صفحات الحوار

حوار مع سمر يزبك: عن الفعل السياسي الممكن

 

 

نائلة منصور

لماذا هذا الصمت منذ ثلاث سنوات؟

الأسباب معقدة ومتداخلة بين الشخصي والعام وتنظيم قوة عملي، وهنالك المرض كذلك. كنتُ بصدد تأسيس وإنجاز مشروعٍ مؤسساتي مدني، وكنت منشغلةً به تماماً، أسّست المشروع مع فريقٍ من النساء، كانت تجربة مهمةً لنا معاً، لأننا حاولنا صناعة فريق ديمقراطي، والغوص في أوحال هذا التفتت الأخلاقي الكبير، وقد مررنا بتجارب تدعو للتفاؤل والاستمرار بالعمل والإصرار عليه، وكان لنا تجارب تحاكي هذا الخراب، لكن الفريق كان مصرّاً على متابعة العمل بنزاهة وبأقل أضرارٍ مكلفةٍ لنا ولغيرنا. هذا تطلب كثيراً من الجهد العصبي والنفسي، نحن مجموعة نساء حاولنا إيجاد صيغة ديمقراطية في عملنا بعيداً عن إعادة سيرة الاستبداد، لتشكيل رؤية جديدة في العلاقة مع العمل بالشأن العام، لإعادة الثقة بروح العمل الجماعي وتفعيل المبادرات الايجابية. كما أنني كنتُ أتنقل وأسافر وأحاضر للحديث عن القضية السورية، كنت أفكر أنه من المهم فعلاً أن نخاطب المؤسسات الإعلامية الغربية والتجمعات السياسية والمدنية والثقافية الغربية تحديداً، كما أنني انشغلتُ بتسجيل شهاداتٍ لمقاتلين وناشطين سوريين في الشمال وفي الشتات، كانت شهادات كثيفة وكبيرة وكنت بحاجة لتفريغها وإخراجها في كتاب، وكان إنجاز هذا الكتاب من أكثر المهام إيلاماً في حياتي. بعد انتهائي من بوابات أرض العدم، جاءت فترة المرض والاضطرار للعلاج. كانت مرحلةً مرهقة ولكنها مفيدة، رجعتُ للقراءة ولتنظيم ما بداخلي. في تلك الأثناء كنت أكتب لعدة جرائد ومجلات أوروبية عن القضية السورية، وفي خضمّ كل ذلك وجدت نفسي أشرع بكتابة رواية، وقد أنهيتها للتو فقط.

الصراع العنيف الذي شهدناه، صراع الهمجيات الموجودة ضمنه ثورة شعب عظيم، كان زلزالاً. جحيماً! ومؤخراً وجدت لغتي عاجزة أمامه. هناك مسألة أخرى وهي أنني لا أشعر بالحاجة لإعلان مواقفي وهويتي السياسية مراراً، أو لتبرير شيءٍ ما. ولا بد لي أن أقول إن هناك قفزةً نوعية في حياتي وطبيعة علاقتي بالعالم، حدثت إعادة صوغٍ لهذه العلاقة، ثم إنني بالنهاية كاتبة، أفضّل أن أبقى كاتبة ضمن هامشي الذي أحلم به وهو ما أسعى للعودة إليه، ما تصفه فرجينيا وولف بـ«غرفة واحدة للكتابة». كما أني أحاول وضع خططٍ لشغلي، فأبتعد عن وسائل التواصل الاجتماعي لفترات، وأنظم آلية الإنجاز. أرى فعل العمل والإنجاز جزءاً من تراكم معرفةٍ ما، والمعرفة مقاومة للكراهية لأنها تُفسر الأشياء وتفككها. وهذا ما نحتاجه وهو الغاية التي نسعى اليها كبشر على مر التاريخ، وهو أن تكون احتمالية العيش الكريم والحر والعادل بين الناس المختلفين واردة، وممكنة وبأقل الخسائر.

يبدو مما تقولينه أنكِ، وبشكل عفوي، تحاولين الحفاظ على فرديتك أو موقعك ككاتبة، والراصد يشعر أنك امتنعتِ عن العمل السياسي أو الظهور ضمن هيئات، رفضتِ أن تكوني ممثلة أو أن تكوني ضمن هيئة تمثيلية للمعارضة السورية مع أنه عُرض عليك ذلك. هذا التعفف يدفعنا لنسألك عن تعريفك للعمل والفعل السياسي، ولماذا لم تكوني ضمن أي هيئة سياسية؟

أنا لست شخصية اجتماعية، ونزقةٌ بعض الشيء، وهو ما لا يتلاءم مع العمل السياسي. لي هويات متعددة، ولكن ليس من بينها العمل السياسي بالمعنى التقليدي للكلمة، ارتأيتُ أن الفعل السياسي الأجدى حالياً هو «تعبئة الفراغ»، من خلال المشروع المؤسساتي الميداني الذي أخبرتك عنه، وهو أنه يمكننا اختراع السياسة من قلب العنف، وتأهيل كوادر موجودة على الأرض في الداخل، أو في مجتمعات اللجوء، لتستمر بالمقاومة حتى لا نجد أنفسنا في فراغ مطلق حين تتوقف الحرب. هذه الكوادر ستكون قادرة، إن استمرينا في دعمها، على قيادة المجتمع وإحداث التغيير المطلوب، وتسمح لنا بأن نفعّل نواة مؤسسات تنموية وثقافية، وأن نملأ الفراغ القادم، الفراغ كأحد أشكال العدم الذي كنت أراه منذ أكثر من ثلاث سنوات. أنا أرى نفسي في هذا المشروع، كما أن لدي هاجساً وهو أن الغرب يسعى لاستخدامنا، مؤسسات المعارضة والمؤسسات الدولية التي تتلاعب بمصير السوريين تريد استخدامنا. للعمل السياسي والديبلوماسي ناسه، أنا لست منهم، أنا مؤمنةٌ بدوري الثقافي والإعلامي والتنموي كفعلٍ سياسي.

عندما تتحدثين عن الثورة والعمل إلخ. تستخدمين الضمير «نحن»، كيف تعرّفين الـ«نحن»؟ بعبارة أخرى، ما هو وعيكِ لانتمائك؟ أو كيف تعرّفين نفسك سياسياً ضمن هوياتك المتعددة؟

نحن الذين مازال صراعنا مع الأسد صراعاً وطنياً منذ أول لحظة في الثورة، وصراعنا مع داعش وجبهة النصرة والكتائب الجهادية، وكل أولئك الذين خطفوا صراعنا. نحن فريقٌ ثالثٌ ضعيفٌ جداً.

هل يمكنك أن تعطي تعريفاً لهذا الفريق؟ تعريفاً اجتماعياً اقتصادياً سياسياً، هل يمكنك أن تعطي ملمحاً ما لذلك الفريق؟

لا ملامح! وهذا الخطير في الموضوع، هو ليس كتلةً متماسكة، هو مجموعة نقاط وكتل صغيرة ولكنها ليست متشابكة بما يكفي، وأعتقد أن هذا الفريق سيبقى على هذه الحالة من التشرذم لفترة طويلة. لا يمكن إعطاء تعريفٍ الآن للكتل البشرية بشكلٍ واضح، هي متغيرة ومتبدلة ومنزاحة. إننا نتحدث عن حربٍ لم تتوقف منذ خمس سنوات، عن زلزالٍ لم يتوقف.

فمن أين أتته مقولة «الصراع الوطني» إذن؟ لا بد أن هناك موقعاً سياسياً جامعاً أو سرديةً ما!

الأساس في الموضوع هو ثوابت انطلقت منها حركة الاحتجاج السلمي، مطالب أساسية خرج الناس إلى الشارع من أجلها في البداية، بسبب تلك الثوابت أقول إننا أصحاب صراع وطني، على الخط الزمني للثورة أنا مازلت أرنو إلى تلك النقطة التي بدأت منها حركة الاحتجاج الشعبي، هي ثوابتي أنا. أما الـ«نحن» فهي مشرذمة في هذا الزلزال المتحرك الذي يهزنا معه. أن نسمي ذاتاً جمعية جامعة فهذا صعب حالياً، هناك عوائق كثيرة وتحتاج لكثيرٍ من الزمن حتى نتمكن من تشكيل كتلة واحدة. قد يتمكن أولادنا أو ربما أحفادنا من ذلك.

سأطرح السؤال بطريقة مختلفة، فالجواب مهم لكثيرٍ من الفئات السورية التي قد تكون أكبر مما يُعتقد: لماذا غيّر الزلزال المتحرك ثوابت كثيرٍ من السوريين، ولم يغيّر ثوابت الفريق الذي تتحدثين عنه؟

أعتقدُ أن ما تعرّض له الناس من إجرامٍ وعنفٍ طويل يكفي لتحويلهم إلى وحوش، مع أن هذا لم يحصل دائماً. وهو ما أثبتته جماعاتٌ من الشعب السوري، وما حصل مؤخراً أثناء الأيام القليلة للهدنة، حين عاد السوريون للاحتجاج وتخلّوا عن العلم الأسود، ورفعوا علم الثورة. أنا أرى حركة التاريخ ضمن سياقها الزمني وضمن حركة الجماعات البشرية، وضمن ظروف صناعة العنف نفسها. أولئك الناس لم يستسلموا لردود أفعالٍ وحسب، لقد تمت صناعة ظروف جديدة في حياتهم، اُدخلت تلك الظروف على حياتهم. شروط العنف لم تكن عفوية، سواء بتسليح المجموعات الإسلامية، أو بإدخال المهاجرين إلى سوريا أو بإفقار مجموعات الجيش الحر واغتيال قادتها الكبار، أو بخارطة توزيع الكتائب الإسلامية أو داعش أو الحركات التي أصبحت مجهولةً بالنسبة لي، وأعتقد أنها مجهولة بالنسبة إلى كثيرين وتسودها الفوضى والارتزاق. كما أن المناخ كان ملائماً بعد نصف قرن من استبداد حكم آل الأسد، والعنف الوحشي غير المسبوق الذي تعرض له الشعب السوري.

من الواضح أن ما حصل لم يتبع حركة تطور طبيعي للاحتجاج الذي بدأ، لقد حصل تدخلٌ ما لحرفه عن مساره، هناك تدخلٌ دولي إقليمي قد حصل، تحدده أجهزة المخابرات وقد نعرفه لاحقاً في التاريخ القادم. نحن حالياً ضمن الحدث. ما أردتُ قوله هو أن الناس منزاحة الدواخل الآن وليست منقلبة، لأن الشرط الإنساني الحالي شرطٌ وحشي. قد يتغير الناس لأن زمناً طويلاً قد مرّ، وقد يكون من الصعب بناء أجيال جديدة بناءً صحيّاً على المدى المنظور. الانزياحات التي حصلت، لها علاقة بمصالح دول كبرى، جعلت من الأسد اليد الطولى لصناعة الخراب السوري، بمساعدة إيران وروسيا وتحت غطاء أمريكي غربي. سوريا بعد الاستقلال كانت دولة ناشئة من الممكن أن تتحول إلى دولة ديمقراطية، ولكنها خُنقت بعد انقلابات عسكرية متتالية ومن بعدها انقلابٌ بعثي، ومن ثم أخيراً انقلاب الأسد الأب العسكري. نرى بذلك الانهيار المستمر والدرك الذي وصلنا إليه، ونرى العنف الطائفي الذي انفجر، ونرى لماذا لم نستطع، نحن أصحاب الصراع الوطني مع الأسد، أن نكون يداً واحدة، نرى لماذا لم يستطع مثقفونا أن يشكّلوا، كما شكّل المثقفون الألمان أثناء الحرب العالمية، جدارَ حمايةٍ لعملية التغيير، نرى كيف سلختنا ومزقتنا آلة العنف المسننة الشفرات، في علاقاتنا الإنسانية. هذه الذات الجمعية التي يحثني سؤالك أن أحددها غير موجودة، هي ممزقة.

أي أن الفريق المذكور، بثباته على مقولة «الصراع الوطني»، هو لم يخضع للشرط الإنساني نفسه، وهذا ما قد يكون سبب شرذمتنا، أننا لسنا خاضعين لشرط العنف، هل يعني هذا يعني أن هذا الفريق غير قادرٍ على تعريف نفسه سياسياً الآن؟

من المؤكد أننا لم نخضع لشرط العنف نفسه، وما نالنا من عنف، مع أنه نالنا، هو أقل بكثير، لأننا بالنهاية نجونا وعشنا، وهذا مهم. من الضروري أن يعيش أحدٌ ما ويتابع، نحن نجونا لنكون جسوراً ممتدة، شهوداً على هذه الجريمة الإنسانية التي راقبها العالم، ولايزال يراقبها. أستيقظ كل يوم صباحاً وأتساءل كيف يمكن للشمس أن تشرق من جديد؟ كيف؟ وكل هؤلاء الذين ماتوا؟ وكل الضحايا الذين أتنفسهم من حنجرتي؟ كيف يمكن أن نبقى جسوراً ممتدة؟ هذا يحتاج كثيراً من الصلابة، وأنا ضمن هوياتي المتعددة، أحمل كثيراً من الصلابة، ولكن كثيراً من الهشاشة أيضاً. الاشتغالُ على مدّ الجسور قد يشبه أحياناً الموت البطيء، هذا ينطبق على كل شيء، الحب، الصداقة، العلاقة بسوريا، العلاقة بالغرب الذي يحاول استخدامنا أحياناً ويسعى لتحويلنا إلى أداة، كيف يمكن أن أقاوم؟ كيف يمكنني أن أبقى على هامش الحلم بأن أكون كاتبة؟ حين تتمُ محاولة استخدامي وأنا أعرّف نفسي ككائن مختلف عن تلك الأطر الضيقة، ودور المثقف في رأيي أن ينمّي ويطور نفسه وينمّي دفاعاته ضد القبح وأشكاله، من الأسد إلى الكتائب المسلحة المتطرفة، وصولاً إلى محاولات الغرب الرثّة لاستخدامنا، أو العنف الموجه إلينا من ضفتنا نفسها.

كتلةٌ كبيرة من السوريين تريد العيش بأمان، وتريد التخلص من الأسد ونظامه. العدالةُ أن نضع أنفسنا مكانهم وضمن الشرط نفسه، ونحاسب أنفسنا على أساس ذلك الشرط. من هنا تبدأ الذات الجمعية، ومن هنا أشعرُ أيضاً أننا نقلّ، نحن الذين لم ننجر وراء مصالح أو وراء خطابٍ طائفي، نحن نقلّ عدداً، نُقتل (حتى معنوياً) أو نُختطف أو نُغيّب أو ننزوي بعيداً خشية الانغماس في الأوساخ. هذا السؤال الكبير: من «نحن»؟ أنا لا أجرؤ على طرحه الآن، وبدلاً من ذلك أحاول تفتيت الشر نقطةً نقطة، دون التفكير بالكليات.

المتتبع لسيرورتك، يلحظُ أن هناك حرصاً دائماً على تثبيت مواقف أخلاقية. هناك اتساقٌ بطبيعة العمل وكميته، هناك حذرٌ من المشاركة السياسية وهناك حرصٌ على الخطاب الوطني، وهناك الحرص على التفرد ككاتبة، لم تنغمس تماماً بواقع الحال وما زالت تكتب وموجودة، هل كنتِ تَعينَ مسبقاً أنه يمكن أن تكوني أمثولة؟ أم أن كل شيء جاء بمحض الصدفة؟

أنا لست أمثولة ولا أصلح أن أكون أمثولة، لا في حياتي الشخصية ولا في الحياة العامة. كل ما في الأمر أني امرأة رافضة لكل أشكال المؤسسات القامعة والمنافقة، اقتلعتُ نفسي من جذوري، لأول مرة هنا في المنفى أشعر أنني أُقتلع من شيءٍ لم أكن أرغب أن أُقتلع منه. اقتلعتُ نفسي من مؤسسة العائلة إلى الزواج ومن مؤسسات الدوائر الاجتماعية والثقافية، وغالباً كانت تدور حولي معارك صغيرة دون أن أكترث لنتائجها، أحياناً لا أعرف كيف أتصرف اتجاه المعارك التي تدور حولي وعني. كيف يمكن محاورة الوضاعة مثلاً؟! أنا لست أمثولةً ولا أريد أن أكون أمثولة، هذه فكرة لا إنسانية وتميل الى صنع أصنام، نحن لا ننعت أحداً بالأمثولة والبطل إلا حين يموت، أو حين يفوق قدرات البشر في أدائه.

ولكن يبدو أن عندك ميلاً ما، واعياً أو غير واعٍ لتكوني بطلة، على الأقل على مستوى خساراتك الاجتماعية التي تحدثتِ عنها، أليس كذلك؟

لست بطلة! هذا خياري الشخصي مما قبل الثورة بكثير. وهذا سياق شخصيتي، لم أُقِم أي اعتبارٍ للمجتمع الضيق ورؤيته لي. كنت دائمة الحرص على حريتي الشخصية، وعلى تحقيق ما أحلم به، كنت أريد أن أصبح كاتبةُ. وهذا ما حصل، لأني لم أخضع للأطر الضيقة. وكان الخاص والعام يتداخلان في حياتي من حيث لا أدري، أحياناً كنت أتخذ قرارات تبدو مجنونة بالنسبة للآخرين، ولكنني كنت أدرك تماماً إلى أين ستوصلني.

هذا ما أقصده، كنت تعرفين إلى أين ستوصلك تلك القرارات…

نعم، هكذا كان غالباً، وليس دائماً.

ما هو مصدر ذلك الوعي؟

كنت أعي أهمية الابتكار وتخطي حواجز الخوف لصنع الحرية، ربما تجربتي الشخصية المؤلمة؟ شغفي بالقراءة؟ حساسيةٌ ما في داخلي؟ أنا ما زلت أبحث في سؤال الحرية. لقد خضتُ كثيراً من الصراعات القوية داخل شخصيتي ومع المجتمع من حولي، جرّبت كل ما أحببت تجربته. عمري الآن 45 سنة، رأيتُ كثيراً من الأماكن في هذا العالم، أكتشفُ أيضاً كيف تُصنع الحياة من الأخطاء. واكتشفت أن قدرتي على المواجهة قوية، ولكن على طريقتي، ليس بالمعارك الصغيرة، كانت تُروى عني أشياء لا أعرفها! كنت أتابعها بفضول، وأستمر سامحةً لنفسي بترفٍ واحد: هو متابعة الحيوات التي يرويها الآخرون عني بكسل. أظن أن وعيي تشكّل شيئاً فشيئاً من تجربتي الحياتية ومن كتاباتي، أنا أعتبر نفسي مجرِّبةً في الكتابة، وما زلتُ أُجرّب وسأبقى كذلك. هذا جعلني أدرك أهمية الهامش، لا أن يكون صوتي غير مسموع أو غير موجود، الهامش بمعنى ألا أكون صورة وأداة لشيء متعارف عليه ومقولب. لذلك أنا أعي الخيارات التي قمت بها، أقول دائماً إن الحرية صعبة والعبودية سهلة جداً، الحب صعب والكراهية سهلة جداً. واحدة من أصعب المعادلات أن يكون صوتنا مسموعاً، وأن نحتفظ بالهامش الذي نريده.

دعينا نتحدث عن موقفك الناقد. المسافة أو الهامش الذي تتحدثين عنه، هو أيضاً هامشٌ نقدي، كانت لديك العين الناقدة، في بوابات أرض العدم، كنت ترين وتحذرين من مآلات. إذا أردت أن تصوغي نقدك كرونولوجياً من أول الانتفاضة الشعبية وحتى الآن، وضمن محطاتٍ كبرى، فماذا تقولين؟

حتى لا أدخل في تفاصيل تتطلبها الكرنولوجيا في حالة صعبة معقدة مثل الوضع السوري، أقول إنني كنت شاهدةً، ورأيت بعيني كيف تحول الصراع الوطني في الثورة إلى حرب وصراع دولي مسرحه سوريا ووقوده السوريون، لكني رأيت أن هناك مساراً للثورة ما يزال يمضي مختنقاً ومقاوماً وبقوة، رغم اتفاق العالم مجتمعاً على خنقه، بدءاً من استبداد الأسد الى استبداد الدين، الى استبداد المجتمع الدولي.

عندك وعي للعبة الدولية ولتعقيد وصعوبة الأرض السورية؟ هل لديك رؤيةٌ حول سؤال: كيف كان من الممكن أن نخفف هذا الأثر الدولي علينا؟

لا يمكن بشكل كامل! نفعل ما نفعله، أعي الجحيم الذي نعيش فيه، لكني أعمل وكأني أعيش في أول أيام الثورة فقط، لا أغض البصر عن هزيمة الحلم، وأسمي الأشياء بمسمياتها. نحن في الهزيمة، لكنها ستكون مؤقتة، إذ لا بد لهذه الوحشية أن تتوقف يوماً. علينا أن نفتح أذرعنا للهزائم كما نفعل في حالات الانتصار، وهو الأمر الذي يتوجب علينا فعله مع العنف الموجه ضدنا كأفراد ومجموعات، نواجه ولا نولي ظهورنا، نواجه بأكثر الطرق إمكانية وإنسانية للمضي قدماً في صناعة العدالة. وأن نشهد على ما حصل أمام العالم. أن نروي حكايتنا هو جزءٌ من مقاومة هذه الهزيمة، ألا يصنعوا لنا ذاكرة ملفقة كما حصل في التاريخ دائماً.

أهي حتميةٌ تلك اللعبة الدولية؟

يبدو أن هناك شيئاً ما أكبر منّا جميعاً. ويبدو لي أننا دخلنا، في منطقتنا، صراع وحشيات غطاؤه ديني وعمقه سياسي اقتصادي، ونحن أدوات. كيف يمكننا المثابرة على الحلم في خضمّ كل ذلك؟ لا أعرف. لن أعيش خارج الواقع وأقول إننا أسقطنا الأسد، نحن لم نسقطه فهو محمي دولياً، ونحن نعرف من يحمي الكتائب المسلحة كذلك، ونعرف وضع الجيش الحر، ونعرف الانهيارات النفسية والاجتماعية والاقتصادية الحاصلة اليوم بالمجتمع السوري، نعرف الضريبة الكبرى التي يدفعها السوريون الآن في الداخل أو في بلدان اللجوء، ونعرف أن الفقراء هم من يدفعون الأثمان الكبرى. حتى أولئك الذين يساندون الأسد، فقراؤهم هم من يدفع ثمن هذه الحرب الوحشية.

لنتحدث عن الهويات المتعددة، الموضوع الأثير إلى قلبك. بالمعنى النسوي للتعددية، عندك وعيٌ لوجودك كامرأة في الحيّز الاجتماعي، لهويتك كمتمردة محبّة لاقتلاع نفسها من المؤسسات، ولكن كذلك لانتمائك لطبقة اجتماعية علينا أن نعطيها تصنيفاً سياسياً ما، طبقة وسطى عليا؟

نعم، طبقةٌ وسطى.

هذه الطبقة، كان لها «هامش» عيشٍ في يومياتها في ظل النظام، إن لم تعلن معارضتها السياسية المباشرة له، هل أن وعيك السياسي رغبوي فردي في غياب محدداتٍ من نوع آخر؟

نعم، هذا خياري. كان من المتاح لي أن أكون في مكانٍ ثانٍ، أُعطيَت لي فرصٌ كثيرة ولكنه كان خياري. وأنا لست مرتبطةً بطبقة معينة، دائماً كان عندي خيارات واقتلاعات، عندما قرأتُ كتاب الذات تصف نفسها لجوديث بتلر، الذي تحكي فيه عن علاقتها بالآخر، اكتشفتُ أني تمثلت هذه المعاني بخبرتي الشخصية حتى قبل أن أقرأ هذا الكتاب، منذ صغري ربما. كانت فرحتي باكتشاف هذا الكتاب هائلة، الكتب تغيرني وتؤثر على إدارة مفاصل حياتي. سأختصر الأمر لك: علاقتي بالعدالة والضمير علاقةٌ مفصلية. هذا لا يعني أني لا أرتكب أخطاءً أو أني لم أرتكب أخطاءً، الخوض في الحياة يقتضي الخوض في الوحل أحياناً.

مازلنا نحوم حول البعد الفردي الواضح في هذه التجربة…

نعم هناك بعدٌ فردي، وهناك نرجسيةٌ تتلخص بفكرتنا المثالية عن أنفسنا، ولكني أعتقد أن التجربة والحياة هما الأساس، لا شيء مطلقٌ عندي، لا شيء ينتهي أو يبدأ، أرى الأشياء ضمن سياقها المتلاصق بالزمن. لذلك أحاول أن أتعامل مع الشر المحبوك حولنا وأفككه. لكن لنكن صريحين! هذا يتم بألمٍ شديد، وهذا يقود إلى العزلة غالباً.

لا زلتُ لا أتلمس التعريف السياسي للطبقة الوسطى التي لم تتأذى مباشرةً في يومياتها من النظام، ولكنها انحازت للثورة. هذا التعريف المكمّل لما ذكرته قبلاً عن الفريق صاحب الصراع الوطني ضروريٌ جداً لصنع خطاب سياسي يتجاوز الفرد، ويقول بشرعية النضال ضد الاستبداد بعيداً عن فرقاء آخرين لا نراهم شركاء.

هو انحيازٌ أخلاقي للثورة والعدالة، بالنسبة لي هو دوري ككاتبة ومثقفة معنية بعملية التغيير والجمال. أما عن الطبقى الوسطى، فأظن أن الوضع معقدٌ ولا يمكن لنا القول بطبقة وسطى سوريّة، هناك كثيرٌ من التعميمات الجاهزة حول الوصف العام فيما يخص سوريا، واحدةٌ من الأشياء التي ننتظرها أبحاثٌ دقيقة حول الوضع السوري الذي يبحث في كل منطقة من سوريا ضمن ظرفها وشرطها. ما فعلته الطبقة الوسطى في دمشق كان مختلفاً عما فعلته الطبقة الوسطى في حمص مثلاً، وريف حلب وما حصل فيه لا يمكن مقارنته بريف دمشق، هناك تفاصيلٌ لا يمكن عرضها في هذه العجالة.

وهل الانحياز كافٍ لصنع سياسة؟

لا. هناك فراغٌ سياسي، نحن كأفرادٍ انحزنا ولكن لا علاقة صحيّة بالعمل السياسي، ولا أحزاب سياسية. لم نستطع تكوين أحزابٍ سياسية. في رؤيتنا الاتكالية، وضعنا كل مشاكلنا على عاتق النظام، كما أننا حالياً نقول باضطهاد الإسلام عالمياً ضمن رؤية اتكالية دون نقد عميق لبنية الإسلام. نحن ذواتٌ فردية لم نستطع صنع ذاتٍ جمعية، نحن مهزومون على هذا الصعيد. أنا مهزومة، جزءٌ من تجربتي هو هذه الهزيمة. وكما قلت سابقاً: علينا أن نواجه هذه الهزيمة بشجاعة ومكاشفة، دون أن ننسى ثوابت صراعنا الوطني الأول.

انحيازي أخلاقي، قد لا أشبه أنا وغيري كل فئات السوريين، قد لا أتماهى معهم أو أتماهى رغبوياً، على كل حال أنا لست كل أدوات التغيير، أنا جزءٌ منها. لم نستطع أنا وأمثالي أن نقود عملية التغيير في مجتمعٍ مدمّر تعليمياً مثلاً، الفساد طال حتى التجمعات والهيئات التي عملت في داخل الثورة. سنبدأ من تحت الصفر حين ينتهي العنف، وحين تنتهي هذه الحرب، سنعود ونحارب هذا الجنون الذي «شلّخنا»، الذات الجمعية التي نسعى لصوغها ممزقة الآن. أعيد، نحن نتحدث عن حربٍ ضد الشعب لم يتوقف القصف فيها منذ سنوات.

برأيك، هل كان هناك نفاقٌ عند «الفريق الوطني الديمقراطي»، أو خوفٌ جعله غير قادرٍ على صنع خطاب متفرد؟

ليس نفاقاً دائماً، ولكن سوء فهم وانعدام ثقة وتناحر وتنامٍ لأحقاد وغياب لثقافة العمل الجماعي، هذا يحصل في الحروب غالباً. كان هناك دور كبير للنظام بالقضاء على مجموعات كبيرة من فريقنا أيضاً، ومن ثم أتى الإسلاميون المتطرفون فقتلوا وخطفوا، وهناك من اضطر أن يهرب. ولم تبرز رموزٌ كنا بحاجة إليها، على كل حال، أعيد وأكرر، أنا لست مناضلة سياسية وليس لي دورٌ سياسي، أنا كاتبة مهتمة بما يحصل في بلدي ومنحازةٌ أخلاقياً للشعب المنتفض ضد الاستبداد الأسدي والديني والدولي، وضد الأداء السياسي الرث لأحزابنا وتجمعاتنا السياسية المعارضة.

إذا أردنا أن نَعُدَّ أوجهاً سوريةً منحازة للثورة ستكونين حتماً من بينها، إلا أن علاقتك بالغرب أنجح، ما هو السبب برأيك؟

 

بل يمكن القول إن علاقاتي بالنشطاء والناشطات في الثورة أفضل بكثيرٍ من علاقتي بالكتاب والكاتبات والمؤسسات والصحف العربية، هذا أكثر دقة. بالنسبة للغرب، عليّ أن أقول إني حظيت بصديقتين مهمتين جداً في حياتي، ساعدتاني كثيراً. ياسمينة جريصاتي، ولديها وكالة ترجمة، وتعمل مع الكتاب السوريين والعرب. هي أستاذة الفلسفة في الجامعة الأميركية في بيروت وهي وكيلتي الأدبية وصديقة قديمة. ورانية سمارة مترجمتي إلى الفرنسية، وبمثابة عائلة لي في باريس. هاتان السيدتان لهما فضلٌ كبيرٌ في هذا الأمر، ثم إنّ القضية السورية صارت في الواجهة، علينا ألا ننسى ذلك. لولا مأساة الشعب السوري، لكان الاهتمام أقل بكثير بنتاجنا، نحن السوريون جميعاً، ولكن ياسمينة وأنا، كنا حريصتين أشد الحرص ألا يتم استخدامنا وتحويلنا لأدوات تسويقية. ورغم أن الإعلام الغربي فعل ذلك لمرات، إلا أننا كنا نراجع ونعترض على هذا الأمر. كانت فكرتي هي التالية: ينبغي العمل على التعريف بالقضية السورية، على المستوى الشعبي وعلى مستوى التجمعات السياسية والثقافية والمدنية، دون أن أتحول إلى ناشطة سياسية صرف، ودون أن أنعزل بسبب الخوف من استخدام الغرب لي، وهو الذي يرانا مجتمعات فُرجة، ويرانا في أحيان كثيرة فاقدين للأهلية العقلية، حين لا يرى خياراً ثالثاً بين الديكتاتور وبين المتطرفين الدينيين، لذلك، وحين وصلت إلى باريس، كانت روايتي التي أُصدرت قبل الثورة رائحة القرفة على وشك أن تخرج باللغة الفرنسية، بالصدفة طبعاً، وتزامن ذلك مع ظهوري الإعلامي هنا وكلامي عن القضية السورية على المنابر العامة، حينها اكتشفتُ أنهم لا يعرفون شيئاً مما يجري على الأرض هناك. كنت حذرةً جداً ولكن كان ينبغي أن أروي كشاهدة على الحدث، كان دوراً قدرته ضرورياً وحيوياً في ذلك الوقت، أن أشهدَ على ما حدث. كانت تجربةً مؤلمةً تبعت تجربة خروجي من سوريا، والذنب الكبير الذي حملته أنا وغيري من الناجين، وما تبعه من صراعات نفسية. علاقتي بالغرب نظمتُها وبتيقظٍ مع ياسمينة جريصاتي، بعيدا عن الرؤية الدوغمائية التي يرددها كثيرٌ من المثقفين العرب عن الغرب، فالكلام الذي يرددونه عن الغرب يشبه ما يردده العنصريون الغربيون اتجاهنا، تتلخص الفكرة في أنهم يرون الشرق كتلةً واحدة، يُبرر بذلك احتقارهم للشرق والمهاجرين واللاجئين، إلا أن هذا ما يعيد إنتاجه بعض مثقفينا، حين يعتبرون أننا أدوات حين نُنشئ علاقةً ما مع الغرب. في الحقيقة الغرب ليس كتلة دوغمائية واحدة، هناك أحزاب وتجمعات مدنية ومنظمات إنسانية بعيدة عن مراكز الحكومات وتُحاربها، وهناك شخصيات اعتبارية وثقافية مهمة، وهي تقف معنا في قضيتنا السورية وتشكل ثقلاً لنا في حال انضمت إلينا، لكن هذه النظرة تحديداً في أنه لا يمكننا أن نكون فاعلين في الغرب، ولا يمكننا أن نرفع صوتنا عالياً، دون أن نكون أدوات، هذه الفكرة بعينها تحمل تحقيراً للذات الجمعية التي تحاولين جرّي لتعريفها، وتتلخص في أننا لا يمكن ألا أن نكون أدوات، ولا يمكن أن نكون أصحاب إرادةٍ وعقلٍ غير مستلبين، وهذه النظرة التحقيرية هي نفسها التي تقول بأننا كلنا داعش، وأن الفساد ينخرنا، وأن الاجتهاد والمثابرة والتفكير والعقل عناصر لا مكان لها بيننا، وأنه لا يمكن إلا أن تحكمنا الديكتاتوريات، وإن لم تحكمنا الديكتاتوريات فالوحشية الدينية هي نهايتنا. لذلك لا عجب أن يلتقي اليمين الغربي العنصري، مع أصحاب نظرية المؤامرة والرؤية الدوغمائية للغرب، ولا عجب أن الطرفين كانا من أنصار الأسد.

كان خياري قبل الثورة أن أحتفظ بهامشي، وألا أكون أداةً، فالاسترسال في هذا الأمر يصنع قطيعة مع الكتابة، الكتابة تتطلب التأمل والقراءة وتطوير حساسيات معينة. تتطلب الهامش باختصار. الإعلام المكثف المؤسس يُميتها، أنا واعية تماماً لذلك. لكن لا يمكن لي تجاهل ما يحصل في سوريا دون أن أرفع صوتي في الغرب، أثناء وبعد صدور هذين الكتابين، تقاطع نيران وبوابات أرض العدم، كنتُ أمرُّ بتجارب شديدة العنف والعداء، ليس النظام هو المسؤول الوحيد عنها، بل أوساط المعارضة والثقافة في سوريا والعالم العربي كذلك. لا أودُّ الخوض في وضاعتها وانحطاطها، فلكل منّا نصيبه من العنف الحاصل الذي فرضته التراجيديا السورية الكبرى. القضية السورية أعطتني زخم ترجمات وإصدار ونشر، كما أعطت كثيرين غيري وعلى كافة المستويات. ولستُ واهمةً على الإطلاق فيما يحصل حولي، وهو ما حصل قبلاً مع الكتاب في لبنان أثناء الحرب قبل عقود، ومع الفلسطينيين أيضاً.

من خلال تقييمك لتجربة المجلس الاستشاري النسوي، ما رأيك بالتمثيل النسائي الحصري في العمل السياسي؟ وما رأيك بالردود شديدة العنف ضمن الرأي العام السوري، والتي نستقيها من وسائل التواصل الاجتماعي؟

لذلك جذور نفسية عميقة، الدين يحمل جزءاً منها، واستكملها نظام آل الأسد. هذا لا ينفي أن أصدقاءنا الديمقراطيين لم يكونوا أحسن حالاً. لقد خبرتُ ذلك قبل الثورة، وخبرتُ ذلك من خلال تجارب صديقات أخريات. بالنسبة للمجلس الاستشاري النسوي، مشكلتي مع الخطاب الذي يحمله وليس مع شخصياته أو مع أن الممثلين فيه نساء حصراً. خطاب المجلس لا ينصف الضحايا الحقيقيين، أما أن يتم نقد المجلس انطلاقاً من الجنس ومن منطلق ذكوري فذلك مرفوض. الخطابُ الذي تناول النساء تحقيراً تبعاً للجنس كان موجوداً ضمن الرأي العام حول المشاركة النسائية في السياسة منذ بداية الثورة، وضمن أجواء المعارضة الديمقراطية أيضاً، ليس الإسلامية فقط. ومن مارسه ليس الرجال، بل النساء أيضاً، المجتمع البطريركي في مجتمعاتنا لا يحدده الجنس، بل مراكز القوة، والنسوية ليست عداءً للرجال كما يتم تقزيمها وتسخيفها، هي محاربة نمط تفكيرٍ تسلطي، وهي فعلُ تحررٍ سياسي، يُعطى فيه حقٌ لأفراد المجتمع بالتساوي وحسب القانون، نساءً ورجالاً دون تمييز.

أسرّت لي كثيراتٌ من الناشطات والمعتقلات أنهن امتنعن عن امتلاك سدة الكلام تجنباً للتعرض لما تعرّضُت له، عندما كنت أحاورهن وأحثهنّ على تدوين تجربتهن الشخصية، كنَّ يكرّرن لي جملة: «رأيت ما حصل معك؟ لن نحتمل ذلك!». أنا مؤمنةٌ أن تدوين السيَرِ الشخصية للناشطين والناشطات سيكون في المستقبل جزءاً من الذاكرة السورية الموءودة، هذا العنف ضد النساء نجح في لجم أصواتهن، المتشددون يروننا عورة، هذا واضح، ولكن العلمانيين الديمقراطيين، غالباً وليس دائماً رأوا في المرأة عورةً مستترةً بشكلٍ ما. الانتماء لمشكلاتنا نحن النساء لم يكن انتماءً لقضية وحقوق إنسان، كان محكوماً غالباً بطائفةٍ ودينٍ وعشيرةٍ وعائلة. قلّةٌ من الديمقراطيين أفلتت من هذه الازدواجية، الذات الجمعية التي تبحثين فيها هي عبارة عن مكونات قبلية وطائفية مستترة أيضاً. كي تكون المرأة موجودةً في الحيز العام ومثار إعجاب، عليها أن تطابق نماذج قطيعية وترسيمات مرسومة سلفاً: المرأة الزوجة المتفانية المثالية والخيّرة المعطاءة، بمعنى الظل، أو البطلة المغوارة المتشبهة بالرجال من حيث إلغاء هويتها الجنسية وفرادتها الأنثوية لتتماهي مع الأقوى.

علينا أن نعيد تعاريف المفاهيم، المفاهيم أصبحت هزلية وخاوية في زمن البعث. مثلاً العلمانية في الدولة البعثية ليست علمانية، ضمن هذا السياق الهزلي نفسه، المفرِّغ للكلمات من المعاني، يأتي سياق السخرية من المرأة ومن امتلاكها سدة الكلام، هذا مؤسَّسٌ عميقاً في الوجدان.

سأسالك سؤالاً أدبياً أخيراً: ضمن أجواء الثورة تُرفَض عبارة «حرب أهلية» لأنها تُعدُّ تلاعباً خطابياً بانتفاضةٍ وثورةٍ تحولت لأشكال متعددة، ولكنها بدأت ثورةً محقةً عادلةً. الواقع يقول إن هناك قصتين تراجيديتين سيُروى بهما التاريخ: قصة ضحايا النظام من المعارضة، وقصة ضحايا الاقتتال من جنود النظام. على الأقل على المستوى الكميّ، لا يمكن إغفال قصة ضحايا طرف النظام، هل ستكونين يوماً ما قادرة على كتابة رواية تروي التراجيديتين؟

هذا حلم! لكنه صعبٌ الآن. أنا أرى أن الجنود الذين يموتون في سبيل النظام هم ضحاياه، لنضع مسألة مسؤولية نظام الأسد عما وصلنا إليه جانباً، فهي أمر كررناه كثيراً، ولننظر كيف يمكننا تفكيك هذا السواد. هناك عيناتٌ يمكن الأخذ بها كمثال، أنا أعتبرُ أن مقاتلاً في جبهة النصرة ومقاتلاً في الجيش النظامي السوري أدوات شر، لكنهما ضحايا الشر، وهو أمرٌ لا يحبذ أن يسمعه كثر، لأنهم يعتقدون أن هذا يساوي بين الضحية والقاتل، القاتل أشرنا إليه وحددنا مسؤوليته. حسناً لنحاول التفكير بتفكيك كتلة الشر المتدحرجة. يمكن النظر من زاوية أخرى: نحلل مُعاش مقاتل جبهة النصرة ومقاتل الجيش النظامي السوري، وعبر دراسة وبحث واستقصاء حياة كل منهما في التاريخ السوري الحديث، يمكننا فعلاً التحدّث عنهما كأدوات وضحايا معاً بيد مصانع شرٍّ كبرى، يمثلها النظام الأسدي وحلفائه والنظام الدولي، بما فيها دول سمّت نفسها أصدقاء الشعب السوري، وما تمثله نتائج ما بعد الزمن النيوليبرالي على منطقتنا. يغرق المقاتلان في الدم والكراهية والقتل المتواصل، يتحولان الى دمغة للشر المتفاقم محلياً وعالمياً، بينما يُعاد تلميع مصانع الشر الأساسية دولياً، وبين خيار الشر الأقصى المباشر والدموي، وغطاء الشر، يصير غطاء الشر المُلمَّع أكثر نظافةً ويستمر الأمر، وهكذا دواليك. لا أظن أنني قادرةٌ الآن على كتابة رواية حول هذه التراجيدية المسننة العنف، أحاول الآن البدء بمتابعة دراسات عليا في الجامعة حول هذا الأمر، أريد الغوص في هذا الأمر والبحث به بشكل جدي وأكاديمي، روايته أمرٌ آخر، ستحتاج مني إلى وقتٍ أطول.

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى