صفحات مميزةميشيل كيلو

حوار ضد النظام!


ميشيل كيلو

يبدو لمن ينظر من بعيد وكأنه لا صوت يعلو على صوت الحوار في سوريا، فالكلمة تستخدم في جميع المناسبات وكأنها وصفة سحرية فيها شفاء البلاد والعباد من أمراض مزمنة وعلل مهلكة. ومن يستمع إلى إحدى محطات الإذاعة، التي تعهدت بأن تهتم بأي شأن سياسي ووقع أصحابها وثيقة مكتوبة التزموا فيها بذلك عندما منحوا رخصة تشغيلها، يجد أنها صارت تتحدث عن الحوار ليلا ونهارا فقط. أما من كان يجد حرجا في إيجاد عدد كاف من أغاني الحب لتقديمها إلى الشباب، لأنه ممنوع من الحديث عن أي مشكلة من مشكلاتهم تخرج عن نار الحب ولوعة الفراق، أخذ يحث الشباب على التظاهر من أجل الحوار، حتى إن محطات تلفاز متعددة بدأت تأخذ على المعارضة عدم جديتها في تناول مسائل الحوار، وتعيب عليها تبعثرها، الذي يقيد يدها خلال الحوار ويجعل مواقفها متباينة، علما أن هذه المحطات بالذات كانت تنكر إلى ما قبل أسابيع قليلة وجود أي نوع من المعارضة في سوريا، وتقدم صورة بلد تشكل سلطته وشعبه جسدا واحدا وإرادة واحدة، لا محل لأي كائن غيرهما في سوريا، مهما كان عدده قليلا ووجوده نادرا!

فجأة، صار الحوار موضوع الساعة، وصار له هيئة وأنصار ومروجون متحمسون، وصارت له خطة جعلته يمر بمرحلتين: واحدة تنتهي إلى «لقاء تشاوري» يحدد مواضيعه وآلياته، وأخرى إلى «مؤتمر وطني» يقرر نوع التغيير المطلوب لسوريا وحجمه وحدوده وقواه. ومع أن الحوار لم يكن في أي يوم فكرة السلطة أو مطلبها، فإن تهافت إعلامها عليه بالشكل الذي حدث، أراد الإيحاء بأنها هي الراغبة فيه والمصممة عليه، بينما يتهرب غيرها منه، أو يجد الحجج والذرائع كي ينأى بنفسه عنه. هذا الموقف الدعائي يتجاهل حقيقة يعرفها السوريون هي أن المعارضة طالبت بالحوار منذ عام 2000، دون أن تلقى أي استجابة، وقدمت رؤية تفصيلية له تقوم على تحديد مشترك لمواضيعه، وتوصيف متفق عليه لواقع سوريا، ينتهي إلى توافق عام وملزم حول سبل وآليات التصدي لمشكلاته الكثيرة والمعقدة، والقيام بعمل موحد لإنجاز المهام التي يتم التفاهم على تحقيقها، ضمن مهل زمنية محددة، على ألا ينظر الشركاء إلى أنفسهم بوصفهم معارضة موالاة، وإنما يرون في بعضهم البعض وطنيين سوريين يتعاونون لتخليص مجتمعهم ودولتهم من مآزق تسبب فيها النظام، يقر كل طرف منهم بشرعية الآخر، فتعترف السلطة بأحزاب المعارضة وتعترف هذه بشرعية السلطة، وتصدر قوانين ومراسيم تبيح الحريات العامة كحرية التعبير والاجتماع والتظاهر السلمي.. إلخ، على أن تحل قضية السلطة في حقبة زمنية انتقالية تمتد لفترة يتم التوافق عليها، كي تنزلق سوريا سلميا ودون صراعات داخلية إلى نظام جديد فيه خير ومصلحة جميع أبنائها وأحزابها ومكونات جماعتها الوطنية.

رأى المحاورون من أهل السلطة، الذين رفضوا طيلة عشرة أعوام ونيف أي حوار مع أي جهة داخلية، بحجة أن الشعب والنظام شيء واحد وأنه ليس هناك ما يستدعي الحوار، القفز من فوق هذه الخطة الواضحة، والعمل بأسلوب مفعم بالغموض، قسموه إلى مرحلتين، كما سبق القول: واحدة لتحديد المواضيع والآليات، والثانية لعقد مؤتمر وطني، بينما قصروا العمل في المرحلتين على عدد قليل من الأشخاص اختارهم النظام، استمعوا إلى آراء قطاعات متباينة من السوريين، بمن فيهم أهل المعارضة، قبل أن يقرروا مواضيع «اللقاء التشاوري»، مع أن أي موضوع منها لم يكن مقبولا منهم قبل فترة جد قصيرة، كما لم يكن من اختيارهم أو اقتراحهم، بل كانت جميعها من مطالب المعارضة الحزبية والثقافية، وتلك التي تحرك الشارع، والتي لم يستمع أحد من أعضاء الهيئة إليها أو يلتقي بممثليها أو يقر بشرعية وجودها. بعد شهر ونيف من تشكيل الهيئة، عقد «اللقاء التشاوري» بحضور قرابة مائتي شخص، اختارتهم جهات رسمية ولم ينتخبهم أو ينتدبهم أحد، بينما غابت جميع أطياف المعارضة، دون أن تغيب مطالبها ولغتها. وقد حدث خلال اللقاء صراع واضح وجلي في صفوف أهل النظام، انصب بالدرجة الأولى على الحوار ذاته، وبدرجة ثانية على مواضيعه، لأن الحوار نفسه كان محل اعتراض صاخب من جماعات أمنية وحزبية كثيرة، رأت أنها ستخسر امتيازاتها، إذا ما تم مثلا إلغاء المادة الثامنة من الدستور، التي تجعل «البعث» قائد الدولة والمجتمع، أو تم إصدار قانون إعلام عصري يقر بحرية الصحافة وحرية إصدار الصحف، وقانون انتخاب يقوم على حريته.

مثلما انقلب جميع المتحدثين قبل شهر إلى مؤيدين للحوار يزايدون على دعاته الأصليين، انقلب هؤلاء فجأة إلى مدافعين عن القيم والمبادئ التي تجعله حوارا شكليا، كلاميا وبرانيا وضارا ولا وطنيا، وأصدروا بيانات طويلة في هجائه وأنكروا أن يكون ما جرى في اللقاء حوارا، لأنهم غابوا عنه، مع أن من قاد الهيئة واللقاء كان نائب رئيس الجمهورية، الذي مثلهم وكان مفوضا بالحديث باسم الرئيس، كما أعلن الأخير لدى إعلانه عن تشكيل هيئة الحوار ومشاركته في جلستها الأولى.

بعد الهجوم الكلامي وقع الهجوم الفعلي، العنيف والدامي، الذي ركز على مدينة العيش المشترك «حمص»، وفتك بمواطنيها جميعهم أشد الفتك، ثم مر بوقف عمل اللجنة التي كانت تعمل على صياغة قانون الإعلام، وتلك التي عملت لقانون انتخاب حديث، ومنعت صحف لبنانية عرفت بقربها من النظام كـ«السفير» و«الأخبار» (القريبة من حزب الله)، لأنها كتبت مقالات نقدية ضد الحل الأمني ونتائجه الخطيرة على سوريا والعرب، بينما جرت ممارسات مناقضة تماما لتوصيات اللقاء، التي قالت بإطلاق سراح المعتقلين، وبالسماح بالتظاهر السلمي، وبحماية حرية القول والتعبير، فألقي القبض على معتقلين جدد يقال إن عددهم بالمئات، ووقع هجوم عام على مدن كانت بعيدة عن ويلات الحل الأمني، كالبوكمال ودمشق وبعض ضواحيها.. إلخ، وتعرض رئيس الهيئة نفسه لموجة من النقد الشديد، وانطلقت أصوات حذرت من «اجتثاث البعث» و«إلغاء الجيش العقائدي»، في حال تم إلغاء المادة الثامنة من الدستور أو تعديلها، الأمر الذي يعني، في نظر هؤلاء، القيام بانقلاب على الأمر القائم ظاهره إصلاحي وباطنه إسقاط النظام، الذي يطالب به الأعداء في الشارع.

تبخرت فجأة الحماسة للحوار، الذي انقلب إلى خطر قاتل وانقلاب لا بد من إحباطه بأي ثمن. وظهر أن العقل السياسي السائد ليس عقلا حواريا أو قابلا بالحوار، وتأكد ما كانت المعارضة تقوله دوما، وهو أنه ليس جادا في قبول التغيير ويعلق خطوته الإصلاحية على الحل الأمني، فإن حقق هذا النجاح المطلوب، كان التغيير شكليا وبرانيا. في هذه الأثناء، يكون النظام قد استخدم المعارضة لتغطية هذا الحل سياسيا، وحرق ورقتها عند الشعب. في الحالة الأخرى، يكون هناك ما يكفي من الوقت لإجراء حوار يحاول أهل الحكم خلاله إنقاذ ما يمكن إنقاذه منه.

كشرت قوى كثيرة عن أنيابها، واتخذت مواقف حادة ضد أهل الحوار من أبناء النظام ذاته، الذين صاروا بين ليلة وضحاها محل شك، واتهموا بأنهم يريدون الحوار لقلب السلطة وليس لإيجاد حلول لمشكلات الدولة والمجتمع. وظهرت الحقيقة، وهي أن عداء النظام القديم للحوار ما زال قائما، وأن من يرفضون الحوار يدافعون عن مصالحهم ولا يأبهون لأي مصلحة غيرها.. وطنية كانت أم حزبية أم شعبية.

واليوم، يقال إن قرابة ثمانمائة شخص سيحضرون مؤتمر الحوار الوطني، وإن هذا سيعقد بعد قرابة شهر، وإنه سيقول الكلمة الفصل في شؤون سوريا. يقال هذا بينما يتسع الحل الأمني ويزداد حدة وعنفا ويستهدف قطاعات أكبر من الشعب ويتعاظم عدد ضحاياه من الجانبين المدني والعسكري. فهل سيكون عائده، إن عقد حقا، أكبر من عائد «اللقاء التشاوري» بالنسبة إلى حقوق السوريين والإقرار بشرعية مطالبهم وبضرورة تحقيقها، علما بأن اللقاء قدم توصيات لا يعرف أحد مصيرها، مستمدة من مطالب المعارضة التي افترضوا أنها ستخلق بيئة حوار مناسبة تمكنهم من حضور اللقاء، لكنه يبدو أن رمال السياسة السورية المتحركة قد ابتلعتها كما تبتلع الصحراء نقطة ماء نزلت عليها في حر صيف ملتهب؟!

هذا هو السؤال الحقيقي، الذي لا يجيب عنه أحد، بينما يستمر الهجوم ويتصاعد على فكرة ومبدأ الحوار، وعلى المتحاورين من الحزب والسلطة والمعارضة، ويجتث من يتحدثون عن اجتثاث البعث أعدادا متزايدة من مواطني بلادهم، الذين لم يفكروا في اجتثاث أي شيء ولا يطالبون بغير الحرية، لهم ولغيرهم، رغم ما يعانونه من أذى وظلم وموت!

* كاتب سوري معارض

الشرق الأوسط

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى