صفحات الحوار

حوار غسان المفلح مع ياسين الحاج صالح..

عندما نقول ياسين الحاج صالح، نقول المثقف النقدي الذي اثرى التجربة السورية بتأريخها، يشتكي منه اصدقاءه قبل خصومه، لشدة نقديته الفكرية لفكرهم، قبل فكر خصومه أو من يعتبروا أنفسهم كذلك. لن أطيل كثيرا في مقدمتي لأن ياسين يخوض غمار تجربة فريدة اتركه يتحدث عنها بنفسه. السؤال الأول:

كيفك ياسين كيف تشعر الآن في هذه اللحظة داخل فضاءك، وأنت تهم بالاجابة عن أسئلتي؟

بالشوب. الجو حار جدا.

العيش في منطقة محاصرة تجربة قاسية، بخاصة حين لا تكون من المنطقة ولا تكون شابا. تشبه من بعض وجوهها تجربة السجن، وتذكّر به. يجمع التجربتين إبهام المصير، وعسر العيش، وكونهما معا بدايتان لا تعرف نهايتهما. الفرق المهم أن شركائي في الحصار كثر، ومنهم سميرة التي انضمت إلي بعد شهر ونصف من مجيئي إلى الغوطة، وصارت الحياة بوجودها ألطف وأقل عسرا.

السؤال الثاني:

(قبل نحو ثلاثة شهور قصدتُ منطقة الغوطة الشرقية «المحررة» تاركًا خلفي العاصمة دمشق التي بات العيش فيها خانقًا. لزم وقت بالأسابيع) هذا ما كتبته في رسالتك الأخيرة لمثقفي العالم وقادة الرأي العام من أجل الضغط على حكوماتهم لانقاذ الشعب السوري من هذا القتل اليومي، لماذا غادرت دمشق نحو الغوطة الشرقية؟

بقيت في البلد أصلا كي أكون قريبا من الأرض، أرض الحدث. في بضع الشهور السابقة لمغادرتي في أوائل نيسان الماضي لم يعد بقائي في العاصمة محققا للغرض. صرت كمن يعيش في فقاعة، أتحرك بحذر وفي دوائر ضيقة، وأكاد أكون خارج البلد، دون الحظوة بما يوفره العيش في الخارج من أمان شخصي. واليوم، يبدو لي أنه كان ينبغي أن أترك دمشق في وقت أبكر، قبل نهاية العام الماضي.

في الغوطة أو في أي مكان خارج سيطرة النظام لديك لكثير من التجارب والخبرات الجديدة، أشياء لم تكن تعرفها أو تتصورها، أوضاع مركبة، لا تقبل أي قول أو تقييم اختزالي، ولا تغني عن عيشها القراءة عنها، ولا تتوفر على كل حال غير مادة مقروءة ضئيلة عن هذه الأوضاع الجديدة. المشكلة التي تواجهها هنا هي الافتقار إلى مقولات أو مفاهيم مناسبة لتمثيل هذه التجارب الجديدة، المنفلتة من مرجعياتنا النظرية المتاحة بقدر انفلات عنف التحالف الأسدي من أية ضوابط وطنية أو إنسانية. وهي بذلك دعوة إلى بناء أدوات أكثر ملاءمة. في الشام كانت المشكلة التي واجهتني هي، بالأحرى، تناقص التجارب الجديدة. أنا ممن يقدرون التجربة الحية إلى أقصى حد، ولا أفهم كيف تكون المعرفة ممكنة، عند من لا يكفون عن الكلام على المعرفة بخاصة، دون انفتاح على المحسوس وانخراط في تجارب جديدة، ودون إقبال على التجريب في الحياة وفي التفكير والكتابة.

على كل حال ليس في نيتي الإقامة في مكان محدد. سأحاول التجوال بقدر المستطاع في أرجاء البلد الممزق.

السؤال الثالث:

لماذا الانقطاع عن الكتابة في الصحف والمجلات، الناس تسأل عن سبب هذا الانقطاع؟

قبل مغادرة دمشق كانت الكتابة تغدو أصعب أكثر وأكثر. صرت أغصب نفسي على كتابة بعض موادي. كنت طوال سنوات قبل الثورة أكتب نحو مادتين أو أكثر أسبوعيا، دون شعور بالضيق، بل وغالبا باستمتاع. صرت بعد نحو عام من الثورة أكتب بصعوبة متزايدة، وبإحاطة متناقصة بالأوضاع السورية متنامية التعقيد، وبرضا متناقص أيضا. مع تطاول زمن الثورة صار صعبا الحفاظ على إيقاع دوري مع تطاول أمد الثورة. هناك اختناق شخصي بفعل العيش متواريا، وهناك تضيق حقل التجربة المتزايد في دمشق، وهناك استنزاف نفسي وفكري متزايد بفعل الموت الكثير، وتمزق حياة ما لا يحصى من الناس. وبالتدريج صرت أشعر أن هول التجربة يتحدى الكتابة وأدواتها، ومعناها ذاته، فوق تحديه قدرتي عليها. على الكتابة أن تتجدد كي تستجيب لتحدي كل هذا الهول والدم. علي أنا أيضا أن أتجدد. ولا شيء يتجدد وأنت باق في مكانك. لا بد من انقطاع إن كان لأي تجدد أن يكون ممكنا.

ثم أن التطورات الجارية في مسار الثورة، الظواهر الدينية السياسية بخاصة، تطرح علي شخصيا تحديات صعبة، فكرية وحياتية، ويقتضي الأمر وقتا وجهدا لاستيعاب ما يجري والاستجابة المثمرة له.

السؤال الرابع:

اتهموك انك مقيم في السفارة الامريكية نتيجة لنكتة قلتها في احد مقابلاتك الصحفية، وكان هذا الاتهام دوما ياتي في سياق، الهجوم عليك من قبل أكثر من طرف، خاصة من أقلام ترفع راية العلمانوية والسلموية!! ويتهمونك أنك من انصار العسكرة، هل ياسين فعلا من انصار العسكرة، وكيف ينظر للأمر؟

قصة إقامتي في السفارة الأميركية قديمة، تعود إلى شهور قليلة بعد انطلاق الثورة، وهي من ابتكار أحد صحافيي جهاز أمن الدولة، قبل أن يتبناها آخرون من عياره. وليس الأمر معلومة خاطئة خدعوا بها، بل هو نضال واع جدا يقوم به مناضلون واعون، خلعوا البيجاما مبكرا، وارتدوا لباس الميدان السياسي والإيديولوجي. وفي العمق، يخيل لي أن القوم لا يغفرون تمرد كثير من السوريين على نظام السلالة الأسدية، وهم يخوضون معركة صاحب البيجاما الدموي نفسها، لكن بأدوات مغايرة، وضد أعداء النظام السياسيين. والسمة الجامعة لهؤلاء هي تعدد الوجوه انعدام الكرامة التام، فلا مشكلة لديهم إن تكشف أنهم يكذبون مرة أو مئة مرة.

أما بخصوص العسكرة فرأيي أن هذا نقاش متجاوز اليوم ولا معنى له بعد عامين وأربع شهور من الحرب الأسدية، وما يقارب عامين من ظهور وتصاعد المقاومة المسلحة، وسقوط فوق 100 الف شهيد؛ وهو من جهة ثانية يصدر أصلا عن افتراض خاطئ، أن العسكرة كانت خيارا حرا قرره فرد أو أفراد أو جهة منظمة، أو طرف سياسي ما. هذا غير صحيح. تعسكرت الثورة تدريجيا وببطء، وعلى نحو بؤري مشتت، والعامل الحاسم فيها هو حرب النظام التي يميل من تشير إليهم في السؤال إلى التقليل من شأنها، أو القول على نحو عارض أن “النظام يتحمل المسؤولية الأساسية”، قبل أن يفرغوا أنفسهم لتسفيه الثورة، وخاصة ما يقوله أمثالنا. وهم يعطونك الانطباع أن مقالة لي لها مثل أثر قتل المتظاهرين، أو مثل مذبحة الحولة، أو مثل جميل حسن والأمن الجوي، أو اغتصاب نساء وأطفال ورجال في الأجهزة الأمنية، أو القصف اليومي للمناطق الخارجة على سيطرة النظام، وأن رياض الترك مثلا (وهو من مكروهيهم الكبار، ولهم فيه سير شفهية تبلغ المجلدات طولا، وتكتظ بخرافات يروجها من يحرصون على إعطائك الانطباع بأن الخرافات لا تنطلي عليهم) مسؤول عن الأوضاع السورية الراهنة مثل بشار الأسد أو أكثر. هذا أكثر من خلل في المنظور، هذا ضغينة مختمرة طويلا في نفوس صغيرة، حين لا تكون انحيازا يخجل من نفسه إلى جانب النظام.

الآن، “مسؤولية النظام الأساسية”، وقد يقال جداليا إن النظام هو “المسؤول الأول أولا وثانيا… وعاشرا”، تعني أنه صاحب الخيار الحر “أولا وثانيا و…عاشرا”، وأن أية أطراف داخلية مخاصمة للنظام أقل حرية بما لا يقاس، أن الممكنات المتاحة لها في أي وقت محدودة قياسا إلى ممكنات النظام. وهذا، على كل حال، ليس شيئا نستنجه استنتاجا من مبدأ “المسؤولية الأساسية” للنظام فقط، وإنما هو مطابق للواقع المختبر كما عشناه قبل الثورة بعقود، وأثناءها حتى اليوم. هامش الحرية كان ضئيلا لدينا على الدوام. وتعلم أن من بقي منا داخل البلد، ومنهم الشرير رياض الترك والداعي وقلة من أمثالنا، يتحركون بصعوبة، وليسوا آمنين على حياتهم ذاتها، فكيف يحدث أن يكون من هم مفتقرون إلى أدنى حد من الحصانة هم المسؤلون عن تفلت المسارات السورية خلال ما يقترب من عامين ونصف؟ هذا كلام يقول أشياء عن أصحابه، ولا يقول أي شيء عنا وعن الواقع الفعلي. وهو لا يندرج ضمن منطق نزع القداسة أو نزع الأسطرةشخاص بعينهم، بل بالضبط في منطق التشرير والأبلسة، وهو منطق أسطرة مضادة، ومدخل إلى بعض أشد الأساطير تخريبا للثقافة والرابطة الوطنية معا.

أما افتراض أن موقفي وأشباهي المتفهم لظهور المكون العسكري للثورة والمساند للمقاومة المسلحة ضد نظام السلالة الأسدية هو الذي أدى إلى ظهور هذا المكون فهو قلب للواقع على رأسه، ومبالغة هائلة في قدرتنا. يمكن لأي مراقب أمين مثل تشومسكي أن يرى أن الثائرين السوريين ما كان لديهم في النهاية خيار غير مواجهة العنيف العام بالعنف. وبينما قد لا تعالج هذه الاستجابة أية مشكلات وطنية، فإنه لا وجه عادلا لرمي عبء معالجة المشكلات الوطنية وحلها على عاتق الأدنى حرية والأشد انكشافا ومعاناة من العدوان.

والغريب أن موقف من تشير إليهم في السؤال لا يتسق مع نفسه دون تهوين شديد من شأن أنفسهم ومن وزنهم (ولا أظنهم على خطأ في هذا)، ومبالغة كبيرة في شأن قوتنا نحن، بحيث لا يترك كلامهم الصحيح دوما أي أثر، فيما يبدو أن كلامنا الخاطئ يصنع وقائع مادية!

السؤال الخامس:

الرموز الاسلامية الحاضرة في قوى الثورة العسكرية، خاصة ان لك كتابات سابقة عن هذا الموضوع وعن جبهة النصرة، كيف عايش ياسين هذه الرموز في تجربته هذه رغم انك كتبت مثلا عن ابو نجم القدموسي وأبو أيهم الدرزي، لماذا لم تكتب مثلا عن أبو فلان السني تبعا لهذا السياق؟

ربما تعرف أن بورتريهي أبو نجم وأبو أيهم يندرجان ضمن سلسلة من خمسة بورتريهات، ينسب أصحابها كلهم إلى مناطقهم: الغزلاني (أبو خالد وأبو قصي) والميداني (أبو ياسين) والقدموسي (أبو نجم). أما أبو أيهم الدرزي فهذا هو اسم شهرته ضمن مجموعات الجيش الحر كما قال لي هو نفسه. في “حقل” الجيش الحر، إن صح التعبير، يجري تعريف المقاتلين باسم أبو فلان أو أبو علان (يمكن التكلم على موجة أبوات جديدة على أرضية إسلامية عموما)، وتمييزهم بالنسبة إلى بلداتهم. أكثر المقاتلين سنيون، لذلك ليس هناك طاقة تعريفية لتكنية واحدهم بالسني. ويبدو أن أبي أيهم ينسب إلى طائفته لما يحمله ذلك من طاقة تمييزية وتعريفية، بفعل قلة المقاتلين الدورز. بلدته غير معروفة في الوسط الذي يعمل فيه في الغوطة، ونسبته إليها لا تقول شيئا مهما عنه. لكن لو تصورنا أن أبي أيهم يقاتل في السويداء، ضمن وسط كثير من مقاتليه من الدروز، لكان محتملا جدا أن يُعرّف ببلدته. أما لماذا لم ينسب أبو نجم إلى طائفة، فلا أملك إجابة بالفعل. أخمن أن السبب يكمن في التشكيل العسكري الذي يعمل فيه أبو نجم، وربما لأن أبو نجم نفسه لا يختلف في المظهر والسلوك عن عموم المقاتلين حوله.

لكن أرجو أن تلاحظ أن الأمر يتعلق ببورتريهات، صور شخصية لا تقبل أن تكون عينات على شيء أعم منها. أبو خالد وأبو ياسين وأبو قصي سنيون، لكنهم ليسوا بحال عينات تمثيلية عن السنيين السوريين المنخرطين في الثورة. وليس أبو نجم عينة تمثيلية على الاسماعيلي الثائر، ولا أبو أيهم على الدرزي الثائر. إنهم أفراد، ولا يصح اختزال فردياتهم إلى خانات جمعية تحتكر تقرير خياراتهم، سواء أحالت الخانات إلى أصول قديمة، أو إلى التشكيلات العسكرية التي يعلمون ضمنها حاليا.

بخصوص الرموز عموما، والرموز الإسلامية، دعنا ننظر في اللوحة السورية العامة. لدينا أربعة وجوه لسورية أو أربع سوريات. “سورية الأسد”، ورمزها صورة حافظ ثم بشار الأسد؛ “الجمهورية العربية السورية”، ورمزها هو العلم الرسمي؛ وسورية الثائرة، ورمزها هو “علم الاستقلال”، وأخيرا سورية السلفية، ورمزها هو الراية السوداء، وعليها “الشهادة”. يمكن أن نتكلم على الأناشيد أيضا، فيكون رمز سورية الأسد هو الأغاني التافهة التي تمجد حافظ ثم وريثه (من مصطفى نصري ورفيق سبيعي إلى جورج وسوف وعلي الديك)، ورمز “الجمهورية العربية السورية” هو نشيد حماة الديار وأغان وأناشيد كثيرة تتكلم على الأرض والوطن والعروبة؛ وترمز لسورية الثائرة أغان وأناشيد متنوعة من أبرزها: يالله أرحل يا بشار، المنسوبة للقاشوش، وأغان لسميح شقير ووصفي معصراني وغيرهما؛ وأخيرا هناك أناشيد جهادية متقشفة موسيقيا إلى أقصى حد، ترمز لسورية السلفية، وتغنيها جوقات رجالية، أو صوت رجالي واحد. وغير قليل منها تحوير لأغان “وطنية” سابقة، منها مثلا نشيد: نحن جندك يا أسامة [بن لادن، طبعا]، ولحنها مُحوّر عن النشيد البعثي: يا شباب العرب هيا!

لدينا حقل مستقطب بشدة، تشغل هذه السوريات الأربعة مواقع متغيرة فيه، لكن مساحات هذه المواقع وتفاعلات عناصرها لا تفهم إلا ضمن الحقل وتبادليا (بيير بورديو). فلا نستطيع أن نتكلم على تحولات أحد أنساق الرموز إلا بالارتباط مع تحولات الأنساق الأخرى، ولا يسعك قول شيء مفيد عن رموز سورية الثائرة دون الإحالة إلى رموز سورية الأسد، ولا عن الرموز السلفية دون الكلام على رموز الثورة والرموز الأسدية.

وفي تصوي أن المزيد من سورية الأسد يعني المزيد من سورية السلفية، على المستوى الرمزي وليس فقط على المستوى السياسي والإيديولوجي. لا تستطيع أن تعترض على تحولات تابعة ضمن الحقل السياسي الإيديولوجي الرمزي الذي تشكل بعد الثورة بينما تسكت على تكوين الحقل نفسه، وعلى الجهة الأكثر تأثيرا ضمنه حتى اليوم: “سورية الأسد”. وأظننا سنبقي في وضع سيء في مواجهة سورية السلفية (المتعددة الوجوه، بالمناسبة) طالما لم نكسب المواجهة مع “سورية الأسد”.

السؤال السادس:

كيف ترى الثورة الآن في هذه اللحظة، خاصة بعد رسالتك لمثقفي العالم وقادة رأيه، وانت المعروف عنك أنك كنت دوما ضد التدخل العسكري؟ هذا السؤال ليس مني، بل استخلصته نتيجة لردود الافعال على رسالتك.

هل كان بين “ردود الافعال” ما استخلص من الرسالة دعوتي لتدخل عسكري؟ لم اطلع على شيء كهذا.

يبدو لي وضعنا اليوم كالتالي: النظام في حال هجوم عسكريا، ويستند إلى حلف إقليمي دولي صريح، يتكون من إيران وحزب الله وجماعات شيعية عراقية وغيرها، وبدعم روسي متشدد. والثورة التي تشكل المقاومة المسلحة مكونها الأبرز اليوم في حالة دفاع، وتعاني من تسلح ضعيف، ومن تدن في مستوى التنسيق والتعاون بين المجموعات المقاتلة التي لا تعود كثرتها إلى أي سبب وجيه عسكريا أو وطنيا، وهي مهددة بالانكفاء عن “المناطق المحررة” وخسارة بعضها، ومن إنهاك للقاعدة الشعبية. وفي الوقت نفسه هناك جموعات جهادية متشددة أو أكثر تشددا، غامضة التكوين والروابط، وبعضها تخوض صراعا مسلحا ضد “الجيش الحر”، وليس الثورة بالنسبة لها غير مناسبة للجهاد، أي لذك المزيج السحري من الدين والعنف.

خاطبت مثقفين وقادة رأي في الغرب لنقل صورة عن الحال الإنسانية وطلبا للتضامن والمساندة. والمساندة يمكن أن تتمثل في ضغوط سياسية جدية بغرض تنحي بشار وطغمته، أو حصار عسكري على النظام، أو دعم عسكري جاد للثورة. لا حاجة لتدخل عسكر أجنبي، وهو ليس مطروحا اليوم ولم يكن مطروحا يوما، وحياة هذا النقاش تشبه حياة النقاش حول العسكرة، وهو متصل بالحاجات الاعتقادية والهويتية للمتسلّين به، وليس بأي شيء واقعي. بل هو أشد سوءا من ذلك، من حيث أنه موجه ضد احتمالات معدومة من التدخل الخارجي ضد النظام، بينما هو يتعامى على تدخل خارجي فعلي محقق، إيراني وحزباللهي وعراقي لمصلحة النظام، أو تجده يغص بالكلمات وهو يتلفظ بالقليل منها عن هذا التدخل الأخير.

لست أعول على أثر مباشر للرسالة. كتبتها لأني كاتب، هذا ما أقوم به، وهذه وسيلتي لمحاولة مساعدة الناس هنا.

السؤال السابع:

هل استطاع ياسين التقاط بعضا من هموم المقاتلين وروحيتهم، وهم يقدمون ارواحهم في هذه الثورة؟

غير  تشابهها مع هموم عموم السكان هنا، هناك شكوى مستمرة من نقص الذخيرة. القتال صعب وأنت تحسب عدد الرصاصات التي أطلقتها، أو تطلق دراكا في معركة تتعرض حياتك فيه للخطر إن لم تطلق رشا. وما هو أكثر إيلاما نقص الطعام أيضا، واكتفاء كثير من المقاتلين بوجبتين غير مشبعتين. وكل من التقيتهم يتلقون رواتب منخفضة (بين 3000 و5000 ليرة شهريا) وغير منتظمة، بينما ينال إداريون و”الهيئات الشرعية” وشرطتها رواتب أعلى ومنتظمة. وهناك دوما ضعف ثقة بالمستوى السياسي. سمعة الائتلاف في الحضيض، ولم أسمع كلمة إيجابية بحق أحد من أعضائه، وإن لم يكن الكلام على جميعهم تحقيريا بالقدر نفسه.

وهناك أيضا تعدد مفرط في المجموعات المقاتلة لا أظن أن هناك ما يشبهه في أية ثورة أو حرب وطنية سابقة، بعضه يعود لأسباب إيديولوجية وعقدية، وبعضه إلى نوعية الجهات الداعمة المختلفة والمتنازعة ودورها المفسد الكبير، وبعضها إلى الطموحات الشخصية وحس السلطة المتولد عن حمل السلاح، لكن غير قليل منه يعكس نزعة التجزؤ المحلي وضيق الأفق المحلي وقوة التمايزات الجهوية.

نقطة القوة المهمة هي الصفة المحلية لأكثر المقاتلين هنا، ودفاعهم عن أشياء ملموسة جدا، أهلهم وبلداتهم وأحيائهم، والعداء العميق للنظام الأسدي الذي لدى الجميع هنا خبرات شخصية في شأن وحشيته قبل خروج المنطقة من سيطرته في الشهر 11 من عام 2012.

السؤال الثامن:

يوما في حياة ياسين هناك..منذ لحظة الاستيقاظ وحتى لحظة النوم؟

لا شيء مهما أو خاصا. غير أنك تنخضّ كل حين بسبب أصوات القصف القريب، لكن اعتدنا أن نبقى في أمكنتنا ولا نغير شيئا من وضعنا. وغير أن أصوات القصف الأبعد تذكرك بالموت الزاحف حولك وتسمم روحك. وغير أننا لم نكن نحصل على خبز غالبا منذ مطلع الصيف، ونتدبر أمرنا بالمعكرونة والمعجنات والبرغل…، وهي قد تنفد أيضا. وغير حياة بلا هواتف نقالة أو أرضية، ولا كهرباء نظامية، أي أيضا بلا مراوح ولا برادات. وغير أننا نشتري ماء الشرب، ونقتصد في الماء الجاري، ونستخدمه مرتين، أول مرة لغسل أيدينا أو وجوهنا أو ثيابنا… ونحتفظ بالغِسَالة كي نستخدمها ثانية في المرحاض. وغير الجوار الكثيف مع الموت، أو العيش تحت الموت فعلا، وما لا يحصى من ملصقات الشهداء في الشوارع.

وكل هذه أوضاع عامة، لا أشغل وعددا من الأصدقاء أسوأ المواقع فيها. بل نكاد نكون أصحاب امتيازات من بعض الوجوه: لم أشك من ضيق ذات اليد خلال هذه الشهور معتمدا على مدخراتي، وفي الشهر الأخير قبل مغادرتي الغوطة كان الاتصال بالنت ميسرا. هذا فوق أن هناك في البلد وخارجه من يهتم بأمرنا ويشغل باله أماننا، وهذا خلافا لحال نحو مليون من البشر هنا.

السؤال التاسع:

الثورة الآن كيف يراها ياسين من زاويته هناك؟ السؤال كبير لكن نتعشم بعضا من خطوط عريضة.

العنوان العريض في تصوري هو أننا تحولنا من الثورة السورية إلى المسألة السورية.

ربما مع نهاية العام الأول من الثورة، تحولت الثورة من فعل متعدٍ يستهدف بناء سورية جديدة متحررة إلى فعل مقاومة حيوي ضد قاتل عام. وهي ربما من مطلع هذا العام صراع إقليمي/ طائفي، رهانه تثبيت حكم السلالة الأسدية لسورية أو قلب هذا الحكم. النظام وسادته الإيرانيون وتابعهم اللبناني يقولون ذلك بصراحة. والملمح لجوهري لصراعنا أنه لم تفتح في أية لحظة مخارج سياسية له، ولم يعرض النظام في أي وقت استعدادا للتنازل عن 5% من السلطة، وهذا بفعل طبيعة النظام الأسدي كدولة سلالية وراثية.

ولا يجد السوريون أحدا معهم بجد. القوى الغربية ليست لديها أسباب قوية لمساعدة السوريين في صراع يدفع ثمنه السوريون وحدهم، فوق نفورها من الجهاديين الإسلاميين المتزايدين، والدول العربية الداعمة تحكمها سلالات مثل السلالة الأسدية، أقل وحشية، لكن فاسدة وتابعة مثلها.

وفي المحصلة لدينا اليوم مسألة سورية يتشابك فيها العنف المنفلت مع الصراع الطائفي ومع تدخلات إقليمية ودولية متنوعة، مسألة مرشحة للاستمرار طويلا وتكسير الأرقام القياسية في الوحشية والدوام. كنت تكلمت على المسألة السورية المحتملة في وقت مبكر من الثورة (أيار 2011)، ويبدو أن سير الأمور موافق لهذا التوجس. تعلم أننا منذ الآن أصحاب الرقم القياسي الإقليمي في عدد النازحين واللاجئين. وأظننا أصحاب الرقم القياسي في عدد المعتقلين الحاليين، وفي مجموع من اعتقلوا، وفي وحشية ما يتعرضون له من تعذيب، ونبة من يقتلون أثناءه.

وباختصار، المسألة السورية مزيج من العنف والتدويل والإزمان والتعقيد.

السؤال الأخير:

بين ياسين المثقف وبين ياسين المتواجد في صفوف الجيش الحر لاسباب يجهلها الكثيرون من متابعينك ويريدون معرفتها؟

لست متواجدا في “صفوف الجيش الحر”، ولست من “الجيش الحر”. جئت إلى هنا ككاتب، وأبقى هنا كاتبا. أريد أن أرى وألاحظ وأتعلم وأفهم، وأشارك، لا أن أقاتل.

أرى مقاتلين كثيرين هنا وأسمع منهم وأكلمهم، وكتبت عن بعضهم أشياء، وتجمعني ببعضهم علاقة ودية. لكن هم مقاتلون لا يكتبون، وأنا كاتب لا يقاتل.

أجرى الحوار غسان المفلح

كلنا شركاء

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى