الثالث دعم ثلاث مجلات وجرائدالكترونيــة لتظهر بنفس الذوق والروح على الورق وهي “صفحات سورية” للثقافة والسياسة “جــدار” لكل أنواع الأدب السوري والعالمي و “كيكــا” الصادرة من لندن للتعريف بالأدب العربي عالمياً. المشروع الرابع لجنة دائمة من المحامين للدفاع عن الظلم القضائي وتعريته وذلك لتربيــة القضاة تربيــة سليمة. المشروع الخامس معهد للترجمة الأدبيــة بإشراف أفضل المترجمين من وإلى العربيــة. المشروع السادس تمويــل جائزة أدبيــة لأفضـــل روايــة وثانية لأفضل مقال صحفي وثالثة لأفضل ديوان شعري. وهكذا دواليك. عندما إنتهيت من وضع الخطة بإحكام إكتشفت مع زوجتي أنه ينقصنا حوالي مليون لتمويل السنين العشرة الأولى فقلت لزوجتي أرهن منزلنا وبوليصة التأمين وأستدين المبلغ من البنك، فضحكت وقالت أنها ستصلي ليل نهار لكي لا أحصل على الجائزة.
دمشق .. الكتابة .. كتاب الوطن ..

*دعنا نعود بالحوار لك ماذا عن الخبرة الكتابية إذا جاز التعبير التي تشكلت طوال عشرات السنين.. هل لها تأثير على نتاجك ؟

**نعم تعطيني الخبرة الطويلة وممارسة الكتابة يومياً الثقة والتقنية اللازمة لكني لا أضع أسلوبا معيناً في موضع التقديس. الرواية وموضوعها يمليان علي بصوت منخفض أفضل الأساليب. أحيانا أسمع بسهولة ما يقولان وأحياناً أحتاج لسنين من التجارب. وأنا أعجب كل العجب لكتاب يكتبون كل مواضيعهم بأسلوب واحد. ولكن خبرة السنين والكتابة اليومية يعطياني مقداراً كافياً من الهدوء والشك بكل مايخطر على مخيلتي ويظهر بسرعة وكأنه الحل الأجمل لأن هكذا خاطرة قد تكون حصلت آلاف المرات ولمئات الكاتبات والكتاب. الفن له علاقة بالصقل كما في حالة تحويل الحجر الخام إلى جوهرة مصقولة تعكس الشمس التي تختزنها.

*هل تعتقد أن الكتابة وخصوصاً العمل الروائي هي لمجرد الامتاع أم أنه فعل ( حتى لو كان حالماً ) يتوخى تغيير ما عبر المتعة؟
**هناك مبالغة إقصاء الأدب ومسخه للعبة فنية لغوية، ومبالغة ثانية بالطلب منه بالرد الفوري على الأسئلة المطروحة على الساحة وإيجاد حلول ثورية لها وكلا المبالغتين ظاهرة من أمراض الطفولة الأدبية. وتصب أخيرا في فذلكات لغوية فارغة أو خطابيات تدعي التسيس وهي لا تقل فراغا وثقلا عن ضرتها. مثل هذه الآداب تحتل مركز الصدارة لدى الشعوب المقهورة وهي لاتغني العقل ولا تلهب المشاعر الثورية كما تدعي بل تطفئها على نمط تحريرفلسطين بقصيدة ودحر العدوان بخطاب فلحوطي يرغي ويزبد بينما يذيع راديو إسرائيل درجات الحرارة على قنال السويس وفي القنيطرة.
الأدب الحقيقي كان ولا يزال يخرج من رحم الحياة ليحلق عاليا ويعود مليئا غنيا بالتجارب الى الحياة من جديد. وحكاية قوس القزح في كتاب العهد القديم التي ذكرتها أعلاه أبلغ فلسفياً وأغنى تجربة وخيالاً من كل ما كتبه بعض الأبواق الأدبية.

*من موقعك الحالي كيف تنظر إلى المجتمع العربي في راهنه الآن ؟

**المجتمع المدني دمر وحل محله جهاز قبلي طائفي عنكبوتي الشبكة. هذا هو السبب الذي سيسقط أي بلد من البلاد العربية في فوضى لحظة إنهيار الطاغية وعشيرته ولذلك فعلى المعارضة وهنا أكرر بكل فرح رأي المفكر عبد الرزاق عيد أن مهمة المعارضة الأولى هي بناء هذا المجتمع المدني ودولته لاحتواء كل مشاكله والسير به قدما بعد سقوط الديكتاتورية. وأنا أعتقد أن هذه المهمة هي الأصعب والأبلغ ثورية.
*هل ترى فارقا بين نظرة الكاتب لبلاده وهو يعيش فيها عن نظرة كاتب آخر من نفس البلاد وهو في المهجر أو المنفى إذا أخذنا كاتبين متشابهين في موقفهم السياسي والإجتماعي؟

**أشكرك للتبسيط لأنني بدونه لا أستطيع الأجابة على هكذا سؤال جدير أن يكون موضوع دكتوراة في السياسة وعلم النفس والأدب المقارن. بإختصار شديد: يرى من يعيش بعيدا عن الأحداث اليومية للوطن عبر ماتوفره إمكانيات التواصل والمعلومات غير المراقبة أكثر من زميله الواقف وسط الدوامة في عاصمة عربية ما. لكن ذلك يحلم – إن جاز هذا التناقض – بواقعية أكثر من الكاتب المهجري أو المنفي.
إحدى الظواهر التي لفتت نظري في الفترة الأخيرة هي شجاعة فريدة للجبناء مثلاً تجاه تظاهرة سلمية أو تجاه من يسقط من الحكام. هناك مثل شعبي يقول. عندما تسقط النعجة يكثر الذباحون وهذا المثل في منتهى الذكاء فالنعجة كحيوان ضعيف مسالم لا تحتاج إلى أكثر من ذباح واحد، لكن سقوطها يغري أجبن الجبناء على استلال سكينه ليس ليقتل النعجة فهذا أصلا لايهمه كثيرا بل ليظهر للآخرين أنه منهم وفيهم.
ظاهرة سقوط النعاج وكثرة الذباحين أصبحت تراثا عربيا. والنعاج هذه كانت تبدو حتى الأمس أسود أو مستأسدة لا يتجرأ أي رجل في الدولة أن يوجه لها سؤال فيه همزة أو فاصلة نقدية.
هل بقي تهمة لم يوجهها أعداء عرفات لجثته التي لا تستطيع الدفاع عن نفسها؟ حتى أن بعضهم صنع منه جاسوساً لإسرائيل ويهودياً من المغرب. وحمله البعض الآخر كل جريمة قتل أودت بحياة رفاق دربه. حتى زوجته صارت موضوع السكاكين.
ليس رفعت الأسد أول تلك النعاج التي عاثت بأرواح وأموال الناس في وضح النهار ليصبح بعد سقوطه المسؤول الأول عن كل سرقة ومذبحة بعثية. وكأن الآخرين كانوا رهباناً وقت حصول المذابح في تدمر وحماة غائبين في أستراليا أو عن الوعي. ولهذا أطلقوا الأبواق وأستلوا السكاكين.
وحدث هذا الأمر وتكرر مع عبد الحليم خدام… ألم ير كاتب أو ببغاء من مجلس مايسمى بالشعب كل ما فعله الخدام وعشيرته لمدة أربعين سنة كان فيها على رأس المافيا ليبدأون الآن بشتيمته. ما يسمى بالجبهة الوطنية تحاول مثل خدام غسل أيديها أمام الملأ بغباء قصيري الذاكرة. وانا أوكد دون سخرية أن مياه المحيطات ستتلوث لو استعملتها هذه المافيا لتنظيف ما اقترفت أيديها. ولهذا فقط يعلو صراخها.
أنا أعتقد جازما أن مهمة الكاتب ليس الكلام بعد، بل قبل أو على الأقل أثناء حدوث المآسي. وعليه ألا يجزع من الخطأ.

*كيف هي علاقتـــك بكتاب الوطن؟ هل تأخذ عليهم تجنبهم لك.. وعدم التطرق لكونك كاتباً منفياً بل حتى عدم ذكرهم لك واقتصر الأمر في أغلب الأحيان على الإعجاب بنجاحك شفاهية فقط ؟

**أول أمر لا نقاش فيه هو محبتي وتعاضدي مع الكتاب جميعاً الذين يرزحون تحت حكم ظالم سواء أحبوني أم لا. وهذه الصياغة تبعد كل كتاب السلطة عن المجموعة التي أعنيها. طبعاً لكلٍ أحلامه عن التعاضد لكني لم ولن أطلب من أحد أن يرمي نفسه بخطر من أجلي فأنا بخير حتى بدون تعاضد. أحمل جرح دمشق لكنه جرح صغير مقارنة بما يحمله زملائي من العذاب والذين يستحقون كل محبة وإحترام. هل تدري أنني بكيت يوم ضُرب نبيل سليمان ولم أنم الليل يوم إنهال الجبناء ضرباً على سمر يزبك الشجاعة. وبما أنني أعرف الخوف فأنا أقدر بجدية خطورة الحركة في غياب الديمقراطيــة والحريــة. هؤلاء الكاتبات والكتاب الذين يبحثون باستمرار عن الضوء في نهاية النفق هم إخوتي وخوفهم من الحكام خوفي وضحكتهم الساخرة عليه ضحكتي.
أما مثقف السلطة فهو جبان يخاف الكل. يخاف الحاكم والمحكوم. وهذا هو الفارق الجذري بين الكتاب المقيمين في الوطن. الكاتب الشريف الذي لا يتملق يحب شعبه ولا يخافه وهو يخشى عن حق وحكمة بطش الطاغية ويظل حذراً وأنا أحترم وأحس بالتماهي مع هؤلاء الكتاب لأنني لو عشت في سوريا لأنتهيت في السجن الصغير أو الكبير أو لصمت خوفا فأنا لست بطلا ولا أحب منذ طفولتي الأبطال إلا في السينما.
أما مثقف السلطة فهو جبان محترف. حتى ولو حمل جائزة نوبل للأدب يظل يزحف. من لا يصدق هذا فليدرس بعناية سيرة أصدقاء صدام حسين وغيره من الحكام. مثقفوا الدولة لا يؤمن لهم جانب ومقارنة بهم يصبح سم الأفاعي كالقهوة بحليب. هكذا مثقف لا يعرف إلا طريق الزحف لذلك يتصور العالم كله وكأنه صورة مكبرة لعالمه ويذكرني ذلك بحديث لزميل سوري درزي رواه لي – عندما كنت 1969 مدرسا في السويداء – عن جد له ترك دفترا صغيراً سجل فيه فلسفته واكتشافاته. وكانت على أغلبها تعبر عن جهل هذا الجد الذي كان يحسب نفسه علامة زمانه.من جملة ما كتب ما ملخصه: العالم يتألف من 90% من الدروز الموحدين و9% من المسيحيين و1% من المسلمين وهكذا تقريباً كانت نسب الأنتماء الطائفي لسكان قريته.
فترى أقلام السلطة أن كل كاتب لا بد وأن ينتمي لمركز قوة وبما أنه يتصور في متاهات عقله أن الصهيونية والإمبريالية مهيمنة على كل شيء فهو يوزع وبكرم الكتاب ذات اليمنى للصهيونية و ذات اليسرى للإمبريالية. لكنه لا يستطيع تفسير نجاح كتبي أو كتب الطاهر بن جلون أو أمين معلوف حتى أكثر من الكتاب اليهود الألمان أو الكتاب الإسرائيليين المترجمين مثل عاموس عوز ودافيد غروسمان.
لكن مما يزيد كاتب السلطة الجبان قناعة بما يعمله هو فشل عدد كبير من المهاجرين والمنفيين وعودتهم خائبين إما الى العدم أو إلى حظيرة القبيلة فيظن كاتب السلطة أنه كان حكيماً – وهوليس إلا فهلوياً – لأنه اختصر طريق الألم وأختار “وإن على مضض” بذكاء أن يظل تحت رعاية الطاغية ويقبل بالعور بدل العمى حسب رؤيته. هؤلاء بالذات وليس الطاغية هم ألد أعداء المثقف الملتزم. الطاغية لديه حسابات أخرى للسلطة لا يلعب بها كل المثقفون وزن قائد لسلاح الدبابات المتمركزة قرب العاصمة حتى ولو كان هذا أمياً لا يفك طلاسم حرف. هؤلاء المثقفون يشنون حربا لا هوادة فيها وبمناسبة ودون مناسبة على أدباء المنفى لأن هولاء يبدون لهم كالمرآة التي تعكس لهم حقيقتهم دون خجل.

*هل تعتقد أن ظهور أعمالك بالعربية سيغيير مواقف بعض الكتاب منك..أعني اولئك الذي يرددون أراء عنك دون أن يقرأوا ؟
**لا أظن فهم يتسامحون كسلتطهم حتى مع مجرمين ويظلون رغم ذلك حاقدين على من له موقف محدد في الحياة حتى ولو كان هذا الموقف ليبرالي متسامح. وهم لا يقرأون المكتوب على الأوراق بل ما هو ثابت في رؤوسهم من أحكام منتهية لا دفاع فيها ولا استئناف كالمحاكم العسكرية للأنظمة التي ضربوا بسيفها.
حتى هنا في المانيا حيث يدرس أدبي في كل كتب القراءة للتلاميذ الألمان من الصف الثالث وحتى صف البكالوريا وحيث انتشرت لي مئات المقالات والمقابلات النقدية السياسية ضد الديكتاتورية والعنصرية المعادية للثقافة العربية لا يقرأ أعدائي أي شيء منها بل ينتظرون وبصبر حدوث خطأ مطبعي أو تشويه لمقالة لم أرها قبل طباعتها ليخرجوا صائحين ومهللين.. ويدلون على الموضع الذي علموه باللون الفوسفوري المشع. وبينما هم في هذيانهم هذا يكون العالم قد تركهم وراءه وتقدم بخطواته التي لا ترحم.

*دعنا نعود في ختام هذا الحوار إلى ما تكتب. إلى اي مدى استطعت ان تقدم الشرق الى العالم الغربي حيث تترجم اعمالك إلى لغات عديدة ؟
**لم أعالج الشرق في أي من أعمالي الروائية لأني مثلا لا أعرف الكثير عن حياة الشعوب الثانية. وأنا أرفض الكتابة عن شيء أو مكان لا أعرفه بدقة. وأسلوبي للتعاطي مع المعرفة أسميه “أسلوب جبل الجليد” أي أن الجزء الظاهر للقارىء العادي هو الأصغر، بينما أخفي تحت السطح ما يفرح به قلب كل قارىء خبير في الموضوع المطروح. أنا لم أزر عدى لبنان أي بلد عربي أو شرقي آخر فكيف لي أن أكتب عنهم!
أبطال رواياتي يعيشون كلهم بين دمشق الشام ومعلولا. أحيانا أطلق على دمشق أسماء خيالية كما يحلو أحيانا للعشيق تسمية عشيقته. فدمشق تظهر أحيانا تحت إسم ” أولانية” وهو في اللهجة الدمشقية بمعتى الأولى وأحيانا أخرى أسميها “سراب” الى ما هنالك. ولذلك فنموذج الحياة الدمشقية هو ما قدمته وأنا أظن أنني قدمته للألمان وغيرهم بواقعية.

*هل يمكن لنا أن نعزو نجاحك سواء بالالمانية او في الترجمات لـ لغات اخرى الى لهفة القارئ الغربي لمعرفة هذا الشرق الذي قد لا يزال يمثل له سحراً غامضاً وعالماً لازال يعتقد بطقوسيته وغرابته ؟
**الغرابة والسحر يرافقان كل عالم ينشأ في الأدب وليس هذا خاصا بالشرق فأنا أعرف المانيا بكل تفاصيلها اليومية والتاريخية لكنني عندما أقرأ رواية ألمانية أغادر ألمانيا الواقعية وأدخل الى ألمانيا الأدبية. أتجول مع أبطالها وكأنني ولدت معهم في حيهم عام 1890 في أحد الأكواخ أو القصور أو عام 1914 في أحد أحياء برلين التي تنبض بالحياة وأما الغموض أو الطقوس الشرقية فلا تهمني إطلاقاً ولا تهم الغالبية من القراء بل جماعات مهووسة بالشرق وبالروحانية والرقص الشرقي وهي جماعات تهتم بالبخور والعطور أكثر من الكتب.

*ختاماً كيف ترى لهذا الشرق من مكانك الحالي ومن الوضع الذي وجدت نفسك فيه ككاتب ألماني؟
**بما أنني أطالع يومياً أغلب الصحف العربية و أجول يومياً لنصف ساعة في الإنترنت فأنا ليس لدي صورة أخرى عن الشرق تختلف عن صورتك له. قد أصل نتيجة حياتي الطويلة في المنفى لتحليل آخر للوضع لكن هذا لا علاقه له بكتابة الأدب بل بالقناعة الشخصية.
أجرى الحوار خلف علي الخلف عبر البريد الالكتروني من بداية فبراير الى نهاية شهر مايو عام 2006

 

موقع جدار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى