صفحات الحوار

حوار مع خلدون النبواني

 

 

1-     هل من افق اليوم للثورة، بوصفها فعل تغييري، بعداشتداد الصراع بين الهويات الدينية؟

أظن أن عليّ أولاً وقبل الإجابة على سؤالك تحديد ما نعنيه بالثورة إذنتيجة التطورات الدرامية وكثرة الأيدي القذرة التي سرقت ما سأسميه “الثورةالسوريّة الأولى” محرّفةً أياها إلى صراع دينيّ، إثنيّ، هُوياتيّ، إقليميّ،دوليّ، بل ووجوديّ انطولوجيّ، صار لفظ “الثورة يعني أشياء كثيرة، غير منسجمةدائماً، بل متناقضة ومتحاربة فيما بينها حد الإقصاء والإلغاء والقتل. سؤاليّ إذن:ما هي الثورة السوريّة اليوم؟ هل هي ثورة الستة أشهر الأولى على الأقل من عمرالثورة حيث كان الحراك لا يزال سلميّاً وأهداف الثورة تجمع كل السوريين الذينكانوا لا يزالون يملكون شيئاً من سُلطة القرار السوريّ للثورة؟ هل هي الثورة التياضطُّرت للتّسلُّح بعد ذلك نتيجة قمع النظام ودفعه الثوار السلميين إلى حمل السلاحفتكوّن الجيش الحر وكانت أهدافه مُحدّدة إلى حدِّ ما؟ هل هي ثورة “مؤسساتالمُعارضة” السياسيّة السوريّة التي فقدت كل سلطة وقرار ذاتيّ؟ أم هيسلطة التشكيلات الدينيّة الإسلاميّة المُسلّحة والمُتطرِّفة التي احتلت واجهةالصراع اليوم واستأثرت باسم الثورة بينما راحت تُحارب بعضها البعض؟ كل هذهالتوجاهات الكثيرة: المدنيّة، والعلمانية، والديمقراطيّة، والعسكريّة، والأوتوقراطيّة،والمُعتدلة، والمُتطرِّفة، والوطنيّة، والعميلة تتحدّث جميعها باسم الثورةالسوريّة. من هنا حاجتنا المُلحّة إلى تحديد ما نعنيه بعبارة “الثورةالسوريّة”. مع التأكيد أن هذا السعي لتحديد المُصطلح ليس بطرًاً فلسفياًوإنما حاجة عمليّة ومُلحّة حتى لا نزيد من تعقيد الوضع أكثر مما هو عليه تعقيداً.

مع ذلك، ورغم تنافر وتعارض أهداف هذه التيارات غير المتجانسة حدالإلغاء إلا أنها جميعاً تيارات ثائرة ضد خصمٍ ما أو خصوم عدّة : النظام الأسديوالاحتلال الإيرانيّ غالباً، لكن ضد بعضها البعض أحياناً كثيرة أُخرى. من هنا يمكنلنا القول أنها تقوم جميعها بثورة، وبمعنى أدق بثورات رغم أننا قد نختلف على توصيفها:ثورات تقدّمية أو رجعية أو إسلاميّة معتدلة أو متطرّفة أو مدنية، الخ. وهي ينضالهاأو بحروبها لتحقيق أهدافها تقوم بعملية تغيير للواقع السوريّ، بغض النظر عن اختلافكل طرف على نوع التغيير المطلوب والدفاع عنه. يظل أن أقول هنا أن القدرة علىالتغيير ليست متساوية بين هذه التيارات، وقد تغيرت فاعليتها وموقعها كثيراً عبرمراحل الثورة السوريّة. فإذا كان الصوت السوريّ المدنيّ الديمقراطيّ السلميّ، هوالغالب في الستة شهور الأولى من عمر الثورة، فإن صليل السلاح وصوت الرصّاص سيحلمكان الصوت المدنيّ وستتعسكر الثورة. أيضاً في تلك المرحلة كان الجيش الحُريُمثِّل تياراً غير دينيّ تماماً تطوع لحماية أهداف الثورة، لكن ذلك كان دون شكعلى حساب التيار المدنيّ الديمقراطي. بعد ذلك بدأت ماكينة التفريخ الإسلاميّة تعملبنشاط بتوجهات أيديولوجية إسلامويّة رجعية متفاوتة في درجات تشدُّدها وتطرّفها.وقد أدّى دعم هذه التيارات عسكرياً ولوجستياً ومالياً من قبل جهات عدّة مثل بعضدول الخليج وتركيا وأمريكا إلى أن طغى صوتها على كل الأصوات الثوريّة الأُخرى حتىأنها أخرستها تقريباً واحتكرت لنفسها باسم الثورة والتغيير.

بالنسبة لي شخصياً، الثورة السوريّة التي أعنيها وتُمثِّلني بين كل هذهالفوضى من الثورات “السوريّة”، هي ثورة الديمقراطية، والمواطنة،والمجتمع المدنيّ التعدّدي التي أقرب ما يمثِّلها الأشهر الأولى للثورة السوريّة.لكن مع كل أسف هذا التيار يكاد لا يُسمع صوته اليوم بعد أن أٌقصته عن الساحةتيارات الإسلام الجهاديّ.

الأُفق الذي سألتَ عنه هو مفتوحٌ إذن أمام جميع هذه الثورات السوريّة،لكن مرّة أخرى، يضيق ويتسع أمام كل تيار بقدرته على إثبات نفسه بوصفه خطاب قوّةوصراع أيديولوجيّ سياسيّ، ليس فقط ضد النظام وإنما ضد غيره من التيارات الأيدولوجيّةالتي ظهرت في غضون الأربع سنوات من عمر الصراع مطالبةً بأحقيتها في”الثورة”.

أما التغير فقد وقع وهو يقع كل يوم ويسير بسرعة على قدّمٍ وساق بينماتدور سوريا في زوبعة التغييرات حدّ فقدان ملامحها.

قد تنجح الثورة السوريّة التي أعنيها وتُمثِّلني لو توقف صوت السلاحوعمليات القتل وصار هناك إرادة دوليّة حقيقيّة في إنقاذ مؤسسات الدولة السوريّةوتجفيف منابع الإرهاب التي تدّعي محاربتها.

2-     هل يمكن اعادة انتاجالاسلام السياسي السوري بعد طغيان العنف؟

لنكن واقعيين ولنعترف أن الإسلام قد وُلد سياسياً أو مُسيسّاً رغم كلما يمكن أن يقال عن إسلام الغيبيات والروحانيات والتصُّوف والزوايا وعزوفها جميعاًعن السياسة. فالوجه السياسيّ للإسلام هو الطاغي، ولم تبدأ ملامحه بالظهور مع موتالرسول والاجتماع الشهير في سقيفة بني ساعدة كما يذهب بعض المؤرخون والفلاسفة،وإنما إلى بداية الإعلان عن ظهور الإسلام مع النبيّ مُحمّد بوصفه حركة سياسيّة ثوريّةجديدة كانت لا تزال قيد النشوء والتبلوّر. نجح الإسلام السياسيّ منذ ذلك الحينبرأيي في إعادة إنتاج نفسه بصور شتّى على مدى التاريخ الإسلاميّ الطويل رغم طغيانالعنفـ بل وبسببه كما تشهد اليوم الساحة السوريّة. ورغم نفوري الشديد من أي توجهدينيّ سياسيّ إسلاميّ كان أو غير إسلاميّ إلا أن علينا أن نعترف أن وصول التياراتالإسلاميّة إلى السُّلطة بعد إسقاط الأنظمة السابقة في كل من تونس ومصر وتوحُشالإسلام السياسيّ المُتطرِّف في كل من اليمن وليبيا والعراق وسوريا ما هو إلا تجليّسياسيّ من تجليات الإسلام السياسيّ وإعادة إنتاجه لنفسه بعد مراحل زمنيّة تم قمعهفيها لعقود مع أنظمة دكتاتوريّة فظل جمراً ثاوياً تحت الرماد يتحين فرصة العودةإلى الاسئثار بالسُّلطة. رغم قناعتي أن إمكانية القضاء على تنظيم الدولةالإسلاميّة على سبيل المثال لا يحتاج إلى الكثير من الدول الداعمة له والقوىالأوروبيّة إذ يكفي توقفها عن مده بالمال والسلاح وضبط الحدود وتدمير ما تبقى منقوته العسكريّة خلال أسابيع قليلة حتى تنتهي هذه الفزاعة من القش، وأن الحوارالسوريّ السوريّ المدنيّ هو نتيجة ستحصل في النهاية عاجلاً أم آجلاً، إلا أن علاجمشكلة الإسلام السياسيّ بشكل جذريّ وعلى المدى البعيد لا يمكن أن تتحقق بنظريّ،إلا ضمن إطار ديمقراطيّ طويل النَّفَس، تحترم فيه قواعد لعبة الديمقراطية وحدودها.

3-     عجزت الثورة السورية عن انتاج كيانات سياسية ذاتفاعلية، ما اسباب أزمات وأمراض المعارضة السياسية السورية؟

لعليّ سُأكرِّر ما صار معروفاً للجميع وممجوجاً من قبل الجميع أيضاً إن قلت أن النظام قدقضى على أي شكل مُنظّم وفاعل للمعارضة على مدى نصف قرن من أستئثاره بالسلطة وإقصاءلخصومه وقتلهم وتقليم أظافرهم، وأن النظام الفاسد يُنتجُ معارضة فاسدة أو أنأُكرِّر الحديث عن أمراض الشخصيّة السوريّة: كتضخم الأنا، وعدم الاعترافبالاختلاف، والتجذّر الخفي فيها لهويات ما قبل المواطنة المدنيّة الحديثة. كل هذاصحيح ونتائجه لا تحتاج إلى دليل أو برهان أو ذكاء ولا أريد ولا أحبُ التوسع فيه،لكن يظل من الصحيح برأيي أن هذه الأمراض الحقيقية للمعارضة السوريّة ليست إلا سبباًثانويّاً يُضاف إلى السبب الرئيسيّ في شرح وضعها المُزريّ حالياً. وما أقصده هنابالسبب الرئيسيّ هو اضطرارها مع تحوُّل الثورة السوريّة إلى التّسلُّح إلىالاعتماد على الخارج بشكل متزايد لمواجهة تطرُّف نظام الأسد الذي قرّر القضاء علىالثورة بأي ثمن مدعوماً مالياً وعسكرياً ولوجستياً دون حدود من قِبل إيران وروسياوالميليشيا الشيعيّة المُقاتلة في لبنان والعراق. وبمعنى آخر، لحاجتها المتزايدة إلىالخارج، راحت المعارضة المحتاجة إلى هذا الخارج لكي تبقى تفقد قرارها الوطنيّوتمثيلها الشعبيّ شيئاً فشيئاً مما أدى إلى تبعيتها الكلملة إلى عدّة أطرافخارجيّة لها مصالح متضاربة في سوريا مما زاد الطيّن بلة. لستُ بصدّد الدفاع عن هذهالمعارضة السياسيّة الفاسدة التي انسحبتُ منها دون رجعة منذ أكثر من سنتين، لكنأظن علينا أن نفهم أن قرارها ليس بيدها لأنها مُضطرة للتعامل مع الخارج، وحتى لوكانت شخصياتها أكثر وطنيّة وأكثر إرادة وأكثر نظافة وأقل ارتشاءً ومقاولةً وسوءاً،لما كان الأمر تغير كثيراً برأيي. فقد استولى الخارج بالكامل، مع اضطرار الثورةللتسلُّح، على سوريا نظاماً ومعارضة.

4-     ما هو توصيفك للتحول البنيوي الذي طرأ على النظامالسوري خلال السنوات الاربع الماضية؟

كنتُ قد كتبتُ مقالاً طويلاً عن هذا السؤال ظهر في مجموعة الجمهوريةاسميته “سوريا وتغير باراديم السياسّة” مستخدماً فكرة “ثورةالباراديم” بدل فكرة “التحوّل البنيويّ” التي يقترحها سؤالك ولعلالفرق بين الاثنين يقوم على أن تغير الباراديم هو عمليّة ثوريّة قطعيّة في حين أن”التحوّل” البنيويّ هو غالباً عملية تراكم وتحوّل نوعي تدريجيّ لايُمثِّل قطيعة حادّة. وأرجو أن تسمح لي هنا بالاقتباس من مقالي ذاك الفكرة الرئيسيةالتي قد تجيب على سؤالك. إني أودُّ التأكيد هنا على أن التغير في سوريا كان يجريعلى قدمٍ وساق رغم إنكار النظام لذلك وعدم رغبته بتغير الأوضاع، وبمعنى آخر كانتمقومات الثورة الأساسيّة قد تحققّت تاريخياً ولم يكن على السوريين إلا إعلانهاوهذا ما حصل مع انتشار ثورات الربيع العربي. هذه المقومات تُشير إلى الناس لم تعدتُطيق “بنيّة” النظام الأمني السوريّ بكل تصلبها واحتكاريتها وإقصائهاوبوليسيتها الأمنيّة. كان الواقع يتغير من الخارج بينما تتصلب بنية النظام السوريعلى نفسها أكثر فأكثر في مواجهة ما يحصل. لكن، ورغم كل عناد النظام السوريّوإصراره على عدم تقديم تنازلات فإن الصراع الحاصل منذ أربع سنوات على الأقل من عمرالثورة، قد أثبت استحالة التحوُّل البنيويّ الداخلي للنظام، كما تعلمنا أدبياتالفلسفة البنيوية، وإنما إلى تغييره بالإكراه المفروض من خارج بنية النظام، تغييراًفرضته الثورة والصراع في وعلى سوريا وسيروة التاريخ والتغير. وبما أن النظام غيرقابل للتحوّل البنيوي الداخليّ كما أناقش هنا فإن تغييره سيكون في النهاية تغييراًلباراديم السياسة البعثية الأسديّة بالكامل. وبما أن السوريين قد فقدوا مصيرهمالآن وهم معتمدون بالكامل على الخارج نظاماً ومعارضة مما سيترك الباب مفتوحاً أمامهذا الخارج (العربي والإقليميّ والدوليّ) إلى التصارع على تغيير باراديم سياسةالبعث الأسدي بالقوّة ومن الأعلى وفق نا تؤول إليه نهابات الصراع السياسيّ بينهم.

تكاد نهاية الصراع في/ وعلى سوريا تبدو جليّة للجميع،فالصراع العسكري لن يُحسم لصالح أي طرف وستكون هناك في النهاية مفاوضات من أجلانتقال السُّلطة في سوريا مع الدعوة للمحافظة على مؤسسات الدولة السوريّة بالحياة،وقد يظل بشار الأسد “رئيساً” شكلياً في فترة انتقالية لكن التغيّر، لمولن يكون بنيوياً من داخل بنية نظام متوحش أعمى وأصمّ لم يستطع أن يلتقط اللحظةالتاريخية لإجراء تحول بنيويّ فرفض آلية حركة التاريخ ولا يزال ينكر لليوم حق الشعب السوريّ في السيادة والحياة والحريةوالكرامة…

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى