إياد الجعفريصفحات المستقبل

حوار سوريّ مع المرآة/ إياد الجعفري

 

 

جلس أمام المرآة بعد متابعة دقيقة لنشرات الأخبار التلفزيونية والالكترونية. كان وجهه ممتعضاً. حدّق فيه بنظرات يشوبها الازدراء، وقال: “فررت بنفسك وأهلك وتركت البلاد للجهلة والعوام والمغلوبين على أمرهم، وللطغاة”. إرتبك. احتار كيف يُجيب، وبعد برهة من التلعثم خاطب انعكاسه في المرآة: “هل كانت لدي خيارات أخرى، هل نسيت كيف قال لي حملة السلاح (لا تتفهمن علينا)، وكيف طوقتني (المناطقية) وكبلت قدرتي على المشاركة في الحراك”. حدّق فيه انعكاسه بغضب وقال: “هذا ما تحدثه بك نفسك، كي تبرر لك الفرار من بلدك”.

كانت مشاهد موت السوريين في شاحنات مغلقة، وعلى شواطئ مُقفرة، قد ألهبت “لاوعيه”، وحركت فيه مشاعر تأنيب الضمير، “هل كنت مُضطراً، وانعدمت أمامك الخيارات؟”، قال له انعكاسه. تلعثم من جديد، تذكر بيته الذي قُصف بدبابة “الجيش السوري”، وتذكر نزوحه الداخلي إلى دمشق العاصمة، وإقامته في منزل أحد الأقارب، قال: “لم يكن لديّ سبيل آخر، لم أكن أستطيع العيش طويلاً في بيت الأقارب، ولم أكن أستطيع أيضاً دفع إيجار بيت في دمشق، ولم أكن أيضاً قادراً على أن أسجل أولادي في المدرسة الحكومية بعد أن عقّدت مديرة المدرسة –الموالية- السبل الروتينية لتسجيل الأولاد في المدرسة”. قضى أولاده نصف سنة بلا دراسة، قبل أن يهاجر إلى إحدى دول الجوار. أراح هذا التبرير نفسه، كيف سيأمن على أولاده تحت القصف، حتى في دمشق، وكيف سيأمن عليهم بلا تعليم؟. لكن انعكاسه أبى أن يترك له برهة من الاستقرار النفسي: “أنسيت حينما حادثك بعض المنظمين للحراك الثوري، وقالوا لك، نريدك معنا…نريد قادة مثقفين، نسيت واجبك، وتركت البلاد والحراك فيها للبسطاء، ينجرون وراء أي رأي”.

آلمته كلمات انعكاسه، وتذكر الأخبار عن شراء الإيرانيين للعقارات بدمشق، وشعر بغصّة، لقد أخل بواجباته تجاه بلده، وتركها نهباً لطاغية، ومحتلين جُدد، وفرّ، على خلاف ما فعله أجداده منذ عقود. واستغل انعكاسه الفرصة لتعميق ألمه فزاد عليه: “اليوم سوريا نهب للمتطرفين…ألم تكن أنت وسواك من المثقفين المُـتنورين السبب؟، حينما فررتم بأنفسكم وعائلاتكم، وتركتم البلد لأولئك”.

تذكر تصريحاً متداولاً للمستشارة الألمانية، بأن بلاد أوروبا كانت أقرب للسوريين من “مكة”، فوجدها سانحة: “لقد تخلى عنا إخوتنا، وتركونا نهباً لصراع طائفي إقليمي، لا يرحم”. حدّق فيه انعكاسه بازدراء: “وهل كنت تنتظر من نخب حاكمة غير ذلك؟!”، واستطرد الانعكاس: “لا يعمر البلدان إلا أبناؤها، وفي سبيل ذلك، عليهم بالتضحية، لتحريرها أولاً، ومن ثم إعادة إعمارها، كلٌ حسب اختصاصه وخبراته”.

صمت الرجل. فهو مثقف بالفعل، وكان متحمساً للثورة في بداياتها، لكنه حينما طالت السبيل، فرّ، واكتفى بتشجيع الثوار عبر “فيسبوك”. قال له انعكاسه: “لا يمكن أن يُبنى بلد بالتنظير عن بعد، وأولئك المتطرفين الذين تتحدث عنهم، من الطرفين، أحق بهذا البلد منك ومن أمثالك، فهم يقدمون التضحيات على الأرض، في سبيل الحصول على رقعة لهم فيها، أما أنت فتخليت عن كل شيء فيها وفررت”.

اليوم، أولاده في المدارس، وقد وجد عملاً مقبولاً في دولة من دول جوار سوريا، والكثير من أقرانه الذين عجزوا عن التأقلم حيث هم، هاجروا بالبحر والبرّ، مخاطرين بأولادهم وأنفسهم، بحثاً عن “وطن بديل”. لكنه، وكثير من أقرانه الذين يحادثهم يومياً، غير مستقرين نفسياً. وألمٌ وغصّة تتفاعل في أنفسهم، فتُحيل حياتهم إلى “مضض” لا معنى له.

لام أقرانه المهاجرين إلى أوروبا، دون أن يتقبل تبريراتهم التي تسمح لهم بإلقاء أنفسهم وأولادهم في التهلكة على طريق أوروبا. ولامه أقرانه في الداخل، من دون أن يتقبلوا تبريراته التي سمحت له بالفرار من حيث يجب أن يكون، ليصبح أحد الساعين وراء “لقمة عيش” هادئة. قال له انعكاسه: “لماذا تحركتم بالثورة إن كنتم تريدون حياة هادئة، حتى لو كانت بلا كرامة؟، هل نلتم الكرامة المأمولة في دول اللجوء، في الجوار، أو في أوروبا؟!”.

لم يستطع أن يجادل. أقرّ في نفسه أن المتطرفين أحق منه ومن أقرانه بسوريا. وأولئك الصامدون على تراب سوريا، على اختلاف مواقفهم وتحزباتهم، أحق بها منه. وإن كان لا يعاني من فاقة، أو حاجة مادية ملحة، حيث هو، إلا أنه يعاني من الانفصام، والعزلة عن محيطه، يشعر أنه في غير مكانه، وأنه لا ينتمي إلى حيث هو.

بعد برهة من التحديق في انعكاسه الغاضب في المرآة، رنّ جرس الموبايل، نهض للردّ عليه، أخبره شريكه في محل المأكولات السورية الذي افتتحاه، بأن هناك مشكلة في العمل، وأنه يحتاجه بسرعة. ارتدى ثيابه سريعاً، وقد انسحبت في ثوانٍ صورة الانعكاس الغاضب من ذهنه، لتحتل ذلك الفراغ مشاغل الحياة، والبحث عن “لقمة عيش هادئة”.

المدن

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى