صفحات الحوار

حوار غير منشور مع شاعر “جيل البيت” آلان غينسبرغ


تأثير كرواك عليّ جعلني أقرر أن أكون كاتباً

                                            التقديم والترجمة: كوليت مرشليان

در كتاب “كرواك وجيل البيت” للباحث جان فرنسوا دوفال، يتناول فيه “المتسكّع بفم ملاك”. ولم يكن ممكناً أن يتحدث عن كرواك بأقل من هذا حين كان هذا الأخير يعيش جنون مرحلة “جيل البيت” وتحديداً في العام 1957 حين أصدر أجمل مؤلفاته وهي رواية “على الطريق”. وقد جاءت هذه الرواية بنجاحاتها لتجعله ينسى كل الانتظار واليأس اللذين رافقا مؤلفاته السابقة التي بقيت مخطوطات غير منشورة في محفوظات “المواد غير المرغوب بها” في دور النشر. غير أن “على الطريق” جاءت لتتوّج صاحبها وبشكل نهائي “عميد جيل البيت”… يقول جان فرنسوا دوفال في مقدمة كتابه، و”ذلك لأنه جسّد كل أحلام الجيل الذي ولد قبيل أو خلال الحرب العالمية الثانية مع كل طموحاته”.

وقد أصدر دوفال سابقاً “باك والبيتس” بحث حول جيل البيت” عن دار ميشالون عام 1998، ومنذ حينه وهو يتابع أبحاثه على الساحة الأميركية حيث عاش أبطال “البيت جينيريشن” وفي مقدمتهم صاحب الكاريزما نيل كاسيدي وهو أيضاً بطل “على الطريق” وأيضاً الصديق الدائم لآلان غينسبرغ وكارولين كاسيدي وجويس جونسون وتيموتي ليري وآن والدمان… وكانت النتيجة مجموعة شهادات غير منشورة سابقاً أو غير معروفة إعلامياً تجعل هذه المرحلة تعود الى الحياة ولو للحظات. وهو في مؤلفه هذا يشرح أيضاً كيف أن الثقافة الأميركية المضادة أو “الوجه الآخر للثقافة” طبعت كل كتابات وفنون النصف الثاني من القرن العشرين وصولاً الى يومنا هذا، في كل التيارات الفكرية والفنية وفي كل التصورات الثقافية. نقتطف من الكتاب بعض الفصول وننقلها الى العربية:

وجبة الفطور عند آلان غيسنبرغ:

كان الموعد في منزله الكائن في شارع “لوير إيست سايد” النيويوركي الذي كان قد أخذ مكان الشارع “غرين ويش فيليدج” ليمثل حقبة التسكّع والحياة السفلية.

كان صغير القامة وظهره قد انحنى قليلاً بسبب سنّه، أصلع الرأس غير أنه حافظ على لحيته الكثيفة. يضع نظارتين سميكتين وتبدو عيناه من ورائهما مؤثرتين، أما صوته فكان مخفضاً وعميقاً ومدوياً بحيث يتعارض مع شكله الهش والخفيف. وحده صوته كان حاضراً بقوة ليعيد صورة ذاك المراهق والشاب الذي يضع دوماً يديه في جيبيّ سرواله، تماماً مثل الصورة التي اشتهرت له برفقة أصدقائه في حرم “جامعة كولومبيا” قديماً: أربعة شبّان في مقتبل العمر وفجر الحياة، ذات يوم من العام 1945. وليم بوروز وعلى رأسه قبّعة سوداء، هال تشاس الذي عرّفهما بعد حين على نيل كاسيدي، جاك كرواك ويغمر بذراعه هال تشاس، وآلان غينسبرغ وعلى وجهه ملامح الغبطة والسعادة العارمة فيبدو مغمض العينين وكأن جفنيه أطبقا على مشهد داخلي رائع.

في المطبخ، بدا البرّاد وكأنه يحتمل كل المساحة. والغرفة المضاءة كان يصلها النور من نافذة مطلّة على الباحة الخارجية والأبنية المجاورة، تلك النافذة التي كان غينسبرغ يصوّرها باستمرار، حسب تبدّل الضوء والفصول وسطوع الشمس في الصيف، والثلج في الشتاء والجليد فوق شجرة عارية، وفي كل مرة من زاوية مختلفة.

ومن الجهة الداخلية من النافذة وضع عدداً من “نيويورك تايمز”. وعلى طاولة المطبخ تطالعك مجموعات من الصور الفوتوغرافية، فراح يدعوني الى رؤية صور لصديقه المصوّر روبرت فرانك وكان يسكن على بعد خطوتين من منزله وكان يعرض في حينه في “ناسيونال غاليري” في واشنطن. وفي الغرف المجاورة، ترى سريراً غير مرتّب هنا، أو أريكة على الأرض هناك، وفي المكان هناك يجلس كل يوم للتأمل. بعض الأغراض الاعتيادية، تمثال بوذا، آلة هارمونيك يعزف عليها باستمرار… وعدد من المكتبات وكلها فيها العديد من كتب الشعر. وبدأ غينسبرغ يطلعني على محتوى مكتباته: كتب أصدقائه الشعراء والأجنحة المعبأة بمؤلفات خاصة بالفنون التشكيلية وفن التصوير الفوتوغرافي. وساعة لقائنا تلك كان ديوانه الأخير: “تحيات كوزموبولتيانيّة: قصائد 1986 1992” قد صدر في المكتبات، وكان يصادف أيضاً ذلك الحين ذكرى خمسين عاماً على انطلاق “جيل البيت” أو تحديداً ذكرى لقاء غينسبرغ بكرواك وبوروز والآخرين. وهذا الحدث سوف يتمّ الاحتفال به عبر المعرض الذي افتتح بعد عام في “متحف ويتني” وكان عنوانه “ثقافة البيت وأميركا الجديدة: 1950 1965” (وصدر معه كتيّب رائع!) وقد ساهم غينسبرغ في إنجاح هذا الكتيّب. وكنت أشعر بأنه بأفضل حال وحيوية مع أنه كان يعاني من بعض المشاكل الصحية (كان مصاباً بداء السكري) كما أن صديقه منذ أربعين عاماً بيتر أورلوفسكي كان مريضاً للغاية. وقبل أن أدخل معه في طرح قضية البيت في العمق مع كارولين كاسيدي أراد أن نلقي نظرة سريعة على واقع الحال وعلى أثر “جيل البيت” على النصف الثاني من القرن العشرين (ولا زال حتى اليوم).

الحوار

[ آلان غينسبرغ، نظرة اليوم الى “جيل البيت” نظرة عميقة. وكتاب “على الطريق” صار اليوم وللأجيال القادمة من كلاسيكيات الأدب الأميركي. وحالياً يتم نقل كل مؤلفات غينسبرغ الى الفرنسية والإيطالية والألمانية وغيرها… وأنت شخصياً أصدرت ديوانك الجديد “تحيات كوزموبوليتانية” بالتزامن مع الذكرى الخمسين لانطلاق “جيل البيت” وللقائك مع بوروز وكرواك. كيف حصل هذا اللقاء؟

ـ في السادسة عشرة أو ربما في السابعة عشرة كنتُ أتابع دراستي في “جامعة كولومبيا” في نيويورك. وفي خريف 1943 وخلال سنتي الدراسية الأولى، التقيت لوسيان كار وكان صديق وليم بوروز وهما كانا قد أتيا من سان لويس وكانا يعرفان أيضاً كرواك ويحدثانني دائماً عنه قائلين: إنه كاتب، وهو أيضاً “بحّار رومنطيقي يكتب القصائد”. أردت أن أزوره لأتعرف إليه وهذا ما حصل في ربيع 1944.

البحر هو أخي

[ كان كرواك في تلك المرحلة قد بدأ الكتابة؟

ـ آه، أجل. كان كرواك يكبرني بأربعة أعوام، وإلى جانب بعض الكتابات الشابة، كان قد أنهى نصاً طويلاً عنوانه “البحر هو أخي”، وهذه برأيي تحفة أدبية لم تنشر (لكنها نشرت اليوم تحت عنوان: رواية كرواك الأخيرة: “البحر هو أخي”). ومع أنني كنتُ إبناً لوالد مدرّس وشاعر وكان يدعى لويس غينسبرغ شعرت بأن كرواك هو الكاتب الشاعر الأول الذي ألتقي به شخصياً في حياتي، وكان من النوع الذي يستند الى موهبة مقدّسة ظاهرة. وهذا ترك أثراً كبيراً في داخلي. وهذا الأثر هو الذي حرّكني لأقرر بأنني أنا أيضاً أريد أن أكون كاتباً قبل أي شيء آخر في حياتي…

وكنت التقيت قبل أشهر قليلة بوليم بوروز خلال فترة فرصة الميلاد. وكان يكبرني بسنوات عديدة، يبلغ 29 عاماً. وكان لوسيان كار قد اصطحبني لدى أحد أصدقائه في “غرينويتش فيلدج”. وكانت المرة الأولى التي وطأت فيها قدماي ذلك الشارع المحسوب على أنه شارع البوهيمية في نيويورك، والذي يبعد نحو مئة مبنى عن كولومبيا، في الشارع رقم 13 من حيث أتيت إليه. كان بوروز هناك وأذكر أنني وصلت على صوت مشاجرة بين فتاتين وكانت واحدة منهما قد عضّت الثانية في أذنها وسال الدم… وجاء تعليق من بوروز بالإنكليزية ما معناه “هذا موضوع مهين لسيفي” وكانت الجملة مأخوذة من أعمال شكسبير! وكانت المرة الأولى التي أسمع فيها جملة شكسبيرية بهذه النبرة الرائعة. وبسرعة أصبحنا صديقين.

[ ألم تكن تلك “صحبة سيئة السمعة” كما كان يُقال؟… خصوصاً أن والدك كان ينتظر منك أن تكتب قصيدة كلاسيكية في حين انطلقت أنتَ في اتجاه مغاير؟

ـ بدأت بكتابات مغايرة بعد قرابة العام على لقائي بوروز وكرواك والآخرين. ولحظة بدأنا جميعنا تعاطي الماريجوانا، بدأ أبي يشعر بالاضطراب…

الذكرى الأولى

[ ما هي الذكرى الأولى لكَ مع كرواك؟

ـ في اليوم الأول للقائي به ذكرت له بأنني أرغب في أن أصبح محامياً متخصصاً في قانون العمل لأنني أدرس الحقوق. فقال لي: ولكنك لم تعمل يوماً من حياتك في مؤسسة أو معمل ولا تعرف شيئاً عن حياة العمّال. من أدخل هذه الفكرة في رأسك بأنك ستعمل بشكل مثالي لتنقذهم من البؤس… هؤلاء العمّال؟ وفهمت في لحظة بأنني لا افعل سوى ترديد الأفكار السياسية الجاهرة لعائلتي. لم أكن امتلك أي فكرة خاصة بي. شعرت بالانزعاج. لكن هذه الملاحظة ساعدتني ورحت استمع أكثر الى كل من هم من حولي فخرجت من الصدفة التي كانت أتقوقع داخلها واستيقظت من سباتي الدوغمائي.

[ كان ذلك إحساسك الأول بكرواك؟

ـ كلا، لم يكن ذلك إحساسي الأول بشاعريته! أنتَ سألتني سؤالاً مختلفاً: ما كانت الذكرى الأولى للقائي بكرواك؟ كن أكثر دقة: وأنا أجبت عن هذا السؤال بعفوية تامة وأخبرتك بصراحة الذي حضر في ذاكرتي. “الفكرة الأولى، الفكرة الأفضل!”…

جميل

[ إذاً الآن أسألك: ما كان إحساسك الأول بكرواك؟

ـ أنه كان جميلاً للغاية، وأنه كان رجلاً بكل معنى الكلمة. أنا لم أكن أتجاوز 16 عاماً… وكرواك كان عائداً من سفر بحري قام به في إطار التجارة البحرية. كانت الحرب في أوجّها وأخبرنا بأنه رأى سفناً حربية مدمرة من حوله في البحر. فكتب ذاك النص “البحر هو أخي” الذي حدثتك عنه وكان فيه الكثير من الكآبة. وكان يومها يعيش في شقة صديقته إيدي باركر التي تعرّف إليها في العام 1940 أي قبل أن يبحر للمرة الأولى. لوسيان كار أعطاني عنوانه. وصلت وبعد أن فتح لي الباب دخلت وكأنني غريب عنه. كان يرتدي قميصاً فضفاضاً مريحاً ويتناول فطوره… بعد ذلك، خرجنا قليلاً وتمشينا في المدينة. كان يشعر فعلاً بفضولية كبيرة ليعرف مني لماذا قد يرغب أحدهم بلقائه كما فعلت فأجبنه بأنني أكتب الشعر. إهتم لأمري بكل لطف وبكل حنان. شعرت في لحظة بأنه أحبني ثم وجدنا قاسماً مشتركاً وهو أننا قرأنا كل كتب دوستويفسكي. ورحنا نتحادث حول ذلك وقلت له أنني أرى شخصية الأمير ميشكين مثالية وهي شخصية رئيسية في رواية “الأبله” وكان جاك ملمّاً في أدق تفاصيلها، ثم اتفقنا على أن دوستويفسكي قد رسم من خلال تلك الشخصية أجمل الشخصيات الروائية التي يمكن أن يتخيّلها إنسان.

كاسيدي

[ كنت تعرف جاك كرواك ووليم بوروز وغيرهما حين التقيت في شتاء 1946 1947 نيل كاسيدي الذي سيصبح البطل في روايتك الأولى “على الطريق” فأصبح اسمه “دين موريارتي”.

ـ أجل وكنت سمعت بعض الكلام عنه من قبل صديق مشترك من دنفر وهو هال شاس وكان يدرس معي في “جامعة كولومبيا”. وكان هال قد أخبره الكثير عن “فرقتنا” وكان يتشوّق للقائنا. كان قد ترك دنفر في نهاية العام 1946 ووصل الى نيويورك مع زوجته الشابة لو آن وكانت في السادسة عشرة. وكان اللقاء الأول فقط لتبادل التحية “هالّو”، أما اللقاء الثاني فكان في كانون الثاني من العام 1947 عند فيكي صديقة جاك… وما جرى بعد ذلك، كتبته في روايتي الأولى “على الطريق”، أجل هكذا مشينا على الطريق معاً وكان كرواك يمشي وراءنا… كل الملاهي كانت مقفلة ليلاً ولم نكن نعرف أين نذهب… كما في الرواية.

.. وكتاب “على الطريق” لكرواك يقتحم مهرجان كان

تزامناً مع صدور كتاب “كرواك وجيل البيت” وبعد 55 سنة على صدور رواية “على الطريق” “لعميد جيل البيت” جاك كرواك عُرضت هذه الرواية سينمائياً في فيلم حمل عنوان “على الطريق” ويشارك في عروض “مهرجان كان” الحالي. وقد قدّم العرض الأول على الريفييرا الفرنسية أي بعيداً عن الطرق الأميركية التي أوحت الكثير للكاتب والتي اخترقها بطلا الفيلم والرواية: سال بارادايس ودين موريارتي. وحافظ مخرج فيلم البرازيلي والتر ساليس على روح الرواية ومناخاتها التي تعتبر رمزاً من رموز “جيل البيت” بلقطاته الباذخة في تصوير أميركا في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الثانية.

ونقل المخرج ساليس هذه الأجواء المعروفة للرواية الى مشهديات مؤثرة حيث يطوف أبطاله في أنحاء الولايات المتحدة الأميركية وفي جعبتهم أفكار وأحلام وواقع الكحول والمخدرات والنساء والحب والعلاقات…

وليست المرة الأولى التي يعالج فيها ساليس موضوعاً مشابهاً في إطار تسكّع أبطاله، فهو أنجز فيلمه “يوميات دراجة نارية” الذي يروي رحلة الثائر تشي غيفارا عبر أميركا اللاتينية، كما له أكثر من عمل يتوه فيها أبطاله عبر الطرقات وهو يقول في هذا الصدد: “كلّما ابتعدت عن جذورك زادت إمكانية معرفتك لنفسك ويمكن أن تجيب عن أسئلة من نوع: من تكون؟ من أين أتيت؟ وفي نهاية المطاف: ماذا تريد أن تكون؟”.

كما تحدث ساليس عن أثر مؤلفات جاك كرواك في نفسه منذ نشأته في البرازيل حيث سحره بدعوته “الى التمرّد في الثقافة والحياة”.

ويجسّد كرواك شخصيته في دور سال بارادايس في ما يشبه السيرة الذاتية عن سنوات تجواله في الأربعينات والخمسينات ويشارك في بطولة الفيلم سام رايلي وغاريت هدلوند وكريستين ستيوارت وكريستين دنست وفيغو مورتنسون. ويقوم مورتنسون بدور أولد بول لي الذي يمثل في الرواية شخصية الكاتب وليم بوروز.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى