صفحات مميزةفاطمة الصفدي

حوار صفحات سورية مع الكاتب والباحث صبحي حديدي


اعداد وحوار فاطمة الصفدي

شارك في هذا الحوار مجموعة من الشباب السوري، الأغلبية فضلت عدم الاشارة الى الأسماء، لذلك احترمنا هذا الرغبة، ومن هنا يتضح للقارئ اختلاف الاسلوب في كل سؤال، واختلاف الهدف حسب اهتمامات المحاور. صفحات سورية تتقدم بالشكر الجزيل للكاتب والباحث السوري صيحي حديدي على تجاوبه المثير للاعجاب واجابته على تساؤلات المحاورين التي غطت حقولا كثيرة من الشخصي الى الثقافي وصولا الى السياسي.

وفيما يلي نص الحوار

هل ترى مخطط قريب ناجح لتقسيم سوريا ؟

كلا، تقسيم سورية غير ممكن لأسباب شتى، جيو ـ سياسية وديمغرافية وتاريخية، كما أنه ليس مطلباً من أي جهة متورطة في الصراع، سواء تلك المتعاطفة مع الانتفاضة أو مع النظام، ولا أعتقد أنّ طرفاً عاقلاً واحداً من ناصحي النظام (المخابرات الروسية، الحرس الثوري الإيراني، حسن نصر الله…) يشجعه على التفكير في تقسيم البلد، من منطلق إقامة كيان ما طائفي الطابع في بعض أرجاء الساحل السوري مثلاً.

حكاية التقسيم هي، من جانب آخر، إحدى الفزاعات التي يروّج لها النظام وحلفاؤه؛ فضلاً عن أنصاره من رهط “الممانعين” العرب (وهم كثر بالطبع، ابتداء من رجال حزب الله والقومي السوري الاجتماعي في لبنان، وانتهاء برابطة الكتّاب الأردنيين، ليس دون المرور بأمثال تميم البرغوثي…)؛ وبعض زاعمي المعرفة بالبلد وأهله من المراقبين الغربيين (باتريك سيل، جوشوا لانديس، أو حتى روبرت فيسك).

هل  الصمت الدولي على مايحدث في سوريا يقف خلف الرغبة باستنزاف ايران تمهيدا لسقوطها على غرار ماحدث مع العراق؟

لا علاقة للأمر بإيران أو أنّ الصلة واهية بين الموقف من الانتفاضة والنظام السوري، والرغبة ـ إنْ وُجدت، أصلاً ـ باستنزاف إيران. كذلك ليس هنالك “صمت دولي” بالمعنى الحرفي للكلمة، على المستوى الحكومي الرسمي للقوى العظمى في المقام الأول، بل المأساة أنه لا يوجد إلا الكثير من الضجيج والجعجعة، من غير طحن! أمّا المواقف الحقيقية الفعلية، المبطنة أو المموهة جيداً أو الخافية، فهي الأسوأ في نظري، وهي تدخل في حزمة الأسباب التي تكفلت بإطالة عمر النظام السوري. يتصدّرها سبب مركزي، وجوهري، ينتج متتالية أسباب ذات ترابط عالٍ، بحكم تطابقها أو تقاطعها، وهو انّ الولايات المتحدة لم تحسم أمرها، بعد، بصدد قطع ما تبقى من شرايين تغذية تمدّ النظام بآجال بقاء، وأحياناً تشجّع لجوءه إلى تنفيذ هجومات مضادة، بين حين وآخر.

في رأس المتتالية الناجمة يأتي الموقف الإسرائيلي، الحريص على تأجيل سقوط البيت الأسدي حتى ربع الساعة الأخير (حين ستقرّر إسرائيل ما إذا كانت ستلجأ إلى الحسم العسكري في ملفّ منشآت إيران النووية، أم ستتراجع طهران من تلقاء ذاتها)؛ وكذلك الموقف الروسي، الذي لا مصلحة له في الحسم، بالطبع، ما دامت واشنطن ذاتها لا تحسم؛ ومثله الموقف الأوروبي، سواء على صعيد الاتحاد مجتمعاً، أو الدول فرادى؛ فضلاً عن مواقف الدول العربية الحليفة، التي تتقلّب سياساتها على النار الأمريكية الهادئة إياها، مع فارق التسخين اللفظي الذي يخاطب القول أكثر ممّا يقارب الفعل.

ذلك لا يطمس حقيقة المواقف المشرّفة التي تتعاظم هنا وهناك، على صعيد عالمي واسع النطاق، وتصدر عن الشعوب والمنظمات غير الحكومية وهيئات المجتمع المدني، والتي تجبر الحكومات على تحويل الجعجعة إلى أفعال، حتى على المستويات الرمزية، كما في القرارات الاخيرة التي تضمنت طرد سفراء النظام من معظم دول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة.

يقول الياس خوري  “الضحية تصبح اكثر شراسة من الجلاد اذا اتيحت لها الفرصة” الى اي حد يمكننا اسقاط هذه المقولة على الشارع السوري

لست أدري في أي سياق قال الياس خوري هذا الكلام، ولكني أخاله قصد اليهودي ضحية الهولوكوست، في انقلابه إلى جلاد يهودي ـ صهيوني على الفلسطينيين؛ وبالتالي لا أرى أنها تنطبق على “الشارع السوري”، أياً كان المعنى المقصود من هذا التعبير في السؤال. صحيح أنّ سورية باسرها كانت ضحية نظام الاستبداد والفساد والحكم الوراثي، طيلة 42 سنة، ولكن من المحال أن تنقلب سورية المستقبل إلى جلاد على أي من أبنائها، حتى أولئك القتلة والمجرمين والشبيحة ورجال النظام على اختلاف مواقعهم. لهؤلاء حكمة القانون ومحاكم القضاء وحكم الشعب، ولا نريد ـ ولن نسمح، ما وسعتنا الأدوات، أو كما آمل شخصياً ـ باستيلاد جلادين جدد من أي طراز.

لماذا كلما حاولنا نقد المعارضة الخارجية تتحجج بأنها نتاج أربعين سنة من الديكتاتورية والقمع بينما على الارض نجد شباب عاشوا ذات القمع  استطاعوا أن ينجحوا ببمعارضة متماسكة وكتنسيقات قادرة على قيادة الشارع فما الفرق ؟

هذه حجة مرفوضة بالطبع، وهزيلة، وركيكة. هي غربال، مليء بالثقوب أيضاً، ولا يحجب الشمس الساطعة التي تقول إنّ المعارضات السورية، بفصائلها كافة، داخلية كانت أم خارجية، انتبهت إلى الحراك الشبابي والشعبي وكأنها تصحو من رقاد أهل الكهف. والحال أنها لم تفشل في تماهي الحدّ الأدنى مع هذا الحراك، فحسب؛ بل حاولت اللهاث خلفه، فعجزت عن اللحاق به في الأغلب، فكان أنها إما تخلّفت عنه وصارت وراءه، أو افترضت أنها تسبقه وأخذت تعدّد له النقائص، وتوجه إليه اتهامات بعدم النضج أو التسرّع، أو طيش الشباب، أو قلّة الخبرة في ما يُسمّى “توسطات السياسة”!

ماهو السبب في أن المعارضين داخل المعارضة ليسوا سياسيين وإنما شخصيات ايديولوجية ؟

هذا تشخيص غير دقيق، ولعلّ العكس هو الصحيح، إذْ أنّ الغالبية الساحقة من شخصيات المعارضة (وأفهم أن المقصود من السؤال هي أحزاب المعارضة السابقة على انطلاقة الانتفاضة) ينتمون إلى تنظيمات سياسية عاملة وقائمة وسبق أن تعرّضت لحملات شرسة من جانب النظام، انطوت على الاعتقال والتعذيب والتصفية الجسدية والتنكيل وقطع الأرزاق والنفي… وهذا التاريخ، الذي لا ينكره شعبنا ولم ينكره الحراك الشبابي، لا يبرّر تقصير المعارضين الأفراد أو المعارضات في صيغة أحزاب، من جهة أولى؛ ولا يقلل، من جهة ثانية، أثر التناحرات الإيديولوجية في تثبيط فاعلية المعارضة وتعطيل حضورها الجماهيري، فضلاً عن انتفاء توحيد صفوفها ضمن الحدّ الأدنى.

لطالما كتبت مقالات وكتابات ضد النظام السوري وعن مواضيع تخص الثورة السورية ، لماذا لم تشارك بالمجلس الوطني وتمثل الشعب ؟ أما آن أن تجسد كتاباتك في مواقف كهذه ؟

أنا لا أكتب ضدّ هذا النظام منذ ربع قرن على الأقلّ، فحسب؛ ولكن كان لي شرف معارضته منذ سنة 1972، حين كان الموقف الممعارض للنظام هو أحد أسباب الخلاف، ثمّ الانقسام، في الحزب الشيوعي السوري. وحين صدر بيان تأسيس المجلس الوطني السوري، في تشرين الأول 2011، أعلنت عن تأييدي التامّ لهذه الصيغة، وانضوائي في قرار الشعب السوري الذي دفع باتجاه وحدة المعارضة في الداخل والخارج، شاكراً الرفاق والأصدقاء الذين سبق لهم أن محضوني الثقة وألحوا على أن أشاركهم ما ينتظرهم من أعباء ثقيلة حين يستكمل المجلس هيئاته. كذلك شدّدت، آنذاك كما أفعل اليوم، على اعتذاري عن عضوية أي من مجالس الخارج، والامتناع عن حضور أي من مؤتمرات الخارج المختلفة، ليس تهرّباً من العمل الوطني العام (إذْ أذكّر، بتواضع أقصى، أنني أعارض نظام آل الأسد من داخل تنظيم سياسي محظور وملاحَق، وليس من موقع المثقف والكاتب فحسب). لقد حافظتُ، ويهمّني أن أحافظ دائماً، على مسافة نقدية واضحة، ملموسة وميدانية، من فصائل المعارضة السورية، عموماً؛ ومن “حزب الشعب الديمقراطي”، الذي أنتمي إليه، بصفة خاصة؛ وسعيت إلى أن تكون هذه حالي أيضاً، في العلاقة مع المجلس الوطني. وتلك، في يقيني، هي المسافة التي تسبغ المعنى، فضلاً عن الجدوى والشرف، على انتماء المثقف إلى قضايا شعبه، وانحيازه إلى الحقّ والحرّية والمساواة والديمقراطية، ودفاعه عن مجتمع مدني علماني وتعددي تنظّم علاقاته دولة القانون.

ذلك جعلني، ويجعلني، أفتح عينيّ على اتساعهما خلال سيرورة مزدوجة تنطوي على تأييد المجلس الوطني، ومراقبة أدائه عن كثب، في آن معاً، دون أن يخلّ الواجب الوطني العامّ بالحقّ الشخصي النقدي. فالمجلس لا يضم الغالبية الساحقة من قوى المعارضة السورية في الداخل، ولا غالبيتها في الخارج أيضاً، الأمر الذي ينبغي أن لا يمنحه صفة التفويض التامّ. والمجلس يضمّ جماعات أو هيئات أو أفراداً سبق لهم أن هادنوا النظام، أو غازلوه، أو سكتوا عن جرائمه طيلة أربعة عقود، أو حضّوا على خفض سقوف معارضته أو قبلوا لرأس النظام الاستمرار في منصبه المورَّث حتى بعد إصداره شخصياً الأوامر باستخدام الذخيرة الحية وارتكاب المجازر والجرائم. بيد أن الانتفاضة جبّت ما قبلها، بالفعل، وكان قميناً بها أن تهدي البعض إلى سواء السبيل، بصرف النظر عن السوابق؛ وكذا فعل الشعب السوري، الذي تحلى بمقدار مدهش من التسامح إزاء بناته وأبنائه، ومنحهم الفرصة تلو الفرصة لكي يطووا صفحات الماضي ويلتحقوا بالركب النضالي الشريف، والمشرّف.

واضح ان الثورة لا تملك قيادة فكرية أو ثقافية أو حزبية .. بمعنى أن شرائح المثقفين والمفكرين لم يكونوا رواد الثورة أو موجهيها .. وإنما التحقوا بها بعد ان تحرك الشعب بمحض إرادته ..

هل يعتبر هذا الوضع صحي في ثورتنا ؟ أم أنه يجب تصحيح المسار .. وان تبادر النخب الثقافية والفكرية إلى ترشيد وتوجيه الثورة ؟

الانتفاضة لم تتوقف عن تصحيح مساراتها، لأنّ السيرورة لم تكن تقتفي مساراً واحداً في الواقع، ولم تعجز في أي برهة عن استيلاد قياداتها، الميدانية والسياسية والتنظيمية والإعلامية، ولهذا فإنها صامدة منذ 14 شهراً، وتحرز الانتصارات كل يوم، على النظام وأجهزته وعسكره وشبيحته ومؤسساته، ولكنها أيضاً انتفاضة تنتصر لذاتها، وتنتصر على ذاتها… وهنا مكمن الكثير من عبقرية معادلاتها. وقارىء لافتات كفرنبل أو الزبداني أو عامودا، مثل قارىء البيانات التي تصدر عن هيئات الانتفاضة وتنسيقياتها المختلفة، أو الناظر إلى الأفيشات والفعاليات والشعارات المبتكرة، بما تشفّ عنه من وعي رفيع ومتقدّم… كيف له أن يشكّ في افتقار الانتفاضة إلى القيادات الفكرية أو الثقافية؟

أمّا “القيادات الحزبية” فهذه تعود بمعضلاتها إلى حال المعارضات السورية، وليس حال الانتفاضة، وبالتالي فإنّ غيابها عن ساحة الفعل، مثل حضورها حين تحضر، هما حصيلة غياب أو حضور الحياة الحزبية المعارضة في سورية عموماً، وفي قلب الحراك الشعبي بصفة محددة.

هل الصراع العلماني الإسلامي في أروقة الثورة حقيقي أم وهمي ؟ بمعنى أنه صراع معارضة فقط أم صراع شعب أيضا ؟

لا أميل، في هذا الطور من عمر الانتفاضة على الأقل، إلى استخدام مفردة “الصراع” في توصيف التباينات بين ما هو “علماني” وما هو “إسلامي”، فضلاً عن ان اتفاقاً كافياً حول مضمون المصطلحين ليس مستقراً بعد، لا في داخل صفوف الانتفاضة السورية خصوصاً، ولا حتى على صعيد ما شهدته انتفاضات عربية أخرى من شدّ وجذب بين أنصار “العلمنة” وأنصار “الأسلمة”. الملحّ أكثر، بالتأكيد، هو تفادي أي استقطاب حادّ، او تحزّب عصبوي، ينتهي إلى تأطير “اصولية” قصوى على الطرفين: واحدة علمانية، وأخرى إسلامية.

ولستُ، لحسن الحظّ، أرى أنّ “أصولية” كهذه هي التي تحتلّ حالياً مشهد التباينات الفكرية أو السياسية أو الإيديولوجية في جسم الانتفاضة. ولا ريب أنّ نتيجة كهذه لا تتيح التكهن بأنّ الحال ستبقى مرهونة بهذا التوازن، أو أنّ التباين لن ينقلب إلى تطاحن وتصارع… حتى إذا لم يتجه إلى حدّ الصراع!

تركيا والتذبذب السياسي نحو سوريا؟

لا أميل إلى استخدام صفة “التذبذب” في تشخيص الموقف التركي من الانتفاضة، بل أظنّ أنّ السياسة التركية اكتسبت طبيعة مستقرّة تجاه النظام السوري منذ أن شرعت حكومة أردوغان في فكّ الارتباط مع بشار الأسد، بعد تصاعد أعمال العنف الوحشية ضدّ المدنيين العزّل، وارتكاب المجازر في جسر الشغور والقرى المحاذية للحدود، ونزوح آلاف السوريين إلى تركيا. قد يكون الترقب، في انتظار لعب دور حاسم، سورياً وإقليمياً، هو الصفة الأفضل تعبيراً عن خيارات تركيا الراهنة، التي كان من الطبيعي أن يُعلّق الحسم فيها على معطيات الداخل السوري، وتحرّك أو جمود المواقف الأمريكية والأوروبية والأطلسية، واتضاح المدى الذي يمكن لروسيا أن تذهب إليه في دعم نظام آيل إلى السقوط. ولا ننسى أن تركيا دولة مؤسسات في نهاية المطاف، وحتى إذا كان حزب أردوغان هو الحاكم، فثمة اعتبارات عليا تخصّ الأمن القومي التركي على المدى البعيد، والسياسات فيها لا ترسمها جهة واحدة، وفي ما يخصّ الموقف من النظام السوري ثمة دور بارز يلعبه الجنرالات في مجلس الأمن القومي التركي.

يتوجب، في المقابل، أن نتذكر حقيقة أولى تشير إلى أن المصادفة وحدها لم تكن وراء استعداد تركيا لاستضافة الغالبية الساحقة من مؤتمرات وملتقيات أطراف المعارضة السورية في الخارج، من جهة أولى؛ وأنّ مقرّ قيادة جماعة الإخوان المسلمين السورية قد انتقل من عمّان ولندن إلى اسطنبول، من جهة ثانية. حقيقة ثانية تشير إلى أن تركيا تواصل منذ سنوات السير حثيثاً نحو احتلال موقع أبعد نفوذاً من ذاك الذي تتولاه قوّة أقليمية، لأنها ـ في فلسفة وزير الخارجية داود أوغلو، التي يتبناها أردوغان بالحرف تقريباً ـ قوّة دولية أوّلاً وقبلئذ، ويتوجب عليها أن تتصرّف على هذا الأساس، فتعمل على خلق منطقة تأثير تركية ستراتيجية، سياسية واقتصادية وثقافية. وتركيا، في حقيقة ثالثة، عضو في الحلف الأطلسي،الأمر الذي يحفظه جنرالات تركيا عن ظهر قلب، وعلى نحو يدغدغ ذلك المزيج من التربية الإنكشارية العثمانية، والغطرسة الكمالية المتقنعة بالعلمانية. فإذا شاء اللحلف الأطلسي اختراع ذريعة للتدخّل العسكري، أو منحها له النظام السوري ذاته، فإنّ لعاب الجنرالات الأتراك سوف يسيل قبل الساسة!

بدايةً مع مدينتك القامشلي، انتشر منذ فترة قريبة فيديو عن تشكيل كتيبة للجيش الحر في القامشلي.. على الرغم من أن الحراك الشعبي حاضر فيها بقوة، لكنها لا زالت بعيدة عن الحملات العسكرية -على الأقل إعلامياً- على العكس من بقية المدن..

ألم يكن الأفضل هو توسيع رقعة المظاهرات هناك قبل استنساخ تجربة التسليح في المدينة؟ هل باتت تحتاج المدن والأحياء اليوم إلى الكثير من الدمار حتى تتسع تشهد اتساعاً في المظاهرات ؟

من الأفضل هذا، طبعاً، وبلا تردد. استنساخ أنساق التسلّح، وإقامة الكتائب العسكرية اعتباطياً وعلى نحو متسرّع، والغفراط في الثقة بقدرة هذه الكتائب على مواجهة آلة النظام العسكرية، الوحشية بقدر ما هي عالية التسليح والعتاد… كلّ هذه الافتراضات تقود إلى أخطاء فادحة، وتنجم عنها عواقب وخيمة تصيب المدنيين العزّل أولاً، كما تلحق الضرر بالحراك السلمي، وتخلّ بالتركيب الجماهيري للتظاهرات.

وفي المقابل، “الجيش الحرّ” مفهوم غامض وغائم تماماً، وثمة الكثير من الأشكال التي ينتظم فيها المسلحون، سواء أكانوا من المدنيين أم العسكريين، وهنالك سلاح نظيف يستهدف حماية المتظاهرين وردع عسكر النظام وأجهزته الأمنية وشبيحته، وهنالك سلاح قذر يستغلّ الانتفاضة لإدارة أعمال التهريب والارتزاق بالسلاح عن طريق الخطف وطلب الفدية. وفي العموم، من الخطأ سياسياً وأخلاقياً الركون على واحد من أقصيَيْن: تقديس الجيش الحرّ بالمطلق، أو تأثيمه بالمطلق أيضاً.

دعني، أيضاً، أكرر ما سبق لي أن ساجلت فيه: أنّ التسلّح، مثل العسكرة والتخندقات الدينية والطائفية والإثنية، تطورات كفيلة بإلحاق الأذى الشديد بثقافة الاحتجاج والمقاومة السلمية والتعبئة الجماهيرية وروح الاجتماع الشعبي، وسواها كثير من الخصال العبقرية التي اجترحتها الانتفاضة السورية طيلة الأشهر الخمسة عشر. لكنّ النقاش فيها ليس أحادياً سكونياً، أو مانوياً جامداً لا مساحة فيه إلا لـ”نعم” أو “لا”، أسود أو أبيض، سلمية مطلقة أو عسكرة لا تقلّ إطلاقاً. صحيح، بالفعل، أنّ على الانتفاضة أن لا تسقط في أحابيل العسكرة، ولا فخاخ التسليح والتسلّح أياً كانت مصادرها؛ ولكن هل يمكن حمل مسطرة قياس لا يأتيها الباطل أبداً، تُرفع مثل سيف بتار في وجه كلّ من حمل السلاح، دون تمحيص في الأسباب التي دفعته إلى هذا، كيف، متى، وأين…؟

▪في أحد حواراتك تقول: “فليخجل الكاتب من نفسه إذا لم يكتب في السياسة”.

لا أذكر أنني قلت هذا، وبالأحرى لا يعقل أن أقوله لأنه ينطوي على تعسف شديد ضد مضامين الكتابة المختلفة، غير السياسية. في المقابل، تعلّمت من الراحل الكبير إدوارد سعيد درساً بليغاً مفاده انّ الناقد الأدبي الذي لا يكتب في السياسة، من باب الترفع عنها لصالح إبقاء الأدب وعلم الجمال في برج عاجي، هو ناقد يخون رسالته المعرفية، و”بلاش منّه” كما عبّر سعيد باللهجة الفلسطينية. لعلّي قلت شيئاً بهذا المعنى، وأقوله اليوم أيضاً، لأني لا أكتب المقالة السياسية تلبية لاعتبارات تخصّ التزامي السياسي، المعارض للنظام منذ عقود، فحسب؛ بل كذلك من زاوية الوفاء لتلك الرسالة، والتطلع إلى أداء أفضل في وظيفة المثقف العضوي كما رسم ملامحها المفكر الإيطالي الكبير أنطونيو غرامشي، وهي وظيفة تجمع بين الواجب والشرف في أن معاً.

بعد عامٍ تقريباً على الثورة السورية.. لا يزال العديد من الكتاب السوريين بعيدين عن النقاش في السياسة، بحجة الضغوط التي سيتعرضون لها من قبل السلطة والشارع، ما رأيك في هذا المبرر؟ وهل يستطيع المثقف السوري مستقبلاً لعب دور ريادي حقيقي وردم الفجوة بينه وبين الشارع؟

أرى العكس في الواقع، فالقلة القليلة من المثقفين السوريين هي التي ما تزال بعيدة عن النقاش السياسي، والغالبية العظمى منخرطة فيه، بدرجات مختلفة طبعاً، وضمن شرائح واسعة من المواقف، الواضحة الجلية، أو المموّهة المستترة، أو المتلعثمة المترددة؛ سواء اتخذت صفّ الشعب وأيدت الانتفاضة، أو سارت خلف النظام وسردياته، أو سكنت في منزلة بين منزلتين. ولهذا فإنّ محنة المثقف السوري لا تكمن، اليوم، في أنه يعلن موقفاً أو يحجم عنه، بل في ارتداد هذا المثقف أو ذاك عن قناعات سياسية وأخلاقية، تخصّ الديمقراطية والحريات العامة ومستقبل سورية ونقد النظام، سبق أن نادى بها ودافع عنها ودفع الثمن سنوات طوالاً في زنازين اليوم. المحنة أن يلجأ مثقف ـ معارض ومعتقل سابقاً، أو موقّع على بيان الـ99! ـ إلى ذرائع واهية (شيوع السلاح، التسعير الطائفي، مخاوف الحرب الأهلية، تأسلم بعض الشعارات…) للتشكيك في مسار الانتفاضة، أو المطالبة بالحوار مع النظام، أو التباكي على مفهوم الدولة، أو ملامة الشباب لأنهم أقلّ تفقهاً في السياسة وتوسطاتها، الخ… المتباكون هؤلاء يتوزعون على فئات متباينة، سياسياً واجتماعياً وفكرياً وثقافياً، احتُسبت على الدوام في رصيد “المعارضة”، بالمعنى الواسع الفضفاض للمصطلح؛ والغالبية بينهم، إلى جانب قمع النظام لهم، تعرضوا لتنكيل خاصّ من جانب محيط اجتماعي أو طائفي موالٍ للنظام، اعتبرهم مارقين على الجماعة، منشقّين عن الإجماع الأهلي.

وفي العموم، هذه تنويعات سورية على خيانة عتيقة أدمن المثقف ارتكابها على مدار التاريخ، في كلّ المجتمعات، خاصة خلال أطوار التأزم والثورة، حين تتطب الحياة موقفاً بالغ الوضوح من حيث الانحياز إلى صفّ الحرّية، أو الالتحاق بالطغيان. الموقف الثالث، حتى حين يسمّونه “توسطات” من باب التجميل، هو في نهاية المطاف انضواء ضدّ الحقّ، مقنّع كثيراً أو قليلاً، لكنه يخون رسالة المثقف.

هل نستطيع اليوم أن نقول أن المجلس الوطني فشل كلياً؟ ولماذا حتى اللحظة لم يستطع أن يقدّم دعماً ملموساً للثورة إن كان بشكلٍ شخصيّ أو تدعيم الموقف الدولي؟

أن يلتمس المرء الكليات في مسائل الاجتماع السياسي، أمر لا تُحمد عقباه، ولا يفضي إلى مآل سليم. ولهذا لا أقول إن المجلس الوطني فشل كلياً، كما لا أقول العكس طبعاً. حصيلته، مع ذلك، تظلّ متخلفة كثيراً عن أداء الانتفاضة في الداخل، وقاصرة عن التناغم مع إيقاعات الحراك الشعبي، وجموده الوظيفي فاضح تماماً بالقياس إلى ديناميات الشارع السوري. وفي ظنّي أنّ مشاكل المجلس الوطني كانت أقرب إلى تشوهات ولادية منها إلى تراكم أخطاء لاحقة، سواء أكانت ذاتية شخصية، أو موضوعية مؤسساتية. ولا ريب أنّ ولاية صديقنا برهان غليون، وليس من حيث استمراء التمديد لنفسه فقط، بل كذلك من حيث قصور خبراته السياسية واعتماده على تحالفات فضفاضة جعلته أسيراً للمجموعات الإسلامية تارة، أو لعاقدي الأمل على واشنطن وباريس طوراً؛ إنما جلبت على المجلس مزيداً من التشوهات. وبالتالي لست واثقاً من أنّ العلاج الشافي يكمن في انتخاب هذا الرئيس أو ذاك، بل في خطوات إصلاح جذرية، وإعادة هيكلة أكثر جذرية، ورقابة صارمة من جانب مكوّنات المجلس، ولا سيما قوى الداخل.

هل لا زلت ترى سعدي اليوسف أنه «الشاعر النجم» حتى اليوم؟ هل نحن قادرون على أخذ موقف عن شخصٍ ما بمعزلٍ عن مواقفه السياسية؟ والأهم من ذلك هل الإنسان عموماً مضطرٌ لأن يشكّل رأياً بشخصٍ ما بمعزل عن مواقفه -السياسية مثلاً- ؟

إذا فهمت السؤال جيداً، أقول ببساطة: نعم، أستطيع أن أثمّن عالياً شعر سعدي يوسف، وكذلك أدونيس ونزيه أبو عفش وعادل محمود… مثلاً، بمعزل عن مواقفهم من الانتفاضة؛ وهذه ستكون حالي في تثمين قصيدة شاعر يؤيد انتفاضتنا بلا تحفظ. هل ما يزال سعدي شاعراً نجماً؟ أظنه كذلك، وإلا لما أثارت مواقفه السلبية من انتفاضات العرب كلّ هذا السخط، والاستنكار، والعتب أيضاً! لقد تشرّفت، قبل ثلاث سنوات، برئاسة لجنة التحكيم التي منحت سعدي جائزة الأركانة للشعر، وهي الأرفع في المغرب، ولم أتردد ثانية واحدة في التوصية به والتصويت له. وفي المقابل، لا أتردد اليوم، ثانية واحدة، في إدانة مواقفه الأخيرة التي تعتبر ما جرى في تونس ومصر وليبيا واليمن، ما يجري في سورية، محض مخطط أمريكي. هذه، للأسف، ردّة كبرى تُلحق العار بتاريخه الطويل الحافل، كإنسان ومناضل ومنفيّ؛ وأغلب الظنّ، استطراداً، أنها سوف تتسبب في الهبوط بمخيّلته وأدواته الشعرية وبصيرته الجمالية، إلى حضيض لا يليق به.

زياد الرحباني، جوزيف صقر، سامي حواط، مارسيل خليفة وبقية الفنانين اللبنانيين، أظن أن أهم نتاج ثقافيّ وفنيّ قدّموه كان خلال الحرب الأهلية في لبنان.

هل يمكن اعتبار الأزمات الإنسانية، البؤس، الحزن، الموت، الثورات، الاعتقال، التعذيب مولداً للإبداع والفن، أكان ذلك شعرياً أم غنائياً أم مسرحياً أم سينمائياً؟ وإن كان ذلك فعلاً لماذا لم نجد حتى اليوم فناً ملتزماً ثورياً حقيقياً في الشارع السوري، عدا محاولات فردية قليلة؟

من المبكر انتظار ولادة، وبالتالي انتعاش واستقرار، ظواهر إبداعية متكاملة حول الانتفاضة السورية، وذلك رغم ظهور بعض الأعمال الشعرية والقصصية والتشكيلية والمسرحية والسينمائية، هنا وهناك، وهذا تطوّر لا محيد عنه في طبائع الأمور. لكنّ بلدنا أنتج على الدوام تنويعات شتي لما يمكن أن أسمّيه “ثقافة المعارضة”، التقدّمية أو اليسارية عموماً، الديمقراطية غالباً، التعددية إجمالاً، التي أنتجتها سلسلة من الفنون سعت إلى الاستقلال عن مؤسسات السلطة، وعن فنون السلطة استطراداً. وتلك ساهمت في تطوير وعي جمالي وسياسي يستحقّ، حقاً، صفة المقاومة: ضدّ الاستبداد في المقام الأول، ومن أجل الديمقراطية والحرّية والعدالة الاجتماعية في المقام التالي. من جانب آخر، أرى أنّ الانتفاضة أخذت تستولد ثقافة احتجاج جديدة تعيد السياسة إلى المجتمع، بعد أن تعمّد النظام وأدها طيلة أربعة عقود، وتستعيد وعياً كان مغيّباً حول ضرورات التغيير وطاقاته، وحول مضامين الفعل الثقافي وأشكاله وأنساقه، وتلك كلها تنتج بالضرورة فنون التزام ومقاومة من طراز مركب ربما، هو بعض عبقرية الانتفاضات الشعبية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى