صفحات الحوار

حوار مع مظفر النواب

 

 

سنان انطون

[بعد الأمسية الشعرية التي أحياها مظفّر النواب في جامعة جورجتاون في ١٩ أيار، ١٩٩٦ والتي ساهمت «مجلة الدراسات العربيّة» بالتحضير لها، وكان لي شرف تقديمه فيها، كان الشاعر يقف خارج القاعة يتلقّى التهاني من الجمهور. وقبل أن أقترب منه لأفاتحة بإمكانيّة إجراء حوار معه، طلب منّي أحد اللاجئين العراقيّين الذين قدموا من معسكر رفحة في السعوديّة ، من الذين يعيشون في واشنطن، أن أسأل النوّاب إذا كان يمانع في أن يلتقط صورة معه. وسألته تلقائياً لماذا لا يسأله هو مباشرة، فارتسمت على وجهه ابتسامة وقال: «ما أعرف. أرجوك!» وتذكّرت كيف شعرت أنا نفسي بالرهبة أول مرة التقيت فيها بالنوّاب قبل عام في بوسطن. بعد أن التقطت لهما الصورة، شكرني الرجل وقال: «إنت تعرف شگد نحبّه». عندما حدّثت النوّاب عن المجلة وعن رغبتي بإجراء حوار معه، قال بعراقيّة صميمة: «إي، ليش لا؟».

واتفقنا أن يكون الحوار يوم ٢٢ أيار، ١٩٩٦، في دار مضيفه، السيد محي الدين الخطيب، في ضواحي واشنطن. في طريقي إلى اللقاء، قلّبت الأسئلة التي سهرت أفكّر بها وغمرني الشعور الذي يكتسحني حين أكون في طريقي إلى موعد عشق. هذا هو التفسير الوحيد. كلام كثير وأسئلة أكثر وشعور بالرهبة. أحسست أنّني أحمل معي حب الكثيرين ممن كان يجمعني حب مظفر بهم. تذكّرت كيف كنّا نتبادل شرائط أشعاره بالسر في كليّة الآداب بجامعة بغداد. وكيف كنّا نجتمع في بيت أحد الأصدقاء لنستمع إلى «وتريّات ليلية». كنا نتسكّع في شوارع بغداد ليلاً ونحن نردد مقاطع حفظناها عن دون قصد، ولكن عن حب. تذكّرت، أيضاً، واحدة من الجلسات الشعرية لمهرجان المربد عام  ١٩٨٩. كانت الفنّانة نضال الأشقر تلقي كولاجاً شعرياً جمعت فيه عدة نصوص من شعراء كثيرين. وحين ألقت مقطعاً من إحدى قصائد مظفّر، وشعره كان ممنوعاً في العراق، تهشّم الصمت السائد وأخذ الجميع يهمس ويهمهم: مظفّر! تذكّرت صديقي البصري، إحسان، الذي كان دائماً يردّد مع مظفّر: «أين البصرة؟ أين البصرة؟ بوصلتي تزعم عدّة بصرات.» وكيف أنني عشقت البصرة من شعر السياب والنواب ولم أرها قط. وكيف أردّد كل يوم بصوتٍ عال: «في تلك الساعة، حين تكون الأشياء بكاءً مطلق.»

تذكّرت كيف أن جريدة «الثورة»، الناطقة بلسان حزب البعث، قامت بنشر قصيدة «الأساطيل» قبل أسابيع من حرب الخليج (١٩٩١) مرفقة بصورة النواب. وكانت تلك أول مرة نتعرف فيها في الداخل على تقاطيع وجهه ونربطها بصوته.

حين قابلته في بوسطن قبل سنة فوجئت بأن الشاعر الذي يتفجّر غضباً في قصائده هادئ هدوء الطفل ويقطر رقّة حين يتكلّم.

ما أغرب هذا العصر؟ المرة الوحيدة التي يتسنى لي فيها أن أحضر أمسية يلقي فيه مظفر شعره، أو أن أحظى بفرصة إجراء حوار معه، ليست في بغداد أو البصرة، بل في واشنطن، على بعد نصف ساعة من البنتاغون؟

بالرغم من متاعبه الصحيّة كان مظفّر كريماً معي بوقته. دار الحوار ونحن نتناول الباگلِةّ ونشرب الشاي في فطور عراقيّ وكان مظفّر يرتدي بلوزة عليها اسم أحد فرق كرة القدم الأمريكيّة. استرسل مجيباً على بعض الأسئلة، ولم يعجبه واحد أو أكثر فاعتذر عن الإجابة. وكأي لقاء عشق، مر الموعد بسرعة قاسية. تبادلنا بعض الأحاديث والطرف قبل أن أودّعه وبي عطش وأسئلة كثيرة. س أ]

***

س: يحفظ الناس شعرك عن ظهر قلب، لكن تفاصيل حياتك مجهولة لدى الغالبية العظمى. هل يمكن أن تتحدّث عن تكوينك، شاعراً وإنساناً؟ ما هي الأشياء التي أثّرت عليك منذ الصغر؟

مظفّر النوّاب: القضايا التي أثرتها يصعب الحديث عنها بإسهاب، ربما باختصار. هناك شيء أساسي وهو تاريخ العائلة. خرجت العائلة من الجزيرة إلى العراق، وفي أيام اضطهاد العبّاسيين رحلت إلى منطقة كشمير في الهند وحكمت جانباً من المنطقة. بعدئذ، بعد دخول البريطانيين، كانت هناك مقاومة وتم نفيهم. وخيروهم فعادوا إلى العراق لوجود العتبات المقدّسة ولأنهم قدموا من العراق أصلاً. فمنذ الصغر ونحن نسمع عن هذا التاريخ: الانتقال والرحيل والنفي. وجئنا نحن لنكمل (يضحك). طبعاً، كل هذا له تأثير. وكان هناك كره للبريطانيين بالذات. ومما يقال أيضاً إنّه طلب منهم المشاركة في بداية تشكيل السلطة ورفضوا. وهناك طقس يقام سنوياً هو مواكب كربلاء وعاشوراء. كانت هذه المواكب تأتي إلى البيت. كنا نمتلك بيتين كبيرين، بيت جدي وبيت أخيه، مفتوحين على بعضهما البعض وكانت هناك أبواب ضخمة. . .

س: في أي منطقة في بغداد؟

م ن: في الكرخ، مقابل سراي بغداد والساعة. فكانت المواكب تأتي وتدخل البيت بمشاعلها والخيل وماء الزهر والأعلام والسلاسل التي يضربون أنفسهم بها. كنت صغيراً وقسم من هذا لا أعيه لكنه يحكى أمامي. والقسم الأخير أعيه بشكل ضبابي. فمنذ البداية كان هناك تأثير للعطور وماء الزهر. كان بيتاً شرقياً والطوابق العليا مليئة بالنساء. لا ترى حولك إلا كتلاً سوداء. وعيون ودموع، طبعاً، وبكاء. وفي الداخل الألوان والأعلام والصناجات التي يضربوها. وكانوا يقومون بتمثيل معركة كربلاء. ويقولون لي أيضاً إنّه كان هناك طفل يقتل في المعركة وهو عبد الله الرضيع، وكنت أنا الشبيه وكانوا ينزلونني لأمثل دوره. طبعاً لا أتذكّر لأنني كنت طفلاً صغيراً. لكن هذه الأشياء لعبت، بشكل غير واع، دوراً أساسياً في التلوين والإيقاع والشعر، أو فلنقل التنغيم، تنغيم الإنسان وموسقته. إلى جانب هذا، هناك جو خاص في العائلة. كانت العوائل مغلقة عادة. في طفولتي، مثلاً، لم يكونوا يسمحون لي بالخروج من البيت إلا للذهاب إلى المدرسة. كانوا يخافون علينا. كان أصدقاؤنا يأتون إلى البيت ليلعبوا معنا وكان البيت ضخماً جداً. وكان عدد كبير من أفراد العائلة يجتمع كل أسبوعين في سهرة. فيعزف واحد على القانون وآخر على العود وآخر على الكمان. كانت هناك أصوات جميلة جداً في العائلة، سواء نسائية أو رجالية وكانوا يغنّون.

س: أقرباؤك كانوا يعزفون على هذه الآلات؟

م ن: نعم، جدي كان يعزف على القانون والبيانو، والوالدة كانت تعزف على البيانو، ووالدي على العود، وخالي على الكمان. فكل هذا لعب دوراً. جدي لوالدي شاعر بالعربية وبالفارسية. وهناك تركيبة عاطفية حادة في العائلة. هناك الكثير من الحوادث التي تدلّل على هذه الحدّة العاطفيّة. فمثلاً عندما كنت أسافر داخل العراق في سفرة طلّابية إلى مناطق الشمال مثلاً، كانت الوالدة تودعنا وهي تبكي، ونعود وهي تبكي. يظهر إن المرء يرث هذا بتركيبه العصبي.

س: ما هو تسلسلك بين الإخوة والأخوات؟

م ن: الأول. ثم كان بيتنا على دجلة وكانت هناك المسنّاية، وهي الشرفة، وتدخل في دجلة وفي وقت الفيضان يحيط بها الماء من الجهتين وهي ممتدة داخل النهر وكبيرة. وأذكر صوت الهدير والفيضان. كانت هناك عدة حوادث غرق في المنطقة. أذكر صورة الأم التي تظل تنتظر ابنها الغريق طوال الليل وتظل تندب. كانت هناك شموع أيضاً. هذه صورة مبكرة في ذهني. تجلس في الشريعة التي غرق فيها ابنها وينتظرون أن تطفو الجثة. . . إلخ، فهو جو مشحون جداً. لا يستطيع المرء أن ينام. كل هذا أعطاني مساحة. لأن بيتنا كان وحده داخل النهر ولم يكن أمامه أي بناء. هذا، كما أعتقد، لعب دوراً أيضاً، فهو يعطي مساحات واسعة للكتابة وما شابه. الساعة التي أمام بيتنا، ساعة بغداد، لعبت دورها أيضاً. ما زالت دقاتها في أذني. من الصعب أن ينساها المرء. لديها خصوصية معينة. ولأن السراي أمامنا كانت بعض الأحداث السياسية تقع هناك. عندما قتل ياسين الهاشمي، مثلاً، قتل في السراي وسمعنا صوت الطلقات. كان البيت ملتقى لكثير من الناس. هناك صالونان، واحد صيفي والاخر شتوي. كانا مليئين بالتحفيات واللوحات من أماكن عديدة في العالم. وكان عدد من السفراء يزورون البيت. مثلاً هناك هدايا من السفير الروسي ومن أماكن أخرى. كانت هناك أنواع من المنحوتات العاجية والكثير من التحفيات الهندية التي يظهر أنهم جاؤوا بها معهم عندما عادوا. فهذا كله، كلون ورسم، أثّر علي بشكل كبير. عندما كنت أعود من المدرسة كان والدي يطلب مني أن أقرأ له الأناشيد وهو يعزف العود. فكوّن لي أذناً مدوزنة. الآن لا أعود إلى التفعيلات الشعريّة والعروض. بل أكتب على السليقة. درسنا العروض طبعاً، لكنّي لم أكن أحب الدرس. كنت أهرب منه. هذا جزء من المكوّنات الأولى.

س: متى بدأت عندك الكلمة أو الشعر؟

م ن: واالله مبكراً. في الطفولة، باللهجة العاميّة وبسبب «السبايات» تكوّن الإيقاع. وهناك الأعياد الموجودة في المنطقة. فالذي يدوّر دولاب الهواء يغني والذي يمرجح الأطفال يغنّي والذي يبيع «جقجه قدر» يغنّي

س: متى بدأت تكتب الشعر، بالعاميّة أو بالفصحى؟ متى أحسست أنك شاعر أو أيقنت بأنك تريد أن تكون شاعراً؟

م ن: لا أذكر بالضبط. لكنّي أذكر أن جدّي لوالدي كان يجلسني في حضنه وكان شكله يشبه طاغور بلحيته البيضاء، كان يقرأ لي. من أول ما حفظته منه مثلاً: «لا تسقني كأس الحياة بذلّة/بل فاسقني بالعزّ كأس الحنظل/كأس الحياة بذلّة كجهنّم/وجهنّم بالعزّ أفضل منزل». هذه حفظتها منه. كان يطلب منّي أن أردّد وراءه. بالإضافة إلى القرّاء في عزاء الحسين والقصة والملحمة. كل هذا لعب دوره في تركيبتي، وخصوصاً القصة نفسها، أي المقتل. الجو الدرامي الذي فتحت عيني عليه لم يكن جواً عادياً. في المدرسة الابتدائية بدأت بكتابات بسيطة وهي بدأت بحادثة. عندما كنت صغيراً كنت خجولاً جداً وبقيت كذلك إلى أيام الجامعة. وكان أصعب شيء بالنسبة لي هو أن أدخل الفصل إذا كان المدرّس قد وصل. ربّما هذا بسبب جو البيت. كان المدرسون كلهم يعرفون الوالد. درس الإنشاء كان آخر درس والمدرس، اسمه حميدي، وكان من تكريت. كان يعرف أنني قوي بالإنشاء فكان يسمح لي بالذهاب إلى البيت. كنت أفرح لأنني أذهب إلى البيت قبل بقية الطلاب. نحن كنا صغاراً وكان هناك طلاب شرسون. مثلاً طلاب الصف السادس كانوا رجالاً بشوارب وكنا نخاف منهم. ذات مرة تغير الجدول وأصبح درس النحو آخر درس. طبعاً الكل كان نعساناً وكان أكثر ما يربكني هو أن يطلب مني المدرس أن أقف وأقول أو أعمل شيئاً. كنت أخجل كثيراً. كان درساً للقواعد وكنا ندرس الإعراب. كان ذلك في الصف الثالث الابتدائي وكان هناك الشطر الأول من بيت شعر هو: قضينا ليلة في حفل عرس. فقال لي المدرس: قم يا نوّاب. وارتبكت فعلاً. قال لي: إذا ما أكملت النصف الثاني لهذا البيت سأسمح لك بالعودة إلى بيتكم. لا أدري لماذا فعل ذلك. وأنا، لا لأني أعرف الشعر جيداً، ولكن لارتباكي وخجلي ولأني أردت التخلّص من الموقف بسرعة، قلت بدون تفكير: كأنّا نجلس بقرص شمس. بهت المدرّس وأنهى الدرس قائلاً للطلاب: اجلسوا. ونزل إلى المدير ودقّوا الجرس وجمعوا المدرسة كلّها. أنا كنت خائفاً من صف واحد فقط، فتصّور الموقف مع المدرسة كلها. تكلّم المدرس مع المدير وقال له إن الوزن مضبوط والقافية كذلك. وهناك ضوء في العرس وكذلك في الشمس. طبعاً أنا كنت مرتبكاً ولم أفهم ما كان يقوله. أعطوني هدية هي عبارة عن مجموعة كتب من مكتبة المدرسة. بعد أن ذهبت إلى البيت أصبح في ذهني أن الشعر سهل وليس صعباً. فبدأت أكتب وكان المدرّس يشجعني.

س: في أي مدرسة كنت؟

م ن: الفيصليّة الابتدائية. ثم تنمّت هذه المسألة في المتوسطة والثانوية. لم يكن الصف كبيراً مثل الآن. كان عدد الطلاب صغيراً فكان لدى المدرس الوقت للاعتناء بالطالب وكتاباته. وكانوا يهتمون بالطالب إذا كانت لديه إمكانية. الآن لا يهتمون كثيراً.

س: متى وكيف بدأ عندك الوعي السياسي؟

م ن: كما قلت لك، الجو العائلي كان فيه كلام كثير عن النفي وعن الإنكليز. أول مشاركة لي كانت في وثبة كانون ١٩٤٨ ضد معاهدة بورتسموث. كنا طلاباً في المتوسطة وخرجنا في مظاهرات. لم نكن نفهم معنى المعاهدة. لكننا كنا نخرج مع الكبار الذين كانوا في المقدمة. هم كانوا يحدثوننا عن الموضوع. طبعاً أهلي كانوا يخافون علي كثيراً وكنت أسبب لهم الكثير من المشاكل. كنت أهرب من المدرسة للمشاركة في المظاهرات. وكانوا يبحثون عني في المخافر والمستشفيات خوفاً من أن أكون قد أصبت. كان بيتنا في الكرخ التي كانت مكاناً لانطلاق المظاهرات. بعد الانتفاضة كانت هناك انتخابات لاتحاد الطلبة. وانتخبت، ليس لأني واع سياسياً، بل لأنني كنت هادئاً وساكتاً. فكنت أحضر الاجتماعات وأناقش. وهكذاً تنمى عندي الجو السياسي. طبعاً كان الاتجاه قومياً آنذاك. يعني حزب الاستقلال. . . صديق شنشل ومحمد مهدي كبة. وأغلقت الحكومة المدرسة لكي لا تخرج المظاهرات فبدأنا نجتمع في بيتنا. ولم يكن والدي يقول شيئاً. كان قد ترك لي حرية التصرف. أما أمي فكنت تخاف كثيراً. وكان عندي صديق أو إثنان يأتيان معي إلى البيت وكنا نلعب وندرس معاً. وفي أحد الاجتماعات في اتحاد الطلبة قيل هناك إثنان أو ثلاثة من الشيوعيين في المدرسة وبأننا يجب أن نضربهم. فاستغربت أنا وسألت: لماذا نضربهم؟ فقالوا هؤلاء شيوعيون كفّار. كان هناك شخص من عائلة الفكيكي في الاتحاد وكذلك حارث طه الراوي ولا أذكر البقية. سألت عن هولاء الشيوعيين فإذا بأحدهم من الذين يدرسون معي في البيت وكان صديقاً عزيزاً. فكنت ضد أن نضربهم وهم مثلنا طلاب وطنيون. كلمت والدي عن الموضوع فقال: دعك من اتحاد الطلبة وضارب ومضروب. فانسحبت. وفي إحدي المرات زرنا مقر حزب الاستقلال عندما كنا صغاراً. تحدّث إلينا صديق شنشل وكان حديثة غريباً بالنسبة لي ولم أستسغ جوه.

س: متى ارتبطت بالحزب الشيوعي؟

م ن: في كلية الآداب في الجامعة. كنا أول دورة في دار المعلمين وكان فيها جو يساري. وكان القبول، بخلاف استثناءات معينة، تحدده لجنة فيها اتجاه طائفي. حاولوا أن يكوّنوا كلية لأولاد الذوات يكون فيها طابع طائفي معيّن. أبناء العوائل كانوا شيوعيين ويساريين. ولم نكن نعرف بشيئ اسمه حزب البعث. عند إعلان الأحكام العرفية سنة ١٩٥٢ خرجنا في مظاهرات. كانت كليتنا في باب المعظم أمام كلية الملكة عالية للبنات. وكانت كلية الهندسة بالقرب منها. انشق عن المظاهرة خمسة أو ستة برددون شعار: وحدة، حرية، اشتراكية. تلك كانت أول مرة نسمع فيها بالبعثيين. هم انشقوا عن المظاهرة لأن عددهم كان ضئيلاً جداً. لم يكن لديهم أي نفوذ في عموم الكليّات. من البعثيين الذين كانوا معنا وأصبحوا فيما بعد من القادة: ستار الدوري، وهو الآن في صفوف المعارضة في لندن. وكذلك حامد حمادي، وزير الإعلام حالياً. علي صالح السعدي كان في كلية التجارة وكنت أعرفه من خلال النضال الطلابي. في تلك الفترة تمت مفاتحتي وطرح على موضوع الانتماء إلى الحزب الشيوعي. فاعتذرت منهم لأنني لم أكن أمتلك الوقت الكافي للتفرغ بسبب الدراسة وأشياء أخرى. لكننا كنا نشارك وأحياناً أكثر من الملتزمين.

وفي ١٩٥٦ عملوا دورتين للضباط الاحتياط وكانت حجة لإبعادنا عن بغداد. واحدة كانت في السعدية للمفصولين الذين أنهوا الكليات ولم يتعينوا. المجموعة الثانية، غير المتخرجين، أخذوهم إلى الشعيبة. كان الوضع متوتراً داخل بغداد، خصوصاً أثناء أحداث مصر وضرب بورسعيد. تعرفت على الكثيرين، طبعاً، ومنهم صلاح خالص وإيراهيم كبة ويوسف العاني ويوسف الدرة، وكان علي صالح السعدي معنا أيضاً. كانت هناك فعاليات كثيرة ضمن الدورة: مسرح وغناء وغيرها. قام أحد الضباط بضرب أحد رفاقنا لأنه تأخر على التدريب فأعلنّا الإضراب داخل الجيش. وكانت عقوبة الإضراب الإعدام. أضربنا داخل الثكنات ليومين أو ثلاثة فتوتّر الجو وطوقوا المعسكر وأخذوا حوالي عشرين منّا إلى بغداد لمحاكمتهم عسكرياً. حكموا عليهم بين خمس إلى عشرين سنة وكان يوسف العاني من بينهم. لكن نوري السعيد أطلق سراحهم بعد أربعة أشهر. كانت مسألة تخويف. فخرّجونا دون أن نصبح ضباطاً إلا أن الدورة كانت مفيدة لأنني تعرفت على أناس كثيرين. وكان عبد السلام عارف وماجد محمد أمين وعدد من ضباط الثورة قد درّسونا فيها. كنا نسمع بوجود نوع من التململ في المعسكرات القريبة منا. فهذا ينمّي وعياً جيداً من خلال الاحتكاك بين البعثيين والشيوعيين. كان هناك تعاون في تلك الفترة ضد السلطة. وهناك كانت أول موافقة على الانتماء إلى الحزب الشيوعي (أثناء الدورة). وبسرعة أصبحت عضواً في لجنة المثقفين وكان فيها أسماء أصبحت معروفة. لكن اجتماعاتها كانت متباعدة. مرة كل أربعة أو خمسة زشهر. وكان الجو مكهرباً، كما قلت، بسبب أحداث مصر. فبعد ثورة يوليو كان الجو في العراق يغلي. وعند إعلان الوحدة مع سوريا كان الإعلام يسمع بوضوح وكانوا يقبضون على كل من يستمع إلى صوت العرب ويحكمون عليه بستة أشهر. وألقي القبض علي في تلك الفترة عدة مرات ولنشاطات مختلفة. وكانوا يوقفوننا عدة أيام، خصوصاً في الكاظمية. كانت لديهم أسماء معينة وكانوا يلقون القبض علينا كلما تكون هناك مناسبة. فمثلاً عندما جاء سليمان ديميريل جاءوا وأخذونا. وكلما كان حلف بغداد يجتمع كنا نستعد لأننا كنا نعرف بأننا سنؤخذ إلى الموقف في الكاظمية. تعرفت في الموقف على كبابجية وأصبحوا أصدقائي. وأحدهم، وكان اسمه حميد وهو من عفج، قتل أيام ثورة تمّوز. ومن التضحيات أثناء ثورة تموز أيضاً السيد لطيف الوردي. كان هناك جهاز خاص لتصفيتهم. كانت مدينة الكاظمية تكاد تكون مقفلة للشيوعيين. هناك أحداث يصعب الحديث عنها بسبب التفاصيل. مثلاً السيد لطيف الوردي لم يكن شيوعياً. كان رجل دين يلبس عمامة ويقرأ عزاء الحسين. واعتقل زوج ابنته لمشاركته في نشاط ما ولم يكن شيوعياً هو الآخر. وكونّا لجنة في المدينة وكنت أنا ممثلاً للحزب وفاتحناهم. كانوا كبار السن لكنهم كانوا يتعاطفون مع الشيوعيين. وفاتحنا السيد لطيف وكان مستعداً للتعاون. كان ودوداً جداً ولديه وعي عال، رغم أنه متدين. قد يكون في موكب متنقلاً من عزاء إلى آخر، وحين كان يلاقينا كان يوقف العزاء كله ويسلم علينا. قتل وهو في طريقه إلى صلاة الفجر. عندما جاءوا به إلى المستشفى وأرادوا أن يعطوه الماء. رفض وقال: أموت عطشاناً كجدي الحسين. كان رجلاً متديناً لكنه شعر أن هناك قضية عادلة ويجب الدفاع عنها. شيوعيون أم لا، لم يكن يهم. بعكس التزمّت الموجود الآن. وكانت هناك رحابة صدر. الماشطة، مثلاً كان رجل دين ولكنه كان من «أنصار السلام». . . الشبيبي. . . إلخ. هذا كله أثر علي. وكانت هناك أيضاً لقاءات بيتية لعدد من الأدباء وتحصل نقاشات وهذا مهم أيضاً. وهذا الطابع انتهى الآن. سهرات تجمع شعراء وأطباء ورسامين مع زوجاتهم. مثلاً سلمان شكر، عازف العود، وخالد الرحال وبلند الحيدري وأنا. وكان الحديث يدور من زوايا عديدة وهذا يعطيك مخيلة أكبر. لقد قضي علي هذا كله. كان هناك تركيبة معينة في العراق وأريد لها أن تدمّر. قرأت مقالة في جريدة بريطانية منذ زمن تتحدث عن وجود جناحين للوطن العربي فيهما تماسك وهما العراق والسودان وقد قصصنا أجنة العراق. السودان نكّلوا به أيضاً ولكن لم يكن التنكيل دموياً. تاريخ العراق دموي. السودانيون مسالمون لكن البلد تحول إلى حجيم. هناك فئة كبيرة من المثقفين في البلدين. في العراق أكثر، ربما بسبب الإمكانيات المادية والعمق التاريخي من حيث تطور الحركات الثورية.

س: كيف ترى إلى تجربة السجن؟

م ن:بمقدار ما هي غنية فهي مريرة جداً لأنها سلسلة حرمانات. بالرغم من وجود رفاقك وأصدقائك معك، إلا أن الناس يختلفون. هناك عقليات مختلفة وهناك من هو ضيق الأفق ويتخاصم من أجل لحمة. كنا نأكل سوية ويكون هو واع سياسياً لكنه يختلف معك من أجل قطعة لحم. فلا يمكن أن تتحمل هذا الجو. وأنت مجبر أن تكون مع أناس لا تريد أن تراهم. قد تتحمله في الحياة العادية ولكن في السجن هو معك على مدار الساعة. حرمان لأنك لا تختار ما تأكله وتشربه. حرمان جنسي أيضاً فأنت بين أربعة جدران في الصحراء.

س: أنت تتحدث عن سجن «نگرة السلمان»

م ن: نعم.

س: ومتى دخلت السجن أول مرة؟

م ن: أول مرة تم توقيفي فيها كانت أيام نوري السعيد. داهموا البيت ووجدوا نشرات حول الانتفاضة فأخذوني إلى مديرية الأمن العامة. كنت خائفاً لأنني كنت أعيش في بيتنا في جو عناية رهيب لكوني الإبن الأول. وكنت أسمع عن التعذيب. كان معي إثنان من كبار الشيوعيين في التوقيف. أحدهم شامل النهر هو الآن في لندن. لم يضربونني فقد كانوا يعرفون عائلتي. سألوني: لماذا أنت شيوعي وأنت من عائلة غنيّة؟ كانت محاضرة.. وفي المرة الثانية كان ناجي العطية في الغرفة ورأيت والدي. فقال لي العطية: ما الذي أتى بك إلى الشيوعية وأهلك عندهم خيول تتنافس في الريسز (السباق) وأموالكم ما شاء الله؟ فقال لأبي: تكلّم معه. فقال أبي: هذه حياته وهو الذي يقرّر، كان موقفه جيداً جداً. فقال له: خذ ابنك واذهب. كانت القضايا تحل ببساطة.

س: متى كانت أول مرة سجنت فيها لمدة طويلة؟

م ن: بعد ثورة تموز كانت هناك انتخابات نقابة المعلمين في الكاظمية وذهبنا لننتخب. وقتل مدرس شيوعي من الأعظمية. كان البعثيون هم الذين قتلوه ولكنهم اتهمونا. وبالرغم من وجود عبد الكريم قاسم فإن جانباً من القضاء كان معهم، خصوصاً الشرطة. اتهموني بالقتل وأنا لم أكن موجوداً هناك أساساً. كان المقتول واحداً منا. وضعوني في موقف السراي لمدة أربعة أشهر. والموقف أصعب من السجن. كل يوم كانوا يأتون بأناس حشاشين ومجانين. ثم هو ضيق جداً. وأذكر في فترة ما بدأوا باحتجاز صباغي الأحذية الأكراد وغيرهم. واكتظ الموقف تماماً. كانت هناك ردهات وساحة. ولكثرة ما كان هناك ناس لم يكن بإمكان المرء أن يمشي. كان ذلك في الصيف. فوق المحل أسلاك شائكة ولا يمكنك رؤية السماء بسبب بخار الأنفاس المتصاعد. كنا ننام على جنب لعدم وجود مكان طبعاً. فلكي تتقلب كان ينبغي أن تقف وتدور لتنام على الجانب الاخر. كانت تجربة مثيرة بالنسبة لي. لم أجلس مع السياسيين. كنت أذهب وأجلس مع الناس العاديين وأستمع إلى قصصهم. حين تتكلم مع السياسي تراه يرتدي قناعاً أيديولوجياً ولا تراه على حقيقته. لا يريك الجانب الإنساني. أما الإنسان العادي فيفتح لك قلبه. حتى لو كان حشاشاً مثلاً، يقول لك أنا كذا وكذا وكل شيء عن حياته ولماذا أصبح حشاشاً. يحدثك عن أزقة بغداد القديمة وأشياء كثيرة. كتبت مسرحية عن هذا قدمناها في دمشق. بطل المسرحية شخص اسمه «أبو سكيو» وهو أحد الحشاشين الكبار الذين قابلتهم في السجن وقصته بديعة جداً. هذا عالم يُكتب عنه الكثير، عالم الناس العاديين. بعد انقلاب ١٩٦٣ كانت هناك مقاومة في الشوارع بالحجارة.

كيف هربت؟ بدون تفكير واع. أحياناً يقودك عقلك اللاواعي. اختبأت في بيت ثم انتقلت إلى بيت آخر. والذي خبأني كان مصلح سيارات لا أعرفه. وهناك قصص طويلة حول البيت وأهله. ذات يوم طُوّق البيت بالرغم من أنني لم أكن أخرج أبداً. شعروا، لسبب ما، بوجود شخص في البيت. لم أكن أترك الغرفة لكي لا يراني الأطفال ويخبرون زملاءهم في المدرسة. كنت أقضي حاجتي في حاوية. لا أدري كيف عرفوا يومها. كان البيت خالياً إذ كان أهل البيت قد خرجوا في زيارة. سمعت صوت سيارات، وعندما نظرت من النافذة شاهدت تسع سيارات تابعة للحرس القومي وقد طوقت البيت. كنت أسمع حوارهم وهم يتباحثون حول كسر باب الحديقة. ثم مر الچرخچي وكان أخو رئيس الحرس القومي للمنطقة. وقال لهم هذا بيت أبي فلان ولا علاقة له بالسياسة. ولولا مرور هذا الرجل لألقي القبض علي. بعدها حاولت أن أخرج وقمت بتزوير الهوية. ولكن كان يجب أن أخرج من البيت لآخذ الصورة عند المصور. فطلبوا من ذات الچرخچي ملابس تقليدية وارتديتها. وبينما أنا أتهيأ للخروج رآني هو مرتدياً ملابسه. أخذت الصورة وأعدنا له ملابسه ثم خرجت إلى البصرة. بعدها عرفت أنه كان على علم بوجودي طوال الوقت.

س: ماذا عن قصة الهرب الشهيرة؟

م ن: في البداية حاولنا الهرب من سجن نگرة السلمان. كانت بداية تفكير لأن الوضع السياسي كان يدل على أن الموضوع سيطول لسنة أو أكثر. الوضع كان سيئاً ولم تكن هناك، بتقديري طبعاً، بوادر نهوض جماهيري للتغيير. كانت هناك محاولة اتهريب سجين من الموصل لأنه كان ضابطاً مهدداً بالإعدام.  كان هناك بئر يتم حفره خارج السجن فكانوا يستعينون بالسجناء في الحفر. وقام هؤلاء بتغطية الضابط بالشوالات وأنزلوه إلى البئر كي يهرب في الليل. ومر الشرطي ورأى الحبل وسحبه، فبقي السجين طوال الليل في البئر. وبسبب البرد أصيب بالتهاب في الكليتين. أخرجه العمال في اليوم التالي. وكان موعد المحاكمة خلال عدة أيام فأخرجناه مرة ثانية ونجح. كان هناك بئر بين نگرة السلمان وبين السماوة اسمه «سلحوبية» كان من المفترض أن يكون علامة له على الطريق لكنه زل قليلاً. والنهار، طبعاً، حار في الصيف، ويبدو أن الحمّى تفاقمت عنده ولم يبق عنده من ماء القناني التي كانت معه. كان من المفترض أن يبعث لنا خبراً من السماوة وحين تأخر اضطررنا للتبليغ عنه. قلنا على الأقل سيبحثون عنه فلربما كان تائهاً. كان  اسمه صلاح ووجدوا جثته وكانت صورة ابنته في يده. وكانت الذِئاب قد نهشته. بعدها توقفت عمليات التهريب من نگرة السلمان لخطورتها.

في سجن الحلة تم انتخابي لأترأس هيئة إدارية من قبل السجناء. وهذا مكنني من الحركة لأنه كان هناك إشراف على الغرف والطبخ والصيدلية. كل هذه الأشياء كانت لدينا. فبدأنا نفكر بعملية حفر نفق. وهي قصة طويلة يمكن أن تحول إلى فلم ممتع.

س: هل كانت فكرتك أنت؟

م ن: كنا أربعة نفكر فيها سوية. أنا كنت أرسم، ولذلك كنت مكلفاً بالتخطيط. خرجت إلى السطح لأرى ما كان موجوداً حولنا. كان التفكير في البداية أن نخرج من الجهة الخلفية. حيث كان أحد الأزقة ينتهي إلى السجن ولم تكن به أي حركة في الليل. لكن بعض السجناء أحس بالموضوع وكانت هناك صراعات بين القيادة المركزية واللجنة المركزية للحزب الشيوعي. وحدثت شبه وشوشة كادت تشي بالموضوع. فبدأنا نفكر بموضع ثان من الجهة التي تؤدي إلى كراج الحلة. وسارت العملية بصورة جيدة. حفرنا نفقاً طوله ثلاثة وعشرين إلى خمسة وعشرين متراً. كانت هناك مشكلة التخلص من التراب واستخدمنا طرقاً عديدة. الذين خرجوا كانوا أكثر من عشرين شخصاً. كنا قد اتفقنا على إبقاء النفق مفتوحاً لكي يخرج كل من يريد. لكن كان هناك صراخ وانتبه الشرطة بعد خروجنا. وصلت إلى بغداد واختبأت فيها لفترة ثم بدأ التخطيط لموضوع الكفاح المسلّح. وكان الاتفاق هو أن يعقد مؤتمر للكفاح المسلح في الجنوب قبل الشروع بأي عمل. ولا أدري لماذا كان هناك استعجال ولم يعقد المؤتمر. البؤرة الأولى كانت في الأهوار ولم نكن هناك. كنا في ريف الحلة على نهر الغرّاف. وكانت مهمتنا هي التحضير للمؤتمر الذي لم يعقد. وهذه هي أحد أسباب الانتكاسة التي حدثت. ذهب الشهيد خالد أحمد زكي وشخص آخر لكي يقودوا العمل هناك. الحياة في الأهوار كانت في غاية الصعوبة وتتطلب من يمكنه أن يتعود عليها. كان الفلاحون متحمسين ولديهم بنادق. نحن تسلحنا ببنادق عادية وبعد ذلك، من خلال التبرعات، اشترينا رشاشات كلاشنكوف. إلى أن طوقت البؤرة الثورية وتم ضربها في الأهوار. كانت الأخبار متضاربة فمنهم من يقول انتصارات ومنهم من يقول هزيمة. قُتل خالد أحمد زكي وقسم ممن كانوا معه وألقي القبض على قسم آخر. لكن كانت هناك إمكانية عمل واسعة في الأهوار. كان عملنا هو أن نكون نقطة اتصال بين بغداد وبين الأهوار وتجميع السلاح وحفر مخازن له وضم الفلاحين للحركة. وهذا كان تنظيماً عسكرياً يختلف عن التنظيم المدني. وفي تلك الفترة وقع الانقلاب الأخير (١٧تموز، ١٩٦٨). ويبدو أن أحد الأسباب كان التحرك في الجنوب. لأن البيان الأول الذي أذاعوه قال إن الأمور في عهد عبد الرحمن عارف وصلت من السوء بحيث أن التحرك لم يكن في الشمال فقط، بل تفشت الاضطرابات في الجنوب. وهذا هو الأخطر، لأنه طوال تاريخ العراق لم يتمكن أي تحرك في الشمال من أن يحسم الوضع داخل بغداد على الإطلاق. بعكس التحرك في الجنوب. والدليل أن الدول التي ضربت العراق عام ١٩٩١ أرعبها أن يحدث شيء في الجنوب، أي الانتفاضة. ولذك ساعدت في القضاء على الانتفاضة تحت غطاء تهم وأمور عديدة. لديهم خوف من الجنوب لقدرته على حسم الأمور في بغداد. وكاد الوضع أن يحسم في بغداد. هنلك أخطاء عند المعارضة في الخارج. كان تقييمها للوضع خاطئاً وكذلك شعاراتها ومؤتمراتها. كانت تشكو من أخطاء كبيرة. في الداخل ربما كانت هناك اندساسات وتم رفع بعض الشعارات الخاطئة.

س: تقصد شعارات دينية؟

م ن: شعارات أعطت للحركة طابعاً طائفياً وهي لم تكن كذلك. كانت الحركة ضد السلطة. الجيش الذي انسحب مذلولاً هو الذي كان شرارة البداية وهو الذي فتح النار ضد السلطة. وقعت أخطاء كثيرة. أعتقد أنا ما يخدم الوضع في العراق هو أن لا تلعب الأقطار المحاذية دوراً في إرباك وضعنا الداخلي. المطلوب هو الإسناد فقط. أما التدخل والكلام والإذاعات فهذا لا يخدم الوضع كثيراً.

س: من الواضح أن لكل من سوريا وإيران وتركيا خطوطاً معينة داخل المعارضة يتم دعمها لتحقيق أهداف معينة. لا أطلب منك التكهن بالمستقبل طبعاً، ولكن من قراءتك للوضع وآخذين بنظر الاعتبار كل ما ذكرت من ظروف، هل ترى احتمالات نشوب انتفاضة ثانية؟

م ن: أعتقد بأن الوضع في العراق مهيأ للاشتعال في أي لحظة. الإشكال هو في القيادات السياسية. عندما نتحدث عن الدول المجاورة نعرف أنها لا يمكن أن تعمل بدون قيادات موجودة أساساً داخل الحركة السياسية العراقية. المطلوب من القيادات السياسية هو أن تبني علاقاتها على أساس مصلحة العراق قبل كل شيء. وهي مصلحة الأمة العربية والمنطقة كلها والعالم الثالث.  إذا ما تحرر أي بلد فسيكون ذلك في مصلحة الكل. الإشكال هو دائماً في القيادات السياسية. عدد كبير منها لا يساعد تاريخها على أن تثق بها إطلاقاً. هو تاريخ ملئ بالإشكالات وليس فيه أي شيء يدل على حب الشعب العراقي. ثم ترى هذا التكالب على الأموال كأنما الأمر مصدر ثراء. لقد أصبح وجود بعض القيادات في المعارضة مصدر ثراء لها. أذكر مرة كنت جالساً في مقهى وتوقفت سيارة مرسيدس سوداء ونزل منها أحد قادة المعارضة. وتوالت وراءها ست سيارات. كانوا يلتقون على موعد غداء.

س: في دمشق؟

م ن: لا يهم أين. فرآني أحدهم وكان يعرفني. ارتبك وقال: لدينا اجتماع. هذا وضع غير معقول. الناس تتضور جوعاً سواء في الداخل أو في الخارج. وضع العراقيين لا يحسد عليه. طبعاً نقول إن البلد الفلاني مشكور لأنه يسمح للعراقيين بالبقاء فيه. . . إلخ. لكن وضعهم صعب ووضع هذه البلدان أساساً صعب اقتصادياً.

س: يقال الكثير عن عدم وجود قيادات ورموز لها مصداقية، فماهو السبب؟ هذا الشعب المعطاء. . . هل هي الاغتيالات والتصفيات، أم ماذا برأيك؟

م ن: طبعاً التصفيات لعبت دوراً مهماً. عدد كبير من الكادر السياسي الجيد تمت تصفيته وصار هناك فراغ كبير. والمفروض أن يسد هذا الفراغ من قبل أناس آخرين. إن تمكن بعض القيادات غير الجديرة من قيادة العمل جاء سبب الوضع المادي. هناك إسناد من دول أجنبية، أمريكا وغيرها، لسبب ما. وهذا يمكنهم من الحركة أكثر من آخرين لديهم تاريخ جيد ومشرف ولكن ليست لديهم إمكانية. ثم القيادي النزيه والجيد ليس مستعداً لأن يساوم و«يمسح جوخ». أما الآخرون فمستعدون لأي شيء. أذكر مرة كنت أزور إحدى حركات التحرر وفيها قيادات متعددة. كنت أريد أن أطلع على تجربة فصيل من فصائلهم. وأحد القادة كان في زيارة إلى السعودية. وعند وصوله إلى السعودية بدأ يتكلم مثل السعوديين بالضبط. ذهب إلى الصين وأخذ يتكلم مثل الصينيين بالضبط. هذه كارثة طبعاً. ولذلك عندما حدث التغيير في هذا البلد كان لصالح فئات أخرى ولم يحدث شيء. أنا أتحدث عن أرتريا وهو وضع غير جيد. جاء شخص لم يكن مرشحاً إطلاقاً ولديه علاقات مع إسرائيل أيضاً.

س: هل حاربت في إرتريا؟

م ن: حملت السلاح معهم لمدة ثلاثة أو أربعة أشهر.

س: في أي فترة؟

م ن: ١٩٧٠-١٩٧١. وفي ظفار بعدها بفترة وجيزة.

س: ماذا عن مناطق أخرى؟

م ن: ذهبت إلى فلسطين. كانت هناك عملية واحدة في الأغوار لكي أرى فقط. أطول فترة كانت مع الإرتريين. ليس القصد حمل السلاح معهم. فهم لديهم من يقاتل ولا يشكون من نقص عددي. الهدف هو دراسة التجربة ومعرفة أبعادها والتقاطعات الدولية لكل تجربة. وكذلك التعرف على الإشكاليات ومقارنتها مع الكفاح المسلح في جنوب العراق، مثلاً، أو الثورة الفلسطينية. بالإضافة إلى البعد السياسي والنضالي، هناك بعد جمالي بالنسبة لي أيضاً. كنت أفرح جداًَ عند الذهاب إلى هذه المناطق. أولاً، تلتقي مع الطبيعة وجهاً لوجه. وتلتقي معها وأنت على حافة الخطر لأنك معرض للقصف في أي لحظة من قبل قوات هيلا سيلاسي مثلاً. كانت هناك دوريات تمر ومعك كلاشنكوف وعدد من الثوار. وجودك على حافة الخطر يجعل الجسم مثل جهاز رادار تختلف استقبالاته. دستيوفسكي يتحدث عن هذا بشكل جميل. يتعرض لحكم الإعدام ولكن قبل دقائق من تنفيذه جاء العفو فيتحدث عن حسه بالحياة في تلك اللحظة. وأنا عشتها في إرتريا لأن الخطر كان ممكناً في أي لحظة وهناك طائرات ودوريات. فتشعر بوجود حوار مع الأشجار والصخور ومع كل شيء. حوار حقيقي وليس مجازاً. تشعر بأحاسيس كل ما هو حولك. كل هذا عنده حس ويشكل نسيجاً حياتياً واحداً وأنت جزء منه. ليس هذا بالشيء القليل. إن تجربة من هذا النوع تعطيك الشمول الذي يكون عند الصوفية الكبار مثل ابن عربي والحلاج ورابعة. أنا أعتقد بأن ما لم يكتب عنهم هو أنهم بالتأكيد شعروا أنهم جزء من هذا النسيج الحي الكبير الذي هو الحياة، أو الكون. هذا أخطر ما في التجربة الصوفية ولم تتم الإشارة إليه إلى الآن.

س: مع شعرك يحس المتلقي بأنك في حالة طرب مع الكون. وأنت تقول في إحدى قصائدك «طربٌ بالكون وغبيّ من لا يطرب.» فما الذي يطربك؟

م ن: كل ما هو حقيقي وجميل. مثلاً، أنا أخرج صباحاً لأتمشى وأنظر إلى كل ورقة وأسمع أصوات الحيوانات أو النسيم. كل هذه أنتبه إليها. هذه كلها مهمة في التجربة الشعرية. هناك تجربة بسيطة ولكنها هائلة. خرج أحد المتصوفة إلى نيل واسط. كان هناك نهر في العراق اسمه النيل ولكنه جف. وفي زرقة الصباح رأى طائراً أبيض على المياه. فشهق وقال: سبحان الله يا لغفلة العباد. صار عنده حس جمالي هائل لكي يشهق وينتبه إلى غفلة الناس عن كل هذا الجمال. هذا أكبر من أي صلاة أو عبادة، حسك بالوجود بهذا الشكل. القرآن يقول إن الله أودع شيئاً من الألوهة في الإنسان. هذا هو حس الألوهة. هنا تشعرأنك جزء من هذا الكون الجميل.

س: تأثير الماركسية واضح على حياتك وشعرك. أين تقف منها الآن؟

م ن: كنت عضواً في الحزب الشيوعي لفترة طويلة. ومن البداية كنت أعتبر أن الماركسية مهمة جداً، لا سيما في جانبها الاقتصادي. لكني أختلف معها في قضايا معينة. وكنت أقول هذا من البداية حتى عندما كنت في الحزب.

س: مثلاً؟

م ن: قضايا كثيرة.

س: ما هو موقفك من قضية الإله؟

م ن: هذه هي إحدى الإشكالات. أقول في القصيدة «سمّاره كنّا وكان الأرقا».

س: هناك منحى صوفي في أعمالك الأخيرة.

م ن: هو موجود منذ البداية ولكن لم ينتبه إليه.

س: صحيح، ولكن مؤخراً أكثر.

م ن: هو عامل السن الذي يجعلك تركز تجربتك أكثر. فيكون حسك الجمالي أعمق. بخلاف ما يقال عن أن الشباب أكثر حساسية للجنال. أنا أعتقد بأن هذا يعتمد على بنية الإنسان، لا كونه شاباً أو كهلاً. ويعتمد على كيفية استقبال العالم.

س: يقول ماركيز إن الحب الحقيقي لا يبدأ إلا بعد الستّين.

م ن: هذا يعتمد. هناك من لا يستوعب الحب حتى لو صار عمره مئتي سنة.

س: إذا أنت لست ملحداً؟

م ن: « أنا لم أشرك» أقول في القصيدة. لكن هذا ليس متأتياً من قناعات دينية ولكن بسبب تجربتي. التجارب التي مررت بها تدل على أن الكون ليس عبثياً أو عفوياً أو. . . إلخ.

س: أنت لا ترى الموضوع ضمن السياقات التقليدية. كيف تراه إذاً؟

م ن: أنا لست طقوسياً. في القرآن قوانين عامة، كونية ووجودية. وهناك ما هو لمخاطبة أناس من ذلك الزمان. لقد جاء هذا بلغتهم، لغة قريش، كي يستوعبه الناس ويعوه. مثلاً، الخمرة حرمت تدريجياً لأنهم كانوا يصلون وهم سكارى. ربما كان هناك جانب بشري هام عموماً في الطقوس. لأن الإنسان، وبالرغم من كل تطوره، فمازالت قشرة خفيفة فقط من دماغه هي المتحضرة . وفي لحظة واحدة يمكن أن تطير هذه القشرة ويصبح متوحشاً. فربما تساعد الطقوسية، من هذه الزاوية، في تهذيب الإنسان. لكن عندما يكون لديك حس عال بالوجود والكون، تشعر أنك. . . كما أقول في قصيدة «جسر المباهج» «كلّ حسب طريقته يصلّي.»

س: هذا يقودنا إلى الظاهرة الدينية وتسييس الدين. ما هو رأيك بالموضوع؟ إلى أين تقودنا وما هي تحفظاتك عليها؟

م ن: إذا ما كان هناك تحفظ فهو أن يكون التيار الديني أكثر تسامحاً وأكثر انفتاحاً. يجب أن تكون هناك عقلية منفتحة على العصر كله. أنا أعتقد أن هذه حركات مهمة جداً. خذ لبنان، مثلاً، الجزء النابض من المقاومة ضد الصهيونية هو حزب الله. طبعاً هناك المقاومة الوطنية لكن حزب الله هو رأس الرمح فيها. لقد دوخ إسرائىل بقتاله وهو يقدم ضحايا بشرية هائلة. ليست هذه الحركات مهمة من هذه الزاوية فقط. الحياة دائماً بحاجة إلى توازن بين ما هو مادي وبين ما هو روحي. لكن ليس من الروحي أن تقتل شرطياً أو معلمة أو صحفياً في الجزائر. ما هو ذنب هؤلاء المساكين؟ هولاء جزء من مقاومة أوضاع معينة من استعمار وما شابه. هذا شيء غريب لا أدري ماذا أقول عنه. هل تسقط النظام بقتل شرطي؟ كلا، إطلاقاً. الشرطي مجبر ومسكين.

س: انتقدت اليسار العربي في شعرك. ما هو تعليقك على وضعه الحالي وهل له مستقبل؟

م ن: هناك مقولة لهوتشي منه وهي « إن قضية الشعب الفيتنامي هي قضية الحزب الشيوعي الفيتنامي. وعلى كل الأحزاب الأخرى أن تتبع رأي الحزب الشيوعي الفيتنامي.» أي أن لا يتدخلوا ومن هنا كان نقدي. إن العراق قضيتنا نحن وليس قضية الاتحاد السوفيتي أو المعسكر الاشتراكي أو الرأسمالي. هذه مصالح دولية أثبتت الأيام أنها موجودة ولم تزل. وإذا ما كان هناك لوم وعتاب وتجريح بالنسبة لليسار، فهذا هو أحد الموضوعات. الشيء الآخر الذي يجب أن يفهم الجماهير وحسها ونبضها بشكل جيد. أن يفهم تاريخها وأن لا ينعزل عنه وأن لا يهمل الجماهير مهما كانت متخلفة. مثلاً، عندما قتل السادات، ومهما قيل عن القضية، فهي كانت رد فعل على توجهات السادات واندفاعه نحو إسرائيل. نفذت العملية من قبل مجموعة من الجنود ومن ضمنهم خالد الإسلامبولي. أو حادث جهيمان وموضوع الحرم. ظل اليسار ساكتاً وكذلك قواه السياسية. وكان اليمين هو الذي يطبل ويزمر. هذا الرجل هو دم اليسار وقام بحركة ضد وضع تعيس في السعودية.

س: بعد كل الذي حدث في العالم في العقد الأخير، هل ترى إمكانية لصعود التيار الماركسي أو حركات متأثرة به من جديد؟

م ن: الإنسان يتعلّم من التجارب. فيمكن تعلم الكثير إذا ما تمت الاستفادة من مشاق التجربة ومتاعبها ونواقصها. كانت هناك بيروقراطية هائلة. كما يجب الإنصات إلى الجماهير بشكل جيد وهذه أوليات الماركسية. وأن يكون هناك توازن، كما ذكرت، بين المادي وبين الروحي. هناك حاجة بشرية كبيرة لهذا. فنحن نعيش الآن تيارات عبثية فظيعة وجرائم غريبة. شخص يدخل إلى مطعم ويقتل أناساً بدون سبب. وهناك الانتحارات الجماعية أيضاً. وهذه أزمة روحية عند الناس. إن التطور المادي والوصول إلى القمر والكواكب كلها أمور مهمة. لكن قناعات الإنسان الروحية الداخلية، التي ربطها بشكل من الأشكال بهذه القضايا، وهذا خطأ، بدأت تهشم. الجانب الروحي لا علاقة له بالوصول إلى القمر.

س: هناك حديث كثير عن أزمة الشعر وعن العلاقة بين تطور الوسائل السمعية والبصرية والرقابة والمصاعب المادية وأسعار الورق. فهل الشعر في أزمة؟

م ن: لقد طرحت أشياء عديدة. إن طغيان المرئيات، التلفزيون والـ «سي إن إن» وغيرها، سوف يشغل الناس لفترة. لكن الأذن تظل دائماً بحاجة إلى شيء آخر. أنا مثلاً لا أحب أن أشاهد التلفزيون كثيراً. أحب أن أسمع ولا أدري لماذا. بعد فترة سيكون هناك توازن مرة ثانية. الجانب الثاني هو أسعار الورق والرقابة. طبعاً هذه تؤثر بشكل سلبي. وعندنا في البلاد العربية هذه الظاهرة، مع الأسف، أكثر تفاقماً. فقليل من الناس يمكنهم أن يشتروا كتاباً. مثلاً، بعض الكتب في سوريا سعرها ٨٠٠ ليرة وراتب الموظف ٣٠٠٠. أما في العراق فالموضوع لا يمكن الحديث عنه.

س: من الواضح أن هناك انحساراً في جمهور الشعر. هذه ظاهرة عالمية لا تقتصر على السياق العربي. هناك من يقول إن قصيدة النثر هي السبب؟

م ن: هناك قصائد نثرية جميلة. لا علاقة لقصيدة النثر بالموضوع. هناك علاقة بالاغتراب. بعض التيارات تطرح ما معناه أنه كلما كانت هناك غرابة أكثر في القصيدة وصعب فهمها فهي قصيدة عظيمة. وهذا شيء سيئ جداً. وهو في الحقيقة عجز من جانب تيار معين عن إيجاد جو شمولي للقصيدة. القصيدة تحتاج إلى جو وفضاء شموليين. وعند عدم مقدرتهم على توفير هذا يجمحون إلى الغرابة والغموض. تعجز أنت عن الفهم وتصبح أنت المتهم! الجماهير، بفطرتها، عندها عزوف عن هذا ولن تتابعه. وهذا هو رد فعل طبيعي وسليم وشيء جيد. أحياناً يكون الغموض جزء من المادة ويضيف لها جمالية. هذا الغموض ليس غريباً. أما تقصّد الغموض فهو مرفوض.

س: إذا ليس لديك مآخذ على قصيدة النثر كشكل. هل تعتقد أن بإمكانها أن تأخذ مكانتها؟

م ن: لن تحتل مكان أي شيء آخر. يبقى النهر نهراً والبحر بحراً والساقية ساقية. كل واحدة لها إيقاعها.

س: هناك من يتهمك بالمباشرة؟

م ن: هذا ليس اتهاماً وأنا أقول هذا.

س: هم يرون المباشرة عيباً.

م ن: أنا لا أتصورها عيباً وإلا لكنت تجنبتها.

س: هل هذا هو الثمن الذي تدفعه لكونك قريب من الجماهير؟

م ن: أنا دائماً أقول إنه عندما يكون لدي الوقت الكافي، أعمل على القصيدة كما يحلو لي. لكن هناك ظروف معينة. مثلاً، عندما احتلت إسرائيل لبنان، فهذا موقف يسحب فيه شخص سلاحاً لكي يقتلني. وبجانبي سكين لكن شكلها ليس جميلاً. ألا أستخدمها لضربه؟ بل سأستخدمها. أنت أحياناً تحتاج لأن تدافع عن وجودك وعن وجود أمة وشعب. فتستعمل السلاح القريب منك. لا تجلس لتفكر كيف تزخرف الخنجر. جميل جداً أن يكون الخنجر مزخرفاً. هذا رائع. ولكن في ظروف معينة تصبح القصائد برقيات. كنا نبعثها بالفاكس أيام لبنان. كانت تلعب دورها بين الناس وهذا ما يجعلني أكثر قرباً منهم. وعندما تكون قريباً من الناس تشعر بالكون بصورة أفضل. تشعر أنك جزء من النسيج الحي.

س: لمن تحب أن تقرأ؟ من يلهمك؟

م ن: أحب قصائد وليس شعراء. أحب المتنبي، مثلاً، في أغلب قصائده. لا أحب المديح. فيه صور جمالية لكنني لا أحبه. منذ صغري كنت أذهب إلى مكتبة والدي وآخذ ديوان المتنبي لأقرأه. وعندما يصل إلى المديح كنت أتركه.

س: ومن المعاصرين؟ إذا ذكرت لك أسماء هل من الممكن أن نعرف رأيك بها؟

م ن: لا أحب أن أجيب على أسئلة كهذه.

س: طيب. هل من المكن أن تحدثنا عن تجربتك المسرحية الأخيرة؟

م ن: هناك مجموعة من الشباب العراقيين في الشام. جاء قسم منهم من معسكر رفحة ومنهم من هو مخرج. كان لديهم جو من اليأس بخصوص إمكانيات العمل. فتكلمت مع شاب منهم وقلت له لماذا لا نقوم بعمل؟ كانت لدي محاولات مسرحية أيام يوسف العاني وكان يقول لي لماذا لا تكتب؟ فقلت لهذا الشاب إني سأكتب نصاً. لكي نذكّر الناس بأجواء العراق. وهذا هو المقصود أساساً وهو إعادة العراق للذاكرة. لأن الموجودين في الخارج بدأوا ينسون شيئاً فشيئاً. لكي نذكّر الناس. وسأكتبه بالعامية. فوافق وكان متحمساً وهو لديه قدرة إخراجية. جمعنا عدداً من العراقيين الموجودين في الشام من مختلف الاتجاهات: قصة وشعر. ووافقوا على الاشتراك معنا في التمثيل. لم تكن لديهم خبرة سابقة في التمثيل. واشتركت معنا بعض الأخوات السوريات، وهن ممثلات، لأننا كنا بحاجة إلى العنصر النسائي. وكان هناك شاب مغربي أيضاً. كان عدد الممثلين أكثر من عشرين وهذا صعب. يتطلب مقدرة كبيرة على تحريك المجاميع وقدرة جمالية في فهم فضاء المسرح. كنت أكتب فصلاً وأعطيهم إياه ليعملوا عليه. وفي الحقيقة فهم بذلوا جهوداً مضنية وعملوا في ظروف صعبة. كان العمل في المنتدى العراقي في دمشق. وحصلنا على تبرعات من النادي العراقي في ألمانيا ومن بعض الأشخاص. من صديقة سورية وصديق ليبي. واستمر التدريب لمدة سبعة أشهر. العمل الذي اخترته يدور حول التجربة التي عشتها في موقف السراي. كل شخصيات المسرحية هم من العاديين. واحدة منها فقط هي شخصية سياسية وانتهازية.

س: هل تم تصوير المسرحية؟

م ن: صورت، ولكن للأسف، لم تكن لدينا آلات حساسة. هناك بعض المقاطع التي صورها المخرج ولكن لم أشاهدها. الشخصية الرئسية حشاش كان معنا في موقف السراي اسمه «أبو سكيو». وكان محششاً وعيناه مغمضتان على مدار الساعة. لم أكن أنام في الليل. وفي الصباح كان هو يعمل الشاي لكي يصحو وكنا نتحدث. كان يتكلم وهو مغمض العينين ويحدثني عن «درابين» بغداد القديمة وساحة الكشافة والمكتبلية وعن سبب حجزه. كانت لديه حكايات كثيرة. كان يبيع «الباگٓلة» أمام وزارة الدفاع ويوقف عربته أمام محل لبيع الفاكهة. كان زبائنه يلقون بالقشور على الأرض بعد الأكل، فكان صاحب الدكان يتعارك معه ويقول له: لا تقف أمام دكاني لأنك توسخ الرصيف. وذات يوم قلب صاحب الدكان العربة وصادف أن مرت واحدة من الميدان كان أبو سكيو يحبها فخجل لأنه ضُرِب أمامها. فقام أبو سكيو بحرق الدكان في الليل وتم توقيفه. في المسرحية يسأل أحد الموقوفين، وهو السياسي، أبو سكيو: لماذا أنت هكذا؟ فيقول له أبو سكيو: كنت على ما يرام. لكن عندما بدأت أقرأ جرائدكم بدأت بالتحشيش. فالمسرحية فيها نقد لاذع ومر وإدانة للشخصية العسكرية. المسرح مقسوم إلى قسمين وفوق الموقف هناك عسكري يروح ويجيء مرتدياً نياشينه وهو المسؤول عن الوضع كله.

س: ما هي أقرب قصائدك إلى نفسك؟

م ن: كلها قريبة إلي. أنا أستمتع بآخر قصيدة أكتبها أكثر. الآن أعمل على قصيدة بالعامية. في البداية لا أكتب. بل أقلب الفكرة في ذهني.

س: للكتّاب طقوس وعادات معينة. هل تكتب في أوقات محددة؟ هل لديك طقوس خاصة؟

م ن: ليس عندي قانون. مثل الشرب. فأحياناً أشرب وأحياناً لا.

س: هل تمر بفترات جفاف لا تكتب فيها؟

م ن: كلا. في البداية ربما. أحياناً تمر ستة أشهر دون أن أكتب. وأنا أعرف هذه الفترات. قد أضجر فيها. لا أكتب ولكنني أجمع بشكل غير واع. أقول في إحدى القصائد « يغرق الداخل بالزبل إذا ما أضرب الشعر ليومين.»

س: عندما تركت بغداد آخر مرة، هل كان لديك شعور أو حدس أنها ستكون آخر مرة؟

م ن: عندما حلقت الطائرة فوق بغداد، وشاهدتها من فوق، بكيت وعرفت أنني لن أرجع لزمن طويل.

س: متى كان ذلك؟

م ن: بعد أن أتوا بعدة أشهر (١٩٦٨).

س: حين تحن إلى بغداد ما هي الصور التي تمر بذهنك؟ هل هناك صور أو أشخاص معينون؟

م ن: كل شيء. بالذات أيام الطفولة. لكنني أتذكر كل الناس ولدي حنين شديد لهم. بعضهم رحل إلى غير رجعة.

س: تنقلت في مدن عديدة في المنفى. فهل هناك مدن أحسست فيها بحميمية أو ارتحت أكثر فيها؟

م ن: عشت في أوربا ثماني سنوات ولم أحبها. عشت في اليونان وفي باريس و ومدن أخرى. عندما أكون على الطائرة إلى أي بلد عربي أجدني أبتسم دون إرادتي. حينما أذهب بالطائرة إلى ليبيا، مثلاً، أشعر بقدوم الشمس. في سوريا كذلك نفس الشيء. ولدي أصدقاء كثر وهناك ود عجيب بيني وبينهم.

س: وقعت عدة محاولات ضدك. هل من الممكن أن تحدثنا عنها؟

م ن: هم يتابعونني. ذات مرة التقيت بشخص من حراسات صدام أثناء اختطافي في اليونان.

س: متى؟

م ن: أيام الهجوم على المفاعل النووي العراقي. سحب مسدساً وعليه كاتم للصوت وكان أحد الأسئلة التي وجهها لي هو عن جواز السفر الذي استخدمه. كانوا سينقلوني للسفارة لإجراء تحقيق طويل معي. فقلت له: جواز عراقي. ولم يكن هذا صحيحاً حيث أنني استعملت عدة جوازات. فقال لي: دوختنا ثلاث عشرة سنة. كلما تبعناك إلى مكان ما تتحرك إلى مكان آخر. مما يعني أنهم كانوا يتابعوني.

س: هل كنت تتقصد مراوغتهم؟

م ن : كنت حذراً ولكن ليس بالقدر الكافي.

س: وكيف تخلصت منهم؟

م ن: قصة طويلة. ربطوني بحبال وزرقوني بإبر منومة. ولكن كان لدي إحساس داخلي بأنني سأنجو. كنت أشعر بذلك.

س: وماذا عن المحاولة التي وقعت في اليمن؟

م ن: كان هناك تخطيط لمحاولة. ولكن اتصل شخص من السفارة ليحذرني من الذهاب إلى مكان معين. زوجته حثته على أن ينبهني. لم يذكر اسمه ولكنه قال إن زوجته كانت تصب الشاي لمجموعة كانت تجتمع في بيته وسمعتهم يتحدثون عن الخطة ونقلت الكلام له.

س: قلت لي في لقاء سابق إنك التقيت مرة بصدام؟

م ن: نعم. بعثوا علي من القصر الجمهوري وكان حديثاً طويلاً. كانوا يحاولون استرضائي بكافة الوسائل وعرضواعلى أن أشغل منصباً. لم أكن مستهدفاً بصورة شخصية آنذاك.

س: كان صدام نائباً للرئيس في حينه؟

م ن: كلا، لم يكن لديه أي منصب. كان قيادياً في الحزب. لم يكن متوتراً وكان دمثاً في الحوار بالرغم من إجاباتي التي كانت واضحة جداً. مثلاً أحد الأسئلة التي سألها هو: ألا تثق بنا القيادة المركزية؟ وكنت أتكلم معه علي أساس أنه ليست لي علاقة بأحد. فقال لي: حسناً. أنت، مطفر النواب، هل تثق بنا أم لا؟ فقلت له: يمكنك أن تعيدني إلى الموقف. ليس عندي ثقة بكم. ضحك ولم يقل شيئاً. لا أدري. هو لديه تفكيره وأبعاده. لكن هذا ما دار.

س: ماذا تذكر عن فهد؟

م ن: كنت صغيراً عندما أعدم. كنت طالباً في المتوسطة. أذكر أن أحد الذين أعدموا معه كان يهودا صدّيق، وكان يدرسني مادة الهندسة.

س: هل هناك شيء ندمت عليه فكرياً أو حياتياً؟

م ن: لا. هذه حياتي ولو عادت من جديد فستكون كما هي. بالعكس، أنا سعيد لأن هذه الحياة مكنتني من أن أكتب وأن أرسم.

س: هذه ثاني زيارة لك لأمريكا خلال عام. ما هي انطباعاتك عنها وعن ثقافتها؟

م ن: بلد ضخم. ضخم فقط. بصراحة، لم أحتك بالمجتمع الأمريكي.

س: تحدثت عن دستيوفسكي. لمن تقرأ من الأباء العالميين وهل تقرأ الشعر المترجم أو الروايات؟

م ن : أقرأ الشعر المترجم ولكن لا أحبه بالضرورة. هناك أشياء أحبها لكن الكثير يضيع في الترجمة. أقرأ الكثير من الروايات. وأحب قراءة الكتب العلمية وكتب الفلك. فيها خيال عجيب وتضيف أشياء كثيرة. كما أحب القراءة في علم الأحياء والوراثة وأحاول اقتناء هذه الكتب، خصوصاً بعد تجربة موت سريري مررت بها في عدن.

س: موت سريري؟ كيف؟

م ن: قصة طويلة لا يتسع لها المجال. أنا أظل أعاند وأي قضية لا أوافق عليها لابد أن أفهمها. وهذا كان أحد الخلافات في العمل السياسي. فهم يقولون لك يجب أن تنفذ ثم تعترض. ما هي الفائءة؟ بعد خراب البصرة؟ أنا أعتقد أنه رذا لم تفهم قضية ما يحب أن تستمر بالاعتراض. كان يجب أن أفهم تجربة عدن، فقرأت كمية هائلة من الكتب. بقيت لسنة ونصف في القاهرة أتابع الموضوع. قرأت كتباً كثيرة في الفيزياء وكل ما له علاقة بالتجربة ولا تزال غير مفهومة.

س: هل هناك محاولات لترجمة شعرك؟

م ن: هناك شخص قام بترجمة «وتريات» إلى اللغة الانكليزية وبعث لي بنسخة. الطاهر بن جلون ترجم بعض القصائد إلى الفرنسية ونشرها في «اللوموند». وهناك شاب عراقي في الدانمارك ترجم قصيدة واحدة ونشرت ضمن مجموعة لشعراء عراقيين. كما أن هناك باحثة أمريكية تعد كتاباً عن شعري وهي التي قدمتني في العام الماضي في جامعة هارفارد.

س: هل من الممكن أن تحدثنا عن تجربة الهرب إلى إيران واعتقالك هناك؟

م ن: بعد انقلاب ١٩٦٣ هربت عن طريق المحمرة إلى إيران واختفيت في طهران لفترة. كانت رجلي قد التوت وتورمت لأنني كنت ملاحقاً وتهت أثناء العبور. في إيران اتصل بعض العراقيين بالتنظيمات اليسارية هناك فهيأوا لنا سيارة تبرع بها أحد الأصدقاء. وبعثوا معنا بشخص ليذهب معنا إلى الاتحاد السوفيتي. وكنا قد ادّعينا بأننا نذهب إلى مصيف. أنا كنت أتكلم القليل من الفارسية. أحد الذين كانوا معنا لم يكن يعرف الفارسية فادعى أنه أخرس. ولكنهم اكتشفوا الأمر وأعادونا إلى طهران حيث تم تعذيبنا. وجدنا عدداً كبيراً من المعتقلين معنا. بقينا هناك من الشهر السابع، حين ألقي القبض علينا، إلى الثاني عشر. ولم نعلم بحصول تغيير في العراق وبقدوم عبد السلام عارف. ويبدو أنه كانت هناك صفقة بين الحكومتين، العراقية والإيرانية، لاستبدالنا بمناضلين من حزب توده. فأعادونا إلى البصرة. أخذونا إلى موقف البصرة ثم عزلوني وأخذوني إلى العمارة لأنني كنت أذهب إلى الأهوار. وبعد تحقيق شكلي أرسلوني إلى بغداد. وفي بغداد أحالوني إلى المجلس العرفي. ولم تكن محاكمة. تقف ويطلبون منك أن تشتم الحزب الشيوعي. وإن لم تشتم يحكم عليك، وإن شتمت تحصل على البراءة. ووضعوني في البداية لكي يؤثروا على مئة وعشرين شخصاً. كلنا كنا من الكاظمية. وأنا كنت في بغداد وقاومت في ساحة التحرير وليس في الكاظمية. قالول لي: اشتم، فقلت لهم: كلا. قالوا: اشتم كل الأحزاب، فقلت: لا. هم أرادوا أن يؤثروا على موقف البقية على أساس أن انهياري سيضعفهم. فحكموا علي بعشرين سنة وأخذوني إلى غرفة جانبية وحكموا علي بثلاث سنوات من أجل قصيدة «البراءة». حاول أهلي أن يخرجوني بالواسطات وما شابه ولكن دون جدوى. كان المدعي العام هو غالب فخري والحاكم نافع بطة.

س: وماذا عن محاولة والدتك زيارتك في طهران وتأثيرها في حياتك؟

م ن: بدأت معاناة والدتي معي منذ بداية ارتباطي بالحركة السياسية. فهي كانت معي في كل خطوة. كانت تزورني كل يوم في الموقف وكل أسبوع عندما كنت في نگرة السلمان. وعندما سمعت أنني كنت في السجن في طهران صممت على أن تأتي. وكان الحصول على جواز مسألة شبه مستحيلة. فعبرت الحدود بصورة غير شرعية (قچغ). ووصلت إلى نفس السجن الذي كنت فيه لكنها لم ترني لأنه في نفس اليوم تم تسليمي للعراق. وعندما عادت عرفت بأنني حوكمت. عندما خرجت من العرفي كنت في سيارة مشبكة، فقلت لها: «عشرين سنة». وبدأت الزغاريد بعد أن قلت ذلك. هم كانوا يخافون من أن يكون الحكم بالإعدام. توفيت والدتي في العام الماضي. أخبروني وأنا في مطار تونس. وتضايقت جداً لأنه لم يكن بجانبي أحد. أحسست قبلها بوقت مثلما أحسست بوفاة والدي.

س: كيف؟ ومتى توفي الوالد؟

م ن: توفي الوالد في ١٩٨٢. كنت أتصل بهم مرة كل أسبوع أو أسبوعين. ومرت فترة أسبوعين ولم تكن لدي رغبة بالاتصال. لم يكن هناك اتصال من ليبيا. وفي تونس، من رنين الهاتف أحسست بوجود فراغ في البيت وكأنها غير موجودة. اتصلت بكل البيوت ولم يكن هناك جواب. ثم رفع السماعة ابن أختي وقال: قبل قليل أخذوها إلى النجف.

س: هل صحيح أنه كانت هناك محاولة لاغتيالك بعد أن قلت جملتك الشهيرة «يا أولاد القحبة، لا أستثني منك أحداً»؟

م ن: أطلق علي النار ذات ليلة ولكنني نجوت. الآن تعودوا عليها (يضحك).

س: هناك أسئلة كثيرة ولكن، للأسف، ليس هناك وقت.

م ن: الأسئلة ما تخلص (يضحك).

س: شكراً جزيلاً.

م ن: يا أهلاً ومرحباً.

***

نُشِر هذا الحوار الذي أجراه سنان أنطون مع مظفّر النوّاب في «مجلة الدراسات العربية» (العدد ٢، خريف ١٩٩٦، ص. ٣-٢٦) بنسختها الورقيّة. وتعيد «جدليّة» نشره هنا بأجزاء مع المقدّمة.

جدلية

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى