صفحات الحوار

حوار مع راتب شعبو…في البحث عن سوء تقديراتنا

 

 

كلنا سوريون – غسان مفلح

الحوار مع راتب متعب، لأنّك لو أردت محاورته بكلّ ما كتبه هنا في هذه الحواريّة، ستجد أنّك لن تنتهي، من هذا الحوار الخصب، حيث حاولت أن أحكّ عقله وروحه، رغم أنّه لا يحتاج لذلك لكنّها محاولة، خاصّة في تجربة السجن، كانت أجوبته، خاليةً من التعقيد، قريبةً من بساطة آل “شعبو”، الذين دفعوا في سجون الأسد حوالي ال 40 عاماً، (الدكتور راتب شعبو 16 سنة، الدكتور بهجت شعبو 10 سنواتٍ، ومنير شعبو10سنواتٍ، وابنة بهجت شعبو، والدكتورة ماريا شعبو، التي ولدت في السجن، حيث قضت أمّها المناضلة اليساريّة رنا محفوظ أكثر من أربع سنوات). من يعرف قرية “كفرية” شمال في ريف اللاذقيّة، حيث ولد راتب، يعرف عن ماذا أتحدّث؟ من هناك أصبح راتب “شعبو” طبيباً وكاتباً ومترجماً، يكتب مقالات في العديد من الصحف، والمواقع الالكترونيّة، له عدد من الكتب المترجمة أبرزها: “أمّي مرآتي”، و”اكتشاف الإسلام”، ورواية “قطار إلى باكستان”، وكتاب بعنوان “دنيا الدين الإسلاميّ الأوّل” عن الجانب السياسيّ في شخصيّة الرسول محمّد، صادر عن دار شرق وغرب، وله رواية عن السجن حازت على جائزة دمشق لعام 2013، وهي الآن قيد الطباعة في دار الآداب في بيروت، سُجن على خلفيّة نشاطه في حزب العمل الشيوعيّ في سوريّة منذ 1983 حتّى 1999، كانت آخر ثلاث سنوات ونصف منها في سجن تدمر العسكريّ.

المحور الأوّل عن السجن:

السؤال الأوّل: لكونك كتبت روايتك عن السجن ستكون أسئلتي عن السجن لها طابع بعيد قليلاً عن السياسة، وعمّا قيل ربّما أنت القائل: «خرجت من السجن، فهل يخرج السجن منّي؟». السجن يستوطن ضحيّته، ويصبح عنصراً دائماً، وأحياناً طاغياً، فيما يمكن أن أسمّيه “الجهاز المعرفيّ والشعوريّ للمرء” قولك هذا من ضمن كلام كثير قلته أنت عن السجن، وقاله معتقلون كُثر، بغضّ النظر عن اختلافي واتفاقي مع هذا السياق، لكن هنالك جانب سلبيّ من تجربة السجن، اعتبرني فيه أتحدّث عن نفسي، كي لا تأخذ على خاطرك أنت أو غيرك، هنالك حبّ الحياة المفرط والأنانية، والانكفاء بمعناه الفرديّ كذلك، بقدر ما تحوّلنا إلى شخصيّات عامّة! كما يُقال، بقدر ميلنا إلى مساحة من الانعزال تشبه السجن، نرفض فيها أن يقترب أحد منها. مع شيء من “تضخّم الذات” ربّما نتاج هذا الرأسمال الرمزيّ، إن قُدّر لنا اعتبار الاعتقال السياسيّ رأسمال رمزيّ، تمّ بعثرته عند الغالبيّة منّا، أريدك مع ما قلته أنا هنا، أن تحدّثنا عن الجانب السلبيّ للسجن في حياة المعتقل بعد خروجه منه، إن كنت ترى ذلك طبعاً؟

الجواب الأوّل:

معظم جوانب السجن سلبيّة، ولاسيّما السجن المزمن، النشاطات الحسنة التي يمكن للسجين أن يقوم بها داخل السجن، تهدف إلى مقاومة هذه السلبيّة والحدّ من تأثيراتها، القراءة والرياضة وتعلّم اللغات والتسلية والتأمّل .. الخ، كلّها أنشطة تهدف إلى حفظ توازن السجين النفسيّ والعقليّ والبدنيّ، لكن هناك سجون لا تتيح لك أيّاً من هذه الأنشطة، مثل سجن تدمر العسكريّ السيّئُ الذكر، هناك كلّ شيء ممنوع، حتّى أن تهرول وأنت في مكانك ممنوع، أن تتمشّى في أرض المهجع ممنوع، أن تلعب الشطرنج على رقعة ورقيّة، وبقطع شطرنج ورقيّة ممنوع، الضحك ممنوع، أن تتكلّم بصوت أعلى من الهمس قليلاً ممنوع، أن يكون لك شعر يستر فروة رأسك ممنوع، أن يكون لك شوارب ممنوع، حتّى أن تمدّ نظرك في مدىً مفتوح ممنوع، حينها يكون السجن ماكينة لإزهاق العمر الخام، زمناً من التخريب الصرف. الشيء القذر الوحيد الذي فات العقول الزنخة التي صمّمت سجن تدمر، هو اللباس الموّحد، هذا النوع من السجون مدمّر، اللهم إلّا إذا قلنا إنّه يعلّم السجين الصبر، ولكن ما هو الصبر في السجن؟ هل هو سوى الصفر المطلق، أو اللاشيء، أو السلبيّة التامّة؟ الصبر في السجن هو أن تروّض نفسك على الإذلال، وبطنك على الجوع، وجلدك على البرد، وصوتك على السكوت، وأن تتماشى مع إدراك أنّك شخص مجرّد من أيّ حقّ، بما في ذلك حقّ الحياة.

لكن من جهة أخرى، فإنّ السجين الذي ينجو بأقلّ الخسائر، هو السجين الذي لا ينظر إلى السجن كما ذكرتُ آنفاً، السجين الناجي، أو للدقّة (الأكثر نجاة) هو الذي يتمكّن من أن ينسى السجن، وأن يكون من المرونة النفسيّة، بحيث لا ينكسر تحت وطأة أقدام السجن الثقيلة، والحقيقة أنّ هذا _ من خلال تجربتنا _ طبع في الشخص، أكثر بكثير من كونه تطبّع، أيّ هو أمر لا يكتسبه المرء بالثقافة غالباً.

فيما يخصّ سؤالك بالتحديد، لا أتفق مع من يقول: إنّ السجن يورّث الأنانية وحبّ الدنيا والانكفاء “وتضخّم الذات”، على الأقلّ لا تشكّل غالبيّة النماذج التي أعرفها برهاناً على صحّة هذا القول، تقديري أنّ مثل هذا الحكم، نابع من نزعة شعبيّة تريد أن ترى في “سجين الرأي” نبيّاً أو إلهاً صغيراً بلا غرائز ولا أهواء، إنّه شخص مندور للصالح العام، وهو يحوز لذلك على ما تسمّيه في سؤالك “الرأسمال الرمزيّ”، فحين يبدر من “السجين السابق” ما يمكن أن يبدر من أيّ شخص، يبدو الأمر مفارقاً ونافراً، ويُحسب على السجين السابق، وكأنّه ارتكب معصيةً و”بعثر رأسماله الرمزيّ”، هذا “الرأسمال” في الواقع يقيّد السجين السابق أكثر ممّا يحرّره، ويفقره أكثر ممّا يغنيه، وهو نوع من الصليب الذي يطالبك الناس أن تحمله دائماً، لكي “يرضوا” عنك، ونحن دخلنا في هذه الدوّامة، وجلدنا ذواتنا، لأنّها شذّت عن الاستقامة المطلقة، كما لو أنّ قيمة رأينا السياسيّ، تُستمدّ من استقامتنا الشخصيّة ونبلنا الخاصّ، وليس من صواب ما نذهب إليه في آرائنا ومطالبنا ونقدنا، لذلك هذا “الرأسمال الرمزيّ” هو اسم على غير مسمّى، على هذا يعيش السجين السابق مشكلة فعليّة: النظام يعامله كشرّ دائم، ويغلق في وجهه السبل، والناس يبروظونه في صورة تعجيزيّة من الكمال، وكأنّما ليتحدّوا تماميّته، ويحتفلون بتحطّمها، الذي لا شكّ فيه (متعة تحطيم الأصنام)، النظام يجرّده من حقوق المواطن العاديّ، لأنّه شرّ مفترض، والجمهور يجرّده من “طبيعته البشريّة”، لأنّه خير مفترض. هذا بالمحصلة مناخ ظالم للسجين السياسيّ عموماً _ هنا أتكلّم بالعموم طبعاً _ ولا يخفى عليّ أنّ هناك سجناءً سياسيين، أظهروا دناوةً في النفس، كما لو أنّهم يريدون تعويض ما فاتهم من الدنيا، وأنّ هناك سجناءً يريدون من الناس أن تضرب لهم التحيّة لمجرّد أنّهم سُجنوا.

السؤال الثاني: في سجن صيدنايا بعد أكثر من 11عاماً فيه، كان هنالك جناح يطلّ على الزائرين، وهم يدخلون قاعة الزيارات، شاهدتُ فتاةً ترتدي “صندلا” ورديّاً، لم أشاهد سوى قدميها داخل ذلك الصندل، مزيج من الحسيّة الجنسيّة ربّما!! مع قهر لا حدود له لحظتها، الغريب بالموضوع أنّ تلك الصورة تحوّلت بعد فترة إلى عنصر كابوسيّ أثناء النوم، تتكرّر بأوضاع وأشكال غريبة، لهذا قلتُ للصديق راشد صطّوف المعتقل المزمن مثلي: أنّ المرأة التي يشكّلها السجن لدى السجين السياسيّ بعد سنوات مديدة من الاعتقال، لا يمكن أن يراها في الواقع حتّى بعد خروجه، أو ربّما يحتاج لزمن، حتّى يتعقْلن هذا الإحساس، وربّما لا، أليست هذه أحد أمراض السجن؟ ماذا عنتِ المرأة “لراتب” في السجن المديد؟ وهل بقيتْ صورتها كما هي بعد أن خرجتْ للحرّية؟

الجواب الثاني:

دخلت السجن وأنا عازب، وكان هذا في صالحي، ليس فقط من ناحية أنّني دخلت السجن خفيفاً من أعباء زوجة وأولاد، بل أيضاً لأنّ ذلك جعل خيالي حرّاً في اختيار المرأة التي سأقترن بها، أختارها كما أشاء وأعدّل في صورتها وطبعها كما أشاء وحين أشاء.

المرأة هي الغائب الأكبر بالنسبة للسجين، وغيابها الواقعيّ المديد، يزيد من كثافة حضورها في الخيال، لذلك هي أيضاً الحاضر الأكبر في مخيّلة السجين، لكن أظنّ أنّ امرأة الخيال غير امرأة الواقع دائماً، كما لدى السجين، كذلك لدى غير السجين. حين تقول “امرأة” فإنّ هذا اللفظ يوقظ في الذهن صورة ذات جمال غامض لا يتطابق مع صورة أيّ امرأة واقعيّة، إلى حدّ يمكن القول: إنّ هذا اللفظ يوقظ إحساساً جميلاً أكثر ممّا يوقظ صورةً، الفارق بين السجين وغير السجين يكمن في الانقطاع الطويل للسجين عن المرأة، الأمر الذي يجعله يبالغ في توقّع جماليّة المرأة المنتظرة، ويكون بالتالي أقرب إلى الإحباط، لكن من حسن الحظّ أنّ شخصيّة المرأة، وما تكتنزه من جمال روحيّ ومن حضور زاهٍ، يجسر الهوّة لدى السجين بين صور خياله وواقعه.

في سجني المديد شكّلت المرأة بالنسبة لي فردوساً مفقوداً. وكان غيابها من أهمّ مصادر الألم في السجن. يستعصي على المرء أن يدرك تماماً جوهر حاجة الرجل للمرأة، كلّ إنجاز للرجل يبدو باهتاً بنظره ما لم يحز على اعتراف النساء، شيء يشبه اللغز، أذكر أنّني ذات يوم انتزعت من مجلة _ وأنا في السجن _ صورة صبيّة تجلس على عتبة بيت، مؤلّفة من درجتين، وتبدو قدمها حافية وجميلة، وهي تستند بكعبها على الدرجة السفلى، لصقتُ هذه الصورة على الحائط المجاور لسريري في سجن عدرا، كما يفعل المراهقون، وكنت أتأملها كثيراً، وتمنحني الكثير من الراحة النفسيّة والمتعة، وكانت قدمها تلك، في نظري، هي أجمل ما في الصورة، ومركز اهتمام عيني. يتقاطع هذا مع “قدمك ذات الصندل الورديّ”، واللافت أنّ صديقي في السجن الفنّان “عبد الحكيم قطيفان” كان يعلّق فوق رأسه مجسّماً صغيراً لكندرة نسائيّة سوداء بكعب عالٍ وانسيابيّة ساحرة، ربّما كانت تعينه أيضاً في تحمّل هذا الغياب الباهظ، هناك سرّ ما في “القَدم” كما تلاحظ!

بعد خروجي من السجن لملمتْ امرأةٌ تشتّتي وضياعي، وهشاشتي بطريقة لا تجيدها كثير من النساء، ربّما لم تكن جميلة بنظر الكثيرين، أو قياساً على ابتكارات خيالي السجنيّة، لكنّها رمّمت روحي، وقلّمتْ فجاجتي، وجعلتني أراها أجمل من خيالي، حين كانت تفرش ذاتها أمام نفسي الأسيرة مثل مرج ممهّد أخضر، حتّى إذا اطمأنّتْ إلى “نضجي” تركتني، على هذا لم أشعر بمعاناة التفارق بين الواقع والخيال.

السؤال الثالث: خلافاتنا داخل السجن كبشر وكسياسيّين وكبشر سياسيين، كيف كان يراها راتب؟ وهل شعرت أنّها استمرّت حتّى خارج السجن؟ في تلك الخلافات ما هو له علاقة قويّة بشرط السجن، منه ما له علاقة بشرط السياسة، وهنالك ما له علاقة بالتفاوت الإنسانيّ الطبيعيّ بين قدرات المساجين على تحمّل هذا الشرط اللاإنسانيّ بالمطلق، أحتاج إلى قول منك في هذا الوضع؟

الجواب الثالث:

أزعم أنّ الصفة النادرة في ناسنا، في السجن وخارج السجن، هي سعة الصدر. قلائل هم الذين يقبلون _ برحابة صدر _ أن تخالفهم الرأي، حتّى لو كان هذا الرأي يتعلق بطريقة طبخ “الملوخيّة”، الغالبية يحبون الموافقة والمديح، ولو على حساب المنطق والحقيقة، الخلافات السياسيّة والفكريّة داخل السجن، كانت تُترجم في حالات كثيرة إلى جفاف في العلاقات الشخصيّة، وذلك وفق آليّة الهروب من الألم. يميل السجين إلى معاشرة من يشبهه في الرأي السياسيّ، فلا يصطدم معه كلّ حين و”يهزّ بدنه”. كانت تتشكل الجماعات داخل السجن وفق المواقف السياسيّة. مثلاً في 1990 شكّل أنصار العراق في الدخول إلى الكويت شلّة، وكذا الحال منتقدوهم، وقِس على هذا.

كان يلفتُ نظري في هذا الخصوص، أنّك قد تجد سجيناً سياسيّاً، ينتقد حزبه، وينتقد آراءه الخاصّة بكلّ جرأة، حتّى تشعر أنّك أمام إنسان مدهش في موضوعيّته، ولكن حين يقول آخرون _ ولاسيّما إذا كانوا من “تهمة” أخرى _ نفس ما يقوله هذا السجين بحقّ حزبه ونفسه، فإنّه لا يقبل منهم ذلك، ويتذمّر وتلقاه مستعدّاً للعراك ضدّ هذا النقد.

بحسب خبرتي، فإنّ الخلافات تُورّث إلى خارج السجن، دائماً ينفر الأشخاص ممّن يخالفونهم الرأي، ويحبّذون التجمّع مع من يوافقونهم، ممّا يجعل تجمّعات الأفراد المتشابهين في الرأي، أشبه بتوابيت للرأي، غير أنّ الأسوأ من هذا التفاصل بين جماعات الرأي المختلفة، هو ظاهرة الشلل، حيث يتجمّع أفراد حول شخص مميّز أو أكثر، ويبادلون الولاء بالرعاية، هنا تجد أشخاصاً يتبنّون آراءً ليست من صنعهم، وذلك فقط لأنّها صادرة عن “الشلّة”. هذه أيضا ظاهرة ترتد مساوئها على الجميع.

المحور الثاني من الثورة حتّى لحظة الخروج من سوريّة:

السؤال الأوّل: بدايةً أنت قلت في مكان ما من كتاباتك بعد الثورة، أنّك لن تخرج من سوريّة، ما الذي دعاك للخروج منها؟ وماذا عَنتْ لك تلك اللحظة رغم أنّي قرأت ما كتبته أنت عن جوانب هذه اللحظة؟

الجواب الأوّل:

آخر ما كنت أفكر به هو الخروج من سوريّة، كنت دائماً ممنوعاً من السفر ولم يكن ذلك يعني لي الكثير، لأنّني لا أريد السفر أصلاً رغم كلّ الصعوبات والتضييقات الأمنيّة. لم يُرفع التجريد المدنيّ عنّي رغم انقضاء المدّة القانونيّة، ورغم أنّني اتبعت الإجراءات المطلوبة في معاملة إعادة الاعتبار، وراجعت محكمة أمن الدولة العليا (قبل أن يجري حلّها تحت ضغط الثورة) مرّتين بدلاً من المرّة الواحدة، دون جدوى. كلمة (مجرّد مدنيّاً) مكتوبة بالخط الأحمر على غلاف دفتر العائلة الخاصّ بأسرتي، الأمر الذي كان يحمّل أطفالي وزوجتي تبعات ومضايقات في كلّ الدوائر التي يحتاجون فيها إلى اصطحاب دفتر العائلة، عدا عن حرماني الدائم من العمل في أيّ من المشافي الحكوميّة أو في أيّ مؤسّسة عامة، رغم كلّ ذلك، ورغم أنّ الكثير من أصدقائي الذين خرجوا منذ وقت بعيد كانوا يقترحون عليّ الخروج نظراً لمعرفتهم بظروفي، لم يكن في ذهني الخروج من سوريّة، وزادني تمسّكاً في سوريّة انتفاضة الشعب السوريّ في مطلع 2011.

مع تعثّر الثورة وتحوّلها إلى صراع عبثيّ لا يُنتج سوى المزيد من الضحايا والدمار، ومع تبلور الموقف الدوليّ السلبيّ حيال ما يجري في سوريّة، ومع بروز تنظيمات “إسلاميّة” تجمع بين الإعاقة العقليّة والأخلاقيّة من جهة، وبين القدرة العسكريّة من جهة أخرى، بدأ المشهد يتغيّر وتغيّرت معه نظرتي وأولوياتي، وفي الوقت نفسه بدأت دائرة المخاطر تقترب منّي بوتيرة متسارعة. استدعاءات أمنيّة تلاحقني و مُساءلات دائمة حتّى على صورة “البروفيل” التي أضعها على حسابي في “الفيسبوك”. مضايقات لزوجتي في مكان عملها، معاملة تمييزية سلبيّة ضدّ أطفالي في المدرسة، بين بقاء عقيم مفتوح على العدم، وخروج ينطوي على احتمالات مفتوحة وربّما خصبة، اخترت الخروج، ومع ذلك، ربّما لو لم يكن لديّ طفلان (جنيت عليهما) لاخترت البقاء، وإن كان بقاء محفوفاً بقوسين متكاملين من الإعدام، قوس ترسمه جرائم النظام وأمنه وشبيحته، وآخر ترسمه سيوف وجرائم بشر “مسلمين”، هم بفكرهم ونمط حياتهم وحتّى أسمائهم أقرب ما يكونون إلى قيء التاريخ.

للأسف، اللحظة التي خرجتُ فيها من الحدود السوريّة كانت لحظة شعور بالحريّة، شعور يشبه لحظة خروجي من السجن، قلت لأصدقائي، وأنا في معمعة البحث عن حلّ لمشكلة منعي من السفر: أشعر أنّ أجنحة ستنبتُ لي حين أصل إلى بيروت، وبالفعل حين وصل الصديق الدكتور ماهر أبو ميّالة بسيارته لاصطحابي من شارع “الحمرا” إلى منزله ومعه في السيّارة ابني وابنتي الصغيرين (فقد كانت زوجتي وطفلي قد سبقوني إلى بيروت في حين كنت أتابع في دمشق إجراءات السماح لي بالسفر) شعرت بما يشبه شعور الناجين من الغرق.

في بيروت شعرتُ أنّني حرّ، كنت أصفن وأنا أتلذّذ في تذوّق حقيقة أنّني هنا في مأمن من دوريّة أمن تقتحم عيادتي وتقتادني إلى حيث لا يدري إلّا الله، وفي مأمن من أن يتحرّش بي مجموعة من الشبيحة في الشارع ويهدرون كرامتي ودمي، وفي مأمن من صاروخ “إسلاميّ” أعمى، أسوة بعقول مطلقيه ..الخ. في بيروت شعرتُ أنّ حياتي ملكي، وأنّها زمن خام لي أن أصوغه كما أشاء، بعد أن كانت حياتي في سوريّة مزيج فاسد من الزمن المسموم بالقلق والخوف، وأنا الآن في الخارج أشعر، رغم كلّ شيء، بكرامة افتقدتها طويلاً في سوريّة، للأسف.

السؤال الثاني: تقول في إحدى مقابلاتك “يستحقّ الانتباه أنّ المزاج المعارض اليساريّ لم يتبدّد في الوسط العلويّ خلال الأحداث العنيفة التي شهدتها سوريّة في نهاية السبعينات وأوائل الثمانينات، وظلّ للمعارض العلويّ (اليساريّ) غالباً، قبول وتأثير في وسطه آنئذ، على خلاف الحال اليوم حيث بات المعارض العلويّ منبوذاً في وسطه إلى حدّ الوسم بالخيانة، ويحتاج هذا التحوّل إلى بحث مستقل لفهم أسبابه”، أريد منك رأياً مقتضباً حول هذا التحوّل؟

الجواب الثاني:

ما قلتُه في المقابلة التي تشير إليها يعبّر عن واقع ملموس وحقيقة صارخة، العلويّون كتلة بشريّة تخترقها كلّ التيارات الفكريّة والسياسيّة كما تخترقها الفروق الطبقيّة مثلها في ذلك مثل المجتمع السوريّ ككل، لا تتمايز هذه الكتلة بشكل يبرّر الكلام السياسيّ عن “العلوييّن” في سوريّة إلّا أمام الخطر الإسلاميّ السنيّ، ولا غرابة في ذلك، ذلك أنّ الإسلام السياسيّ في سوريّة يَعِدُ العلويّين وغيرهم من المذاهب والطوائف بمرتبة دنيا في “مجتمع إسلاميّ”، يبقى السؤال لماذا تبدّد اليوم المزاج العلويّ المعارض في حين لم يتبدّد في أحداث الإخوان المسلمين في بداية الثمانينات؟ قد يكون شعور العلويّين بقوة التهديد ودنو الخطر اليوم، قياساً على محدوديّة الخطر في أحداث الإخوان، هو ما يفسّر نظرتهم الحاليّة الشديدة السلبيّة تجاه المعارضين العلويّين، وقد يكون الفارق بين الأسد الأب (القويّ والمحنّك) والأسد الابن (الضعيف) جزءاً من هذا التفسير.

المزاج العام في الوسط العلويّ تحوّل بوتيرة متسارعة من الترقّب إلى التردّد إلى الانكفاء والرفض إلى العدائيّة تجاه الحراك الاجتماعيّ الثوريّ في سوريّة. وأعتقد أنّ مساراً مشابهاً _ وإن كان أقلّ تسارعاً وربّما أقلّ حدّة أيضاً _ شهدته قطاعات واسعة من المجتمع السوريّ ومن كلّ الطوائف، وقد يكون هذا المسار أضعف ملاحظة في الوسط السنيّ نظراً إلى أنّ هذا الوسط تحمّل أشنع أنواع الجرائم على يد النظام، ممّا دفعهم للقبول بكلّ مَن يواجه النظام ولو كان الشيطان نفسه.

اليوم وبعد طول أمد الصراع وانكشاف سخف اللغة السلطويّة في تسخيف الحراك بالتبشير منذ وقت باكر بأنّ الأزمة (كما سمّى الإعلام الرسميّ الثورة) “خلصت”، وبعد أن زاد عدد الشباب العلويّين الذين قضوا في هذا الصراع عن مئة ألف، يجد العلويّون نفسهم في مأزق فعلي لا يجدون له حلاً، استمرار النظام مكلف لهم، وانهيار النظام مرعب لهم، ويلفت نظر المراقب أنّ التطوّر الذي ولّد تململ علويّ من هذا الصراع (أقصد زيادة التكلفة عدد الضحايا بين العلويّين)، ولّد أيضاً تنظيمات إسلاميّة تحمل المزيد من التهديد للعلويّين والمزيد من حوادث القتل البشعة بحقهم، أقصد إنّ صعود التنظيمات القاعديّة الدمويّة والطائفيّة رافق صعود تململ العلويّين ولجم فاعليّة هذا التململ.

السؤال الثالث: هنالك قول لك استوقفني في الواقع يتعلق بالسؤال السابق، في إحدى مقابلاتك أيضاً، حيث تقول: ” في 7/3/2011، أي قبل اندلاع الثورة بحوالي عشرة أيام، ظهرتُ على قناة “الأورينت” بمقابلة هاتفيّة دامت حوالي عشرين دقيقةً، ورغم أنّ إجاباتي كانت مدوّرة الزوايا و«عقلانيّة» إلى أقصى حدّ ممكن، فوجئت أنّ ارتكاس الناس كان أشدّ عدائيّة تجاهي وتجاه أسرتي من أجهزة الأمن نفسها، قاطع الناس عيادتي، أكثر من مريضة اتصلت وألغت موعد عمليّة كانت قد حدّدته مسبقاً)، وتهجّم بعض النسوة على زوجتي في صالون حلاقة نسائيّة في الحيّ الذي نسكن فيه، وصار للخبر مفعول كرة الثلج، فأصبحتُ شاهد عيان، وأتنقّلُ من محطة «مغرضة» إلى أخرى، ..الخ، هستيريّاً رفض جماعية تحتاج إلى تأمل”. ألا يشير هذا القول أنّ هذا الرفض المجتمعيّ له علاقة بالمسألة الطائفيّة ربّما نستطيع إضاءة بعض الجوانب عنها في هذا الحوار؟ لأنّك لا يمكن أن ترى هذا الرفض المجتمعيّ في أوساط سوريّة أخرى، ربّما يتحاشوك الناس لخوفهم، أمّا هذا الرفض بهذه الطريقة وخاصّة بعد الربيع العربيّ وثوراته، يشير من زاوية ما أنّ الكتلة الطائفيّة” العلويّة” ضدّ المجتمع السوريّ!! بما تعنيه هذه التسمية حاضرة بقوة حتّى قبل الثورة، ما رأيك؟

الجواب الثالث:

سبق أن كتبت في مقالة لي بعنوان “العلويّون بين الانغلاق والانفتاح” إنّ العلويّ يمكن أن يكون أمميّاً أو قوميّاً أو وطنيّاً، لكنّه أمام هجوم الإسلام السياسيّ السنيّ فإنّه يرتدّ إلى طائفته، ذلك لأنّ الإسلام السياسيّ السنيّ ينسب الناس إلى مذاهبهم أساساً وعليه فإنّه يرسم للعلويّين ولغيرهم من أبناء المذاهب الأخرى غير السنيّة حدوداً سياسيّة واجتماعيّة متدنية من خارجهم ودون إرادة أو رضا منهم، لذلك أقول إنّ بروز النزعة الطائفيّة العلويّة في سوريّة هي بنسبة كبيرة صناعة طائفيّين سنّيين، بديهيّ أنّ كلا النزعتين مدان ومؤذ اجتماعيّاً ووطنيّاً.

العلويّون أقليّة عدديّاً، فهم، بطبيعة الحال، لا يميلون إلى الاصطدام بالمحيط السنّي الواسع، مثلهم في ذلك مثل أي أقليّة مذهبيّة، والعلويّون باطنيّون في ديانتهم فهم لا يدخلون في منافسة مع الديانة السنّية ولا مع أي ديانة أخرى، لا يحتجّ العلويّون مثلاً على أنّ أبناءهم يدرسون مقرّر الديانة الإسلاميّة في المدارس السوريّة من منظور إسلاميّ سنّي، لا يمكنك أن تتوقع رؤية شيخ علويّ يحاجج شيخاً سنّياً في أمر دينيّ، فهم غير توسعيين البتّة من الناحية المذهبيّة، ولا دافع لديهم “لهداية” الغير إلى مذهبهم، الواقع إنّهم يخسرون الأتباع اليوم لصالح المذهب الشيعيّ التوسعي، من الناحية الدينيّة يتعامل العلويّون مع المبدأ المؤقّت الذي وضعه الرسول محمّد في المرحلة المكيّة من دعوته: “لكم دينكم ولي ديني”، على أنّه مبدأ دائم، ما أريد قوله إنّ الأقلية المذهبيّة لا تتخذ وضعية طائفيّة هجوميّة عموماً إلّا أمام تهديد طائفّي، وحين يكون الانعزال أو الانسحاب غير كافٍ لدرء ذلك التهديد، هذا من حيث المبدأ والمنطق.

في سوريّة تراكب الطائفيّ على السياسيّ بطريقة شديدة التعقيد نظراً إلى الانتماء العلويّ للديكتاتور “حافظ الأسد” وصياغته أجهزة العنف في الدولة (الجيش والأمن) بطريقة طائفيّة، يشكّل هذا نصف الحلقة المفرغة التي تعيشها سوريّة منذ نهاية السبعينات إلى اليوم، النصف الثاني من الحلقة المفرغة يتمثّل في أنّ الخروج على المستبد في سوريّة اتخذ دائماً صبغة إسلاميّة سنيّة غالبة، ممّا دفع العلويّون وأبناء الأقليات المذهبيّة والدينيّة الأخرى للانكفاء، فضلاً عن انكفاء نسبة كبيرة من السنّة اليساريّين والليبرالييّن والمتنوّرين، وكلّ ذلك انتهى إلى تشكيل سند اجتماعيّ للنظام، هذه حلقة مفرغة تطحن سوريّة اليوم أكثر من أيّ وقت سابق، ولا يبدو أن لنا مخرجاً منها سوى بكسرها، وهذا ما يبدو أنّه مستحيل من الداخل.

لا يمكن القول أنّ العلويّين، أو أيّ طائفة أخرى، ضدّ المجتمع السوريّ، هذا كلام لا رصيد علميّ أو واقعيّ له، ربّما كان الكلام أدقّ لو قلنا أنّ أعداء المجتمع السوريّ هم أولاً السلطويّون المتطرّفون الذين يبدون الاستعداد لحرق البلاد قبل التخلّي ولو عن جزء من سلطتهم، وهؤلاء في الحقيقة خليط من كلّ الطوائف حتّى لو كان اللون العلويّ يغلب على الذراع الضارب للسلطة، وثانياً الإسلاميّون المتطرّفون الذين يعاملون الناس وفق مذاهبهم وأديانهم ويحكمون عليهم وفق ذلك بالقتل والتهجير والسبي ..الخ، هؤلاء هم بالفعل ضدّ المجتمع السوريّ وضدّ الاجتماع الحديث عامّة.

حين تتوحّد الكتلة الكبرى من طائفة على موقف سياسيّ ما، يغدو على الباحث أن يفسّر هذه الظاهرة، لا يجب أن يشعر الباحث بالرضا حين يقول مثلاً: “العلويّون لم يلتحقوا بالثورة لأنّهم طائفيّون”، هذا القول هو نوع من الشتم أو “فشّة الخلق”، لكنّه غير مفيد ولا يفسّر شيئاً، لا يوجد برأيي طائفة أكثر أو أقلّ طائفيّة من طائفة أخرى، التفسير السياسيّ الواقعيّ هو المطلوب إنْ شئنا أن ندرك واقعنا إدراكاً سليماً، وقد تبيّن أنّ إدراكنا لواقعنا مشوّه ولم يشكّل دليلاً موثوقاً ولا معيّناً في أشدّ اللحظات حلكة وحاجة، لا بل كان دليلاً مضلّلاً لا هادياً.

………….

تعليق من قبلي وأسئلة اعتراضيّة على هذا القسم من المحور الثاني:

دكتور راتب أظنّ أنّ هنالك مستوييّن لنقاش المسألة الطائفيّة، الأوّل نظريّ ايديولوجيّ معرفيّ سمِّه ما شئت، لكن هنالك مستوى يتعلّق بميزان القوى السياسيّ والعسكريّ على الأرض في لحظة الدم، هنا لا يفيد كثيراً المستوى الأوّل، نحن هنا والآن بالذات، أمام شعب تحرّك من أجل نيل حريّته، ليست مشكلته إذا كانت أكثريّته الموضوعيّة من السنّة، عرب وأكراد وتركمان وشركس، في تلك اللحظة انقسم الجميع عموديّاً الدروز والمسيحيّة والسنّة والكرد والاسماعيليّة بغضّ النظر عن نسبة هذا الانقسام، خروج تظاهرات في كلّ تلك المناطق والمكوّنات، إلّا الطائفة العلويّة لم يحدث فيها أيّ انقسام عموديّ مهما كانت نسبته، ولم تخرج فيها تظاهرة واحدة، لماذا؟ بحيث تحوّل القاتل _ حتّى عند من هم ضدّ الثورة من المكوّنات الأخرى _ إلى هويّة قارّة كتلة علويّة صلدة من القادة والجند، تقود القتل اليوميّ للمدنيين، وأنت تعرف جيّداً تأثير الملفوظات المنطوقة مثل “بدكن حريّة” في مخيال البشر، على فرض كلّ ما قلته أنت في تفسير الظاهرة صحيح، لكنّ الصحيح أيضاً أنّ مخزون العداء لدى هؤلاء القادة وكتلتهم الصلدة، كان غير مسبوق وغير معترف به، حتّى اللحظة من قبل الجميع، وكأنّنا أمام حالة تواطؤ جمعيّ التقتيل و”التعفيش” والهدم، ولغة وشبكة الملفوظات المستخدمة في صفحات “الأسد أو نحرق البلد”، كلّها تشير بغضّ النظر عن هذا المستوى النظري، وكأنّ الأمر مبيّت سلفاً، والدليل وضعك ووضع عائلتك التمييزيّ حتّى قبل انطلاق الثورة، ما أردتُ سؤاله هنا عن هذا المبيّت سلفاً، رغم مرور 31 عاماً على نهاية الصراع مع الإخوان؟ إضافةً لذلك علينا الاعتراف أنّ آل الأسد تحوّلوا بنظر هذه الكتلة الاجتماعيّة إلى ربّ سياسيّ ودينيّ وربّ عمل، وممثّل للطائفة في كلّ المستويات وليس نتاج خوف من الأكثريّة الموضوعيّة؟

تعليق على التعليق:

في استبيان حديث يضمّ 28 سؤالاً، شمل أكثر من 600 شخصٍ من السورييّن العلويّي المولد، كانت لي مساهمة أساسيّة في إعداده وتنفيذه، تبيّن أنّ 44% من المستطلعين مع تغيير النظام، و54% يرون أنّ النظام يتحمّل مسؤوليّة القتل، و35% يريدون أن ينتهي الصراع على شكل تسوية بين النظام والمعارضة، فيما يرغب 22% منهم بنصر حاسم للمعارضة (بالطبع لا يشمل مفهوم المعارضة هنا جبهة النصرة ولا الدولة الإسلاميّة ولا أشباهها) مقابل 43% يرغبون بنصر حاسم للنظام، ينبغي أن يضع هذا الاستبيان، الذي سينشر قريباً والذي أنجز بظرف صعب وبمعايير مركز أمريكيّ متخصص بالاستبيانات، أصحاب التصوّرات الذهنيّة المستقرّة التي ترى إلى كتلة مذهبيّة ما على أنّها كتلة مسمطة، في موضع تساؤل ومراجعة للتصوّرات على الأقل.

لا يتماشى هذا الاستبيان الواقعيّ مع القول “الذهنيّ” بأنّ آل الأسد تحوّلوا عند العلويّين إلى ربّ سياسيّ ودينيّ، هذا قول ارتجاليّ وضعيف السند في الواقع رأيي أنّ العكس أقرب إلى الحقيقة، أقصد أنّ العلويّين اليوم، وبعد أن دفعوا ثمناً باهظاً في حماية “سلطة الأسد”، بات لديهم تصوّر عام من شقّين:

1- إنّ الأسد جرّ عليهم بلوى خسروا فيها ما يقرب من 100 ألف شابّ علويّ (تقديرات شخصيّة) مع تحميلهم وزر أخلاقي _ على الأقلّ _ عن مجازر مروّعة ارتكبها النظام وينظر إليها قطاع واسع من المجتمع السوريّ على أنّها مجازر تُرتكب باسم العلويّين وبيد علويّة، ومعروف أنّ الوزر الأخلاقيّ قابل للتحوّل إلى وزر سياسيّ يتوجّب دفع فاتورته حين تتبدل موازين القوى. 2- إنّ سلطة الأسد هي ملك كلّ من دافع عنها، فلم تعد السلطة في سوريّة ملك للأسد كما كانت حتّى مطلع 2011، وهذا يرسم خط صراع كامن ضمن معسكر النظام، ما أن يطمئنّ الموالون إلى تراجع تهديد الإسلاميّين، أي إنّ النتيجة التي يرسمها هذا الصراع في ذهن العلويّين هي تماماً سقوط الأسد من حيث القيادة ومن حيث الأحقيّة بالسلطة وليس تحوّله إلى ربّ سياسيّ ودينيّ.

من ناحية أخرى، بالفعل أظهر العلويّون خلال التبدلات العميقة التي شهدتها سوريّة في السنوات الثلاث والنصف الأخيرة، أقصد خلال ما بدأ ثورة حرّيّة وانتهى صراعاً أعمى على السلطة يتوسّل كلّ الوسائل، نكوصاً طائفيّاً ملحوظاً، وهذا جعلهم أقلّ حساسيّة تجاه الممارسات الإجراميّة التي يقوم بها النظام وشبيحته والمنظّمات العسكريّة الحليفة له، فقد استيقظت في أذهانهم صورة “آخر طائفيّ” يريد “إبادة العلويّين”. على هذه الصورة الشيطانيّة نام ضمير قسم كبير من العلويّين وسكت عن مذابح مروّعة راح ضحيّتها أطفال ونساء سنّيو المولد، ومن لم يرتاح ضميره على هذه الصورة، ارتاح على حقيقة أنّ المعارضة تفبرك الفيديوهات وتشتري شهود العيان، وبالتالي فإنّ الفظائع التي تصل إلى الإعلام إنّما هي فبركات إعلاميّة، ساعد في ذلك ممارسات غير نزيهة من بعض أطراف محسوبة على الثورة، بالمقابل نامت ضمائر قطاع واسع من السنّة عن جرائم مشابهة لجرائم النظام قام بها إسلاميّون متطرّفون، أو جمهور هائج بحقّ علويّين أبرياء، فخسر المجتمع السوريّ بذلك القاسم المشترك الأهمّ، وهو الضمير الذي يُفترض أنّه كمون الخير في الفرد، النتيجة تعطّل الضمير الاجتماعيّ وديست الأخلاق العامّة، ووجدت الطائفيّة لها مكاناً ومستقراً في أذهان السوريّين.

أمّا الكلام عن “أمر مبيّت سلفاً” فهو يتعامل مع الطائفة العلويّة، أو أيّ جماعة تُنسب إلى مذهب معين، كما لو أنّها جوهر خارج التاريخ، لا تخترقه التمايزات ولا الزمن، كما لو أنّ هذه الجماعة جزء متمايز عن المجتمع السوريّ، يتآمرون فيما بينهم ويكيدون وينتصرون دائماً لطائفيّتهم على خلاف الواقع الاجتماعيّ لبقية المذاهب والطوائف، إنّ النظر إلى العلويّين أو إلى غيرهم وفق مفاهيم “معاداة المجتمع السوريّ، والتواطؤ الجمعيّ، والتوافق المسبق المبيّت على أمر ما ..الخ”، إنّما يندرج في باب تلغيم المستقبل، شخصيّاً لا أرى أيّ جدوى سياسيّة يمكن أن تسوّغ قول مثل هذا الكلام، فضلاً عن أنّه تصوّر غير صحيح.

هذا لا ينفي أن يكون ثمّة لحظات تاريخيّة يتوافق فيها عموماً خط النسب الطائفيّ مع موقف سياسيّ ما، غير أنّ هذه لحظات عابرة لا تسوّغ الكلام عن أيّ طائفة ككتلة متمايزة كما لو أنّها حزب سياسيّ، في هذا تنميط لا يمكن أن يقول الحقيقة.

تبلور منذ وقت مبكر وعيّ عام لدى القطاع الأكبر من العلوييّن غير متعاطف أو معادٍ للثورة (أكرر: التي انتهت منذ أكثر من سنة إلى صراع على السلطة يتوسّل أيّ وسيلة ويخضع لسياسات غير سوريّة من جانبيه)، لكن يتعيّن علينا، إذا أردنا ألّا نستعجل الأحكام ونبتسر النتائج، أن نلتفت إلى جوانب مهمّة في سياق الصراع أظهر فيه العلويّون ما يخالف الصورة الإعلاميّة المروّجة في أوائل آب 2013 احتلت تنظيمات إسلاميّة مجموعة من قرى شمال اللاذقيّة وقتلوا مدنيين عزّل وخطفوا ما يزيد عن 150 بين طفل وامرأة واختطفوا شيخاً علويّاً، ثمّ عرضوا صورته على “النت” بطريقة استفزازيّة وهو يحمل آثار تعذيب ويظهر الدم على جلبابه الأبيض، ثمّ بعد يومين أظهروه مقتولاً ومرميّاً على الأرض، كانت صدمة كبيرة لا شكّ، ولكن رغم ذلك لم يحدث أيّ ردّ فعل طائفيّ مقابل، ولا يزال إلى اليوم أكثر من 55 مخطوفاً بين طفل وامرأة محتجزين لدى هذه التنظيمات.

لم ينزلق الساحل إلى عمليات قتل وخطف طائفيّ متبادل، كما جرى في حمص مثلاً، لاحظ أنّ مدن وبلدات الساحل اتسعت لمئات ألوف المدنيّين الفارين من مناطق الصراع العسكريّ في حلب وإدلب وحمص دون أن تحدث احتكاكات تذكر، هذا أمر يُبنى عليه في العلاقة الوطنيّة، مع ذلك تجد من يكتب في الصحف: إنّ أهل الساحل رحّبوا بالحلبيّين الفارين من القتال طمعاً بالمكاسب الاقتصاديّة، كما لو أنّ أهل الساحل كلّهم أرباب عمل يبحثون عن زبائن، أو أنّ كلّ الحلبيّين أصحاب ثروات ستنهض باقتصاد الساحل، يمكن للقراءة أن تشوّه أيّ واقعة، لكن حتّى الحوادث الطائفيّة يجب النظر إليها بعين وطنيّة، إذا أردنا التأسيس لمستقبل أفضل من حاضرنا.

السؤال الرابع: إذا كانت الأكثريّة الموضوعيّة هي من السنّة، فمن الطبيعيّ جداً، أن تكون نتائج ممارسات النظام على مدار أربعة عقود ونصف من التمييز والفساد والنهب والقمع، أن ينالها حصّة الأسد من هذه الممارسات، ما الذي عليهم أن تفعله الناس المحتجّة غير التظاهرات والشعب السوريّ واحد، والانتقال من المطالبة بإصلاح النظام إلى اسقاط النظام بشكل سلميّ، ما الذي كان يتوجّب عليها فعله؟ أن تتثقف علمانيّاً مثليّاً مثل آل الأسد؟

الجواب الرابع:

الاستبداد الأسديّ لم يوفّر أحداً على مدى سنين حكمه، لا عدوّ له سوى صاحب الرأي المستقل والنزوع الحرّ كائناً من كان، طالما أنت تحت إبطه فأنت مقبول أكنت يسارياًّ متطرّفاً أو ليبراليّاً، علمانيّاً أو قاعديّاً ..الخ، ولكنّه سيسحقّ أيّ نزوع استقلاليّ لديك حتّى لو كنت بعثيّاً، لم يقمع النظام السوريّ المستبد الثورة لأنّها اكتسبت لوناً إسلاميّاً مثلاً، لم يقمعها لأنّها خرجت من الجوامع، أو لأنّ صيحتها الغالبة كانت (الله أكبر)، أو لأنّ مشايخ سُنّة ساندوها وأفتوا لها ..الخ، قمعها لأنّها قوّة مستقلة خارجة عن سيطرته، وكان سيقمع أيّ مظاهرة حتّى لو كانت تهتف بحياة الأسد طالما أنّ هذه المظاهرة تخرج بشكل مستقل وليست من تنظيم وترتيب أجهزته الأمنيّة، لا يهمّ النظام المستبد أن يتثقف الجمهور علمانيّاً أم دينيّاً، ما يهمّه هو الخضوع ولا يهمّه وفق أيّ ثقافة يتمّ الخضوع، الاحتجاج والخروج من تحت السيطرة واكتساب مساحات حرّية مهما كانت ضيّقة، هو ما ينبغي على المقهورين عمله.

السؤال الخامس: كيف تقرأ دور إيران وأدواتها من جهة؟ ولماذا برأيك المجتمع الدوليّ لم يتدخل لحماية المدنيّين من جهة أخرى؟ لماذا ترك المجتمع الدوليّ إيران تشارك مع الأسد في قتل السوريّين دون تدخل؟

الجواب الخامس:

إيران تريد أن تنتزع دوراً إقليميّاً رئيسيّاً وهذا هو الموجه العام لسياستها، بدءاً بالملف النوويّ وصولاً إلى لبنان وغزّة وسوريّة، الغلاف الشيعيّ لا يعدو كونه غلافاً لسياسة دولة ذات وزن مهم في المنطقة.

أنا مقتنع بصحّة الرأي المتكرّر بأنّ المجتمع الدوليّ (أمريكا أساساً) لم يتدخل بشكل حاسم في سوريّة لكي يستنزف روسيا وإيران وأدواتها من جهة، ولكي يدمّر المجتمع السوريّ من جهة أخرى، أمريكا عملت ما يُبقي الصراع مشتعلاً ومضبوطاً ضمن الحدود السوريّة، وهذا يفسّر لماذا تركت أمريكا إيران وحزب الله وروسيا يتدخلون، ولكن دون أن ينتصروا، ودعمت المعارضة بحيث تبقى أيضاً، ولكن دون أن تنتصر.

السؤال السادس: بغضّ النظر عن ممارسات المعارضة كلّها، أين كان خطاب المعارضة طائفيّاً؟ أو إسلاميّاً حتّى بعد مرور أكثر من سنة ونيّف على الثورة؟ لا أتحدّث عن أفراد أتحدّث عن تيارات وتجمّعات المعارضة هيئة تنسيق مجلس وطنيّ وائتلاف؟

الجواب السادس:

الصبغة الإسلاميّة كانت حاضرة منذ البداية وكانت تزداد وضوحاً خلال الفترة التي تشير إليها في السؤال، صفحة الثورة السوريّة ضدّ بشار الأسد كانت ذات رائحة إسلاميّة واضحة وكانت الصفحة الأكثر شعبيّة، والصفحة التي تحدّد أسماء الجُمع التي تحمل إيحاءات طائفيّة مثل جمعة الشيخ صالح العلي (أشراف العلويّين) في 17 حزيران 2011، وجمعة (أحفاد خالد) في 22 تموز 2011، وجمعة (الله أكبر) في 4 تشرين الثاني 2011، ثمّ جمعة (إن تنصروا الله ينصركم) في 6 كانون الثاني 2012.

التيارات والتجمّعات المعارضة كان يتحدّث باسمها أفراد، وقد كانوا في الغالب ضعيفين في أدائهم إلى حدّ مخجل أحياناً، هدروا مصداقيتهم بسرعة فائقة حتّى استووا مع النظام على مستوى واحد من الكذب، فساعدوا النظام بذلك على تمرير سياسة تشويه الحراك وزرع الشكوك في كلّ شيء.

السؤال السابع: كيف ترى دخول القاعدة إلى سوريّة وداعش، خاصّة وأنّه الآن صدر قرار من مجلس الأمن 2170 ينذر بالتدخل ضدّ داعش وجبهة النصرة؟ لماذا دخلت بقوة وتمدّدت عسكريّاً بسرعة البرق؟ ولماذا لم تهاجم داعش حتّى اللحظة قوات الأسد؟

الجواب السابع:

بعد أقلّ من سنة على انطلاق الثورة توفّر للتنظيمات القاعديّة شروط موضوعيّة مثاليّة في سوريّة، الشرط الأوّل: هو تطابق خطوط الانقسام الطائفيّ مع خطوط الانقسام السياسيّ، حيث ظهر على السطح أنّ إيران (الشيعيّة) تناصر النظام (العلويّ) فيما تقف الأنظمة الإقليميّة (السنّيّة) (قطر، السعوديّة، تركيا) مع الثورة التي كان متنها الأساسيّ (سنيّ)، الشرط الثاني: هو الموقف الدوليّ المتساهل ورّبما الداعم لهذا التدخل، الشرط الثالث: هو شدّة القمع والإجرام الذي مارسه النظام وجعل جمهور الثورة في حالة قنوط تجعله يقبل بالشيطان ضدّ هذا النظام، في هذه الشروط دخلت القاعدة واضطرب موقف المجلس الوطنيّ، ثمّ الائتلاف في تقييم دخولها وتحديد الموقف منه.

القوة العسكريّة لهذه التنظيمات وسرعة انتشارها توحي بتواطؤ دول وأجهزة استخبارات قويّة. لا يمكن لأحد أن يستوعب هذا التحوّل المتسارع ما لم يضع في الحسبان وجود دعم خفيّ تقدمه دول كبرى. والهدف من هذا الدعم هو بشكل عام تسخين المنطقة بحيث تصبح أكثر قابليّة لإعادة الصياغة وفق مصالح هذه الدول الكبرى، تماماً كما يُحمّى الحديد كي يسهل طرقه.

أمّا لماذا لم تهاجم داعش قوات الأسد ولم تهاجم هذه داعش، فهذا برأيي جزء من تفاهمات ضمنيّة أو فعليّة يحقّق فيها كلّ طرف مصلحته، مصلحة التنظيمات القاعديّة في مثل هذا الاتفاق هي أن تتمدد وتكتسب المزيد من الجغرافيا، ومصلحة النظام هي أن تسود الراية السوداء على الحراك السوريّ فيشوّه الحراك ويخلط الحقّ بالباطل ويُبعد الجمهور السوريّ _ بما في ذلك الجمهور السنّي _ عن الحراك ويحرج الجهات الداعمة له، كما يريد النظام من ذلك أن يبدو في موقع المهدد بالإرهاب فيصبح شريكاً في مكافحة الإرهاب (كما قال الجعفري في سياق تبنّي القرار 2170)، وليس في موقع النظام الديكتاتوريّ الذي يقمع ثورة تحرّر.

السؤال الثامن: أعود للتيار الذي يُسمّي نفسه بالعلمانيّ، بالعموم كان نموذجاً كارهاً ليس للدين بل للإسلام السنّيّ تحديداً، لاحظ معظم الكتابات تتناول السنّة، تمنيت فعلاً أن يكون قدوة ويتحدّث عن طائفته ودينه وموقفه لا أريد من النظام، بل على الأقلّ أن يأخذ موقفاً حقيقيّاً من الظلم والقتل الذي وقع على هذه الأكثريّة الموضوعيّة، التي لا يوجد لها لا قيادة دينيّة ولا قيادة سياسيّة موحّدة، لأنّها ليست طائفة بالمعنى التقليديّ للكلمة، ولأنّه لا يوجد لدى السنّة كهنوت دينيّ كما في المسيحيّة والشيعة والدروز، حيث أكبر شيخ أو عالم دين “سنّيّ” تجد من يشتمه أكثر ممّن يحترمه من السنّة، وأكثر رمز سياسيّ “سنّيّ” بين قوسين يتعرّض للنقد والتشهير من “السنّة” في سوريّة طبعاً أكثر، ممّا يتعرّض له من مكوّنات أخرى. لماذا الإصرار على التعامل مع هذه الأكثريّة الموضوعيّة عدداً على أنّها طائفة وهي مَن قادت تخويف الأقليات، رغم أنّ السنّة حتّى اللحظة انقسموا عموديّاً منهم كتلة مهمّة مع الأسد؟ بينما العكس غير صحيح، لا أفهم في الواقع برأيك هل يمكن فصل هذه العلمانيّة عن موقفها من المسألة الطائفيّة؟

الجواب الثامن:

هناك أمر يحتاج إلى توضيح في هذا الخصوص، الإسلام السنّيّ هو المذهب الوحيد في سوريّة الذي تنبثق منه حركات سياسيّة تسعى أن تستمدّ شرعيتها وأحقيّتها من مذهبيّتها، كلّ مَن هو خارج الإسلام السنّيّ في نظرها هو آخر (كافر أو ذمي)، ليس فقط مذهبيّاً ودينياًّ بل وسياسيّاً أيضاً، وقد كان الإسلام السنّيّ مصدر حركات سياسيّة (عنيفة غالباً) وعابرة للأوطان، حركات تختفي الحدود السياسيّة من مجالها البصريّ لتحلّ محلها حدود اجتماعيّة مذهبيّة تقسم الناس على أسس دينيّة، هذه ظاهرة تفجّر فكرة الدولة الحديثة ولا تحمل في طياتها أيّ مشروع إنسانيّ، لذلك شكّلت هذه الحركات في تاريخنا المعاصر عبئاً أخلاقيّاً على أهل السنّة وولّدت “إحباطاً سنيّاً”، من المحبط للجمهور السنّيّ العريض أن يدّعي تمثيله على الساحة السياسيّة أمثال “بن لادن، والزرقاويّ، وشاكر العبسيّ، وأحمد الأسير”، وأمراء الجماعات القاعديّة الجُدد بأسمائهم الغريبة عن العصر وأفكارهم المتخلّفة وأفعالهم الوحشيّة، وهم يتحدثون على أنّهم ممثلو الإسلام السنّيّ.

لا شيء من هذا لدى المذاهب أو الأديان الأخرى، ربّما بسبب أقليّتها العدديّة، وربّما بسبب باطنيتها المذهبيّة، لكن ليس هذا هو المهم، المهم هو أنّ هذه المذاهب أو الأديان لا تقتحم السياسة “بهدي” من مذاهبها أو أديانها (حتّى الآن على الأقل)، ولا تنظر إلى المذاهب الأخرى على أنّها (آخر) سياسيّاً، من هنا يمكننا فهم أنّ “معظم كتابات العلمانيّين تتناول السنّة”، هذا ليس كرهاً بالإسلام السنّيّ، يمكن أن يكون هناك “علمانيّون” يكرهون الإسلام السنّيّ، ويمكن أن يكون هؤلاء العلمانيّون من المذهب السنّيّ عينه في سجلّات النفوس، لكن هذا لا ينبغي أن ينصرف إلى القول إنّ العلمانيّة معادية أو كارهة للإسلام السنّيّ.

أتكلم عن العلمانيّة كما أفهمها، ليس بمعنى العداء للدين كما فهمت في الاتحاد السوفياتيّ سابقاً، بل بمعنى إعلاء الرابطة الوطنيّة سياسيّاً فوق الروابط المذهبيّة والدينيّة، وهذا هو بالضبط ما فعله الرسول محمّد وكان في أساس ثورته، حين رفع الانتماء إلى الإسلام فوق الانتماءات القبليّة العديدة دون أن يعادي هذه الانتماءات أو يدخل في صدام معها.

ولكن هناك “علمانيّون” يستخدمون فكرة العلمانيّة كما يستخدمون التدين ويستخدمون النزعة القوميّة والوطنيّة وفكرة المقاومة فقط للدفاع عن استمراريّة النظام السوريّ، الدفاع عن مصدر نهبهم وامتيازاتهم هو المحرّك الأساسيّ لأفكارهم، هؤلاء جاهزون لأن يكونوا شديدي العلمانيّة وشديدي الطائفيّة في الوقت نفسه، هؤلاء ليسوا كارهين للسنّة فقط، إنّهم كارهون لكلّ ما يعيق تدفق امتيازاتهم ونهبهم، هذا النمط من “العلمانيّين” لا يصعب تمييزهم.

السؤال التاسع: سوريّة إلى أين؟ وفقاً لواقع اللحظة المتحرّكة الآن.

الجواب التاسع:

لا أحد يمكنه أن يحدّد إلى أين تتجه سوريّة بالضبط، غير أنّي أقول: إنّ حكم آل الأسد انتهى، كما انتهى حكم صدام حسين بعد حرب الخليج الثانية والانتفاضة “الشعبانيّة” في الجنوب وانتفاضة الأكراد في الشمال، إذا خرجت سوريّة موحدة من هذا الصراع، فإنّ زمن الحكم العائليّ فيها يكون قد ولّى إلى غير رجعة، وهذا إنجاز تحقّق للتوّ جرّاء ثورة السوريّين ورغم أنف المستبدين “العلمانيّين” والدينيّين الجُدد.

السؤال العاشر: ما الذي على المعارضة فعله الآن برأيك؟

الجواب العاشر:

الاختلالات التي اعترت المعارضة السوريّة على مدى زمن الثورة هي ثلاثة رئيسة:

  1. التشرذم، كان لوحدة المعارضة السوريّة أن تزعزع أركان النظام وتخلخل المرتكزات السياسيّة لداعميه الخارجيين، بصرف النظر عن السياسة التي تتبناها المعارضة الموحدة، أكان خط المجلس الوطنيّ أو خط هيئة التنسيق.
  2. التبعيّة، الخضوع لسياسات ولغة الداعمين من الدول الخليجيّة وغيرها.
  3. عدم وضوح الموقف من الجماعات الدينيّة، راهنت المعارضة السوريّة التي كانت غايتها التحرّر من الاستبداد وبناء دولة مدنيّة ديموقراطيّة حديثة، على الاستفادة من قوة التيار الدينيّ في إسقاط نظام الأسد، ممّا جعل المعارضة متردّدة ومائعة في تحديد موقف من الجماعات الدينيّة، وهذا ما أرهق المعارضة سياسيّاً وحمّلها جزءاً من مسؤوليّة تمدّد هذه الجماعات وحمّلها أيضاً مسؤوليّة ما تقدم عليه من أعمال شنيعة شوهت وجه الثورة.

بعد أن جرى ماء كثير من تحت الجسر، وترتبت على تلك الاختلالات نتائج مدمّرة، لا أعتقد أنّ هناك جدوى من أيّ نصح للمعارضة، يبدو لي اليوم أنّ مفتاح الموضوع السوريّ بات في يد الخارج، ما ينبغي على المعارضة السوريّة أن تفعله هو أن تتوحد على خط عام وتبني وزنها على أرضيّة من الثقة والمصداقيّة دون أن تغريها الطاقة الكامنة في أيّ مشاعر تعصبيّة من أيّ نوع.

تعليق أخير:

دكتور راتب لمستُ خلطاً لديكم بين أن يكون النظام علويّ وبين كونه نظاماً طائفيّاً، وكان الصديق “ياسين الحاج صالح” قد بحث في هذا التمييز بشكل معمّق، بالتالي جزء لا بأس به من إجاباتك جاءت، وكأنّني أتحدث عن النظام بوصفه نظاماً علويّاً. وهذا غير صحيح، هذه نقطة أولى والنقطة الأخرى القول: بعدم التعامل مع المكوّنات المجتمعيّة بوصفها كتل جوهرانيّة قارّة، قول صحيح نظريّاً وايديولوجيّاً، لكنّها في لحظة الصراع السياسيّ كثيراً ما تكون كذلك، لأنّها في خضمّ الصراع السياسيّ تصطف، وأنت قد لمّحت لهذا الأمر، باعتقادي هذا الاصطفاف لم يكن وليد خوف من السنّة، ولم يكن خوفاً من المستقبل وإن وجد، لكنّه عامل ثانويّ، أظنّ الموضوع مصلحة انبنتْ على التمييز الطائفيّ، ألم يكن الأسد ربّ عمل للطائفة؟ ما يصحّ لأبناء الطائفة من وظائف مهما كانت صغيرة التأثير وضعيفة الدخل، لكنّها لا تصحّ لأبناء المكوّنات الأخرى، هذا ما قصدته عندما قلت ربّ عمل، أشرت إلى أنّ السرّانيّة هي التي تمنع قيام تنظيمات سياسيّة طائفيّة لدى الطائفة العلويّة، هذه النقطة عادة ما يتمّ تجاهلها وتجاهل تأثيراتها على مجريات الحدث السوريّ، لدى كلّ الطوائف تمثيل دينيّ وربّما تحت هذا الغطاء يكون سياسيّ، إلا الطائفة العلويّة، مثال: مكتب “الآغا خان” في سلمية، ومشايخ العقل في الطائفة الدرزيّة، معروفين وعلنيّين، إلا الطائفة العلويّة ليس لديها أي ترتيب مؤسّساتي من هذا القبيل، أظنّ السرّانيّة لماذا توضّعت كذلك لدى الطائفة، لو لم يصبح آل الأسد هم الممثّل في كلّ شيء؟ أليست تلك الطوائف شرانيّة أيضاً، ثمّ قبل الأسد ألم يكن هنالك حضور لفعاليات دينيّة وسياسيّة تلعب دوراً تمثيليّاً إلى حدّ ما “آل الأحمد، آل العباس، آل كنج، مشايخ مستقلون ..الخ”؟ في النهاية القول إنّ السنّة لا يصدر عنهم سوى تنظيمات ذات مسوح إسلامويّ منفّر للأقليات، قول رغم ما فيه من صحة، فيه من مغالطة تحجب حقيقة أنّ السنّة لديهم امتناع عن أن يكونوا طائفة، لهذا كلّ تلك المحاولات لا تصمد أمام قيام أحزاب وطنيّة عمادها الأكثرية الموضوعيّة، وهذا ما كانت عليه الحال حتّى مجيء البعث، في النهاية أردت أحياناً أن أقوم بدور الشيطان، وأحياناً أقوم بدور المحاور الفعليّ، لكنّي متيقن تماماً أنّنا نمشي في نفس الطريق، نحو سوريّة لكلّ مواطنيها وحريّتهم. أشكرك صديقي.

تعليق على التعليق الأخير:

شخصيّاً لم أتمكن من إدراك هذا الفارق النظريّ الذي تشير إليه بين أن يكون النظام السوريّ طائفيّاً وأن يكون علويّاً، النظام الطائفيّ في لبنان هو نظام طوائفيّ إن صحّ القول، يعني تقاسم طائفيّ للسلطة بحيث يصعب القول إنّه نظام ماروني مثلاً أو سنّي أو شيعيّ..الخ. أمّا في سوريّة فليس الوضع على هذه الشاكلة، كيف لا تريدني أن أفهم أنّك لا تقصد أنّ النظام السوريّ هو نظام علويّ، وأنت ترى أنّ العلويّين يدافعون عن مصلحتهم في “التمييز الطائفيّ”، وأنّ ما يصح لهم “من وظائف مهما كانت صغيرة التأثير وضعيفة الدخل لكنّها لا تصحّ لأبناء المكوّنات الأخرى”، وأنّ الأسد هو بالنسبة لهم ربّ دينيّ وسياسيّ وربّ عمل؟ ألا ينتهي كلامك إلى القول: إنّ هذا النظام “نظامهم”، وإنّهم يدافعون عنه للحفاظ على مكاسبهم وامتيازاتهم؟ سبق لي أن ناقشت الصديق “ياسين” في مقال (“في موضوع الطائفيّة في سوريّة”، ملحق النهار، 17/3/2012) بشأن هذه الفكرة ولم يكن عرضه ولا دفاعه مقنعاً لي على الأقلّ.

هناك نقطة عمياء في فهم كثير من المثقّفين الاختزاليّين أو “النيرانيين” لعلاقة النظام السوريّ بالعلويّين، ربّما حققّ حافظ الأسد في بلوغه منصب رئيس الجمهوريّة نوعاً من الاعتبار للعلويّين الذين عانوا طويلاً من عدم الاعتراف وقلّة الاعتبار، وصحيح أنّ الأسد الأب استند إلى العنصر العلويّ أكثر في المجال الأمنيّ والعسكريّ وأنّ الكثير من الضبّاط العلويّين كسبوا أموالاً طائلة بفعل الفساد الذي أتاحته لهم مناصبهم الأمنيّة، لكنّ غالبيّة العناصر في الجيش والأمن ممّن لا يُتاح لهم الكسب بالفساد يعيشون من رواتب بائسة، وغالبيّة العلويّين لم يستوعبهم لا الجيش ولا الأجهزة الأمنيّة (هذا إذا اعتبرنا العمل في الجيش والأمن امتيازاً، وبالمناسبة كان من الملحوظ لنا ونحن في سجن تدمر العسكريّ أنّ عناصر الحراسة كانوا من ثلاثة مصادر رئيسيّة: علويّون، أكراد، بدو، أو ما يسمونهم بالعاميّة “شوايا”، على أنّ الرقباء كانوا علويّين بالكامل حسب ذاكرتي). أقصد إنّ الأسد لم ينهض بالعلويّين نهوضاً اقتصاديّاً مميّزاً، وتشير الدراسات الاقتصاديّة إلى أنّ الأموال العامّة المخصّصة لمحافظة اللاذقيّة هي من بين أدنى المخصّصات نسبيّاً، وأنّ نسبة الفقر في اللاذقيّة هي من بين النسب العليا في سوريّة، الحقيقة إنّ النظام السوريّ لا يستثمر في تميّز العلويّين بل في خوفهم، تماماً على عكس ما تذهب إليه صديقي، وهذا ما يفسّر عمل النظام في تغذية التنظيمات السنّيّة المتشدّدة التي ترفع الصوت “بإبادة النصيريّة”. في الواقع ليس لدى العلويّين أيّ تميز اقتصاديّ يدافعون عنه، إنّهم بتصورهم إنّما يدافعون عن بقائهم ويخشون أن يعود بهم الزمن إلى التهميش والاضطهاد، في هذه النقطة بالذات يستثمر نظام الأسد، وهذه النقطة هي ما يفسّر لنا التكتل العلويّ وراء النظام رغم أنّ 44% منهم يرى أنّه بحاجة إلى تغيير.

مع وصول الأسد إلى الحكم بدأ في تفخيخ أيّ مركز جامع للعلويّين، لكيلا يواجه في لحظة ما “سيستاني” علويّ يضع حدّاً لنفوذه بين العلويّين، وقد فكّك بالفعل ما يمكن أن أسميه التمركز الدينيّ العلويّ، لكن هذا لا يعني أنّه أصبح مركزاً دينيّاً لهم، أو “ممثلاً لهم في كلّ شيء”. لا يحوز الأسد _ ولاسيما الابن _ في الوسط العلويّ على اعتبار يجعله رمزاً، واللافت أنّ أكثر الناس نفوذاً وعلوّاً على القانون، أقصد “كبار الشبّيحة”، هم أكثر الناس استخفافاً بالأسد، على عكس ما يتصوّر المرء، وهم يعلمون جيّداً موقعهم في المعادلة السوريّة ويتعاملون مع الأسد على أنّه وسيلة، كما هو يتوسّل لهم فإنّهم يتوسّلون له، توسّل متبادل فارغ من أيّ أوهام عظمة أو اعتبارات ما فوق سياسيّة.

أخيراً، أنا لم أقل إنّ (السنّة لا يصدر عنهم سوى تنظيمات ذات مسوح إسلاموي منفّر للأقليات) أبداً، وكيف لي أن أقول هذا القول الذي يكذبه الواقع ليل نهار. لا يا صديقي، أنا قلت إنّ السنّة هم في سوريّة المصدر الوحيد للتنظيمات التي تستمدّ شرعيّتها من مذهبيتها، الأمر الذي يضع بقية المذاهب والأديان خارج قوس (الاعتبار)، لكنّ السنّة هم مادة الشعب السوريّ الأساسيّة، ورائحته الوطنيّة ولا يستقرّ أو يثمر حال ينظر إلى السنّة كطائفة، كما لا تقوم لسوريّة قائمة إذا أدرك السنّة أنفسهم على أنّهم طائفة.

السؤال الأخير: أتركه لكلمة أخيرة لك دكتور راتب شعبو؟

كلمة أخيرة: يقول راتب: التعثّر والانتكاس تربة خصبة للخلافات الجزئيّة وإطلاق الأحكام المتسرّعة والاتهامات المتبادلة، هذا ما نحن فيه اليوم، جيّد أن يبحث أحدنا عن سوء تقديراته بدلاً من انشغاله في اكتشاف استشرافاته الخاصّة وضلالات الآخرين.

http://newspaper.allsyrians.org/?p=1753

كلنا سوريون

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى