صفحات الحوار

حوار مع ياسين الحاج صالح حول كتاب -بالخلاص، يا شباب!-


    إعداد أحمد أبا زيد

    – هل كان يمكن أن يخرج هذا الكتاب إلى النور لو لم تقم الثورة؟

    بلى. أكثر مواده كانت ناجزة قبل الثورة. وكنت بصدد إكمال ما لم ينجز منها من أجل النشر.

    – لماذا اختار اليسار في فترة مبكرة من حياته؟

    كان اليسار في “الجو” أيام مراهقتي في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين. وما اجتذبني إليه هو الثقافة، كنت أنبهر بنقاشات أخوتي وأصدقائهم الأكبر سنا. اقترن اليسار في ذهني في تلك السنوات بالكتب والثقافة. الثقافة ذاتها هي ما في النهاية قادتني بعيدا عن اليسار الشائع، الشيوعي، علما أني كنت منذ البداية في تنظيم “مارق” وغير تقليدي.

    ما أحبه في اليسار هو الروح الفتية والتمرد وحب الثقافة ونزعة العدل والأفق العالمي، وما ينفرني هو تسخير هذه الأشياء لتكوين عصبية جديدة تشبه عصبية العشيرة أو الطائفية. ما زلت أعتبر نفسي يساريا، لكن أعتقد أن هناك حاجة إلى إعادة بناء الفكر والجساسية اليساريين، لدينا وفي العالم ككل.

    – في وحشة السجن كانت القراءةُ كلّ الحضور, و المرأةُ كلّ الغياب, هل كانت القراءة في السجن وسيلةَ مقاومة لهاجس المرأة؟

    بالتأكيد. لكن سيكون اختزالا وتبسيطا إرجاع القراءة فقط إلى “مقاومة هاجس المرأة”. هناك أيضا متعة المعرفة والتثقف. وهناك الارتباط بين السياسية والثقافة، أو محاولة توظيف الثقافة في خدمة العمل السياسي، وهو ما لم أتحرر منه إلا في وقت متأخر. لكن في بواطن النفس ربما كان التثقف تأهيلا لاستحقاق النساء.

    – هل تجاوز فجوة المرأة المثلى بعد خروجه من السجن، و كيف؟

    المرأة المثلى غير موجودة للأسف (ومثلها الرجل الأمثل). وهي ليست من متخيل السجناء وحدهم، بل من متخيل الرجال جميعا. لكن هذا المتخيل يكون أكثر مثالية وتجريدا في حالة السجناء. ولأن المرأة المثلى غير موجودة فلا يمكن تجاوز فراغها في النفس. قد يكون هنا أصل النازع الشهرياري عند الرجال، نازع الاستئثار بالنساء جميعهن.

    – هل هناك كتاب لم يعد لقراءته لأنّه يذكّره بسنوات السجن؟!

    لا. الواقع أنه قلما أتيح لي العودة إلى قراءة كتب سبق أن قرأتها في السجن بفعل كثرة الكتب خارج السجن التي ينبغي أن تقرأ. لكن تقييمي تغير غالبا للعدد القليل من الكتب التي قرأتها في السجن وعدت إليها لسبب ما. لم أعد معجبا كثيرا ببعضها كما كنت.

    – في كتابه “خيانات اللغة و الصمت” لصديقه فرج بيرقدار تظهر بوضوح لهجة السخط على العالم خارج الأسوار و الصمت الذي يلفّه حيال المأساة و الفظاعة داخل السجن …. هل كان ياسين الحاج صالح يشعر بمثل هذا السخط أيّام السجن؟

    نعم، في سوات السجن الباكرة خاصة. يتملك السجين غضب حيال العالم الخارجي الذي لا يشعر به، ويميل إلى لوم الناس خارج السجن والمبالغة في درجة حريتهم وقدرتهم على مساعدته وإهمالهم له. لكن هذا الشعور خف تدريجيا وزال في سنوات السجن الأخيرة.

    – انتقل الكاتب في أكثر من وسط مختلف لتسارع الوقت و الإحساس به, ما هو تعريفه للزمن وما هو شكل علاقة الإنسان به؟

    لا أستطيع الكلام على الزمن أو علاقة الإنسان عموما به. أتكلم على إحساسي بالزمن. في الكتاب ميزت بين الزمن المعاش الذي يمر بطيئا وثقيلا، وبين الزمن المتذكر الذي يبدو أنه انقضى بسرعة.

    أضيف هنا أني أتذكر سنوات السجن الأولى، وهي الأبعد عني زمنيا، أكثر من سنواته اللاحقة، الأقرب. هذا ربما لأن الذهن يفتح صفحة جديدة في السجن وتكون خبرات المرحلة الأولى قوية وطازجة.

    يختلف الإحساس بالزمن أيضا حسب السجن. في تدمر هو باهظ وشديد البطء بسبب قسوة ذلك السجن والتعذيب العشوائي ومنع الزيارات وحظر أية أدوات من شأنها أن تساعد على التحكم بالوقت. في المسلمية وعدرا كنا قادرين عموما على التحكم بشروط حياتنا، فيسير الزمن متوسط السرعة، بسرعة سير حياتنا فيهما.

    لكن أكثر جوانب العلاقة بالزمن إثارة تلخصها تجربة الاستحباس. بعد سنوات متفاوتة بتفاوت الأشخاص قد يستحبس السجين، يستوطن السجن كأنه بيته ويسترخي فيه، أو حتى قد يبدو كأنه خلق فيه، بيئته الطبيعية. بدأت أستجبس في النصف الثاني من الثمانينات وبلغت أعلى مراحل الاستجباس في سجن عدرا بين ربيع 1992 ونهاية 1995. حين تستحبس يصير الزمن حليفا لك، أي أنك تبطل لعبة السجن. يحبسونك كي يأكل الزمن أيامك وينهك جسدك ويخرب روحك. حين تستحبس يصبح الزمن صديقك. تحتاج إليه من أجل القراءة والرياضة وتتمتع بوقت التسلية، وتشعر أنك تتجدد بدل أن تبلى وتهترئ.

    والعبرة أنه ليس صحيحا بالضرورة أنه كلما طالت سنوات السجن كان أكثر تدميرا. بالاستجباس تصبح علاقتك بالزمن مركبة. من جهة أنت سجين وتعيش حياة مختزلة وفقيرة، وسنوات شبابك تمضي ويغزو الشيب رأسك…، لكن من جهة أحرى أنت تعيش حياة معقولة، تتعلم، وتتغير وتشعر أن مساحتك الداخلية تتسع، وأنك تغدو أكثر إنسانية.

    – هل تخلّص من السجن فعلاً فكتب هذا الكتاب, أم كانت كتابته المحاولة الأخيرة للتخلّص و الانعتاق منه؟

    أثناء الكتابة أدركت أن تجربتي في السجن تجربة تحرر، أن الكتابة عن السجن كتابة عن الحرية، وأن أول الحرية أن أنفصل عن تجربة السجن بأن أنظمها وأجعل منها موضوعا تستقل ذاتي عنه. ذكرت في الكتاب أن السجن ليس مرحلة من حياتي فقط، وإنما هو طبقة من كياني، وقد ساعدتني الكتابة عن السجن على ترتيب هذه الطبقة ترتيبا معقولا، فلم أعد أسيرها أو عالقا في شباكها.

    والانعتاق الذي تكلمت عليه في الكتاب ليس انعتاقا من السجن، بل هو تجربة التحرر النفسي والفكري التي عشتها فيه، وتخلصت بمحصلتها من قيود وسجون أخرى، وربما صرت أفضل تفاعلا مع العالم. وهذه التجربة مهمة جدا في رأيي، لأن ما يلغي حريتنا ليس النظم الاستبدادية وحدها ولا السجون وحدها، بل عبودياتنا الداخلية المتنوعة، للعشيرة مرة والعقيدة مرة والمال مرة، والشهرة مرة… قيود هذه العبوديات أنعم، لكنها فتاكة وتجعل الحياة عقيمة.

    – لو اتخذ مسافة الحياد من قَدَره نسبة للفرق بين ظروف السجن و ظروف السجين, ماذا كان سيختار بين السجن أيّام الثمانينات في شبابه, وبين أن يُسجن الآن في هذا العمر في الثورة؟

    ما أنا متأكد منه أني لن اختار السجن وأنا في هذا العمر. السجن سيء في كل حال وقاس دوما، لكنه كان أصعب على زملائنا الأكبر سنا، والمتزوجين، ومن لهم أطفال بخاصة. الشاب يتحمل السجن أفضل بكثير. وإن يكن من جهة أخرى يخسر ما يفترض أنها أجمل أيام العمر.

    – هل ندم على نشاطه السياسي الذي أدّى لاعتقاله؟ و هل تغيّر شعورُه إزاء سنوات سجنه, بين ما قبل و ما بعد الثورة؟

    إطلاقا. تشكلت في السجن في صورة أكثر ملاءمة للحياة، فلم يعد سبب حبسي هو الشيء المهم. بالعكس صار كأنه فرصة لتجربة مختلفة، قاسية، لكنها ليست سيئة في المحصلة. وإضافة إلى العمر، وليست محض خصم منه.

    وبعد الثورة يبدو لي أن تجربتنا استعادت شرعيتها واعتبارها وصار ينظر إليها كحلقة من حلقات كفاح الشعب السوري للخلاص من الاستبداد، وأن السوريين ليسوا مستجدّين في هذا الكفاح. وهذا مهم لأنه في سنوات ما قبل الثورة كان يحصل أن تعتبر تجاربنا تضجيات مهدورة، لم تثمر شيئا.

    – كانت فكرة الحنين إلى السجن لافتةً و موحيةً, هل سنرى بين السوريّين في المستقبل شيئاً من الحنين إلى “سوريا الأسد”؟!

    هذا لا شك فيه في تقديري. وقد لا يقتصر الحنين على شرائح الطبقة العليا المرتبطة مصيريا بالنظام، بل إلى قطاعات من الطبقة الوسطى التي ألفت نسقا هادئا لحياتها ترتاح إليه، وحتى من أناس ربما يكونوا بضمائرهم منحازون إلى الثورة. وهذا لأن أوضاع البلد ستكون صعبة لسنوات قادمة إذا سقط النظام اليوم، وفيه كل أنواع الصراعات والمشكلات والمتاعب وعدم الاستقرار الأمني. وحتى لو افترضنا أن الأوضاع السورية كانت أقل عسرا، وأتيحت للسوريين درجات أكبر من الحرية، فإن الحنين سيكون موجودا أيضا. الحرية صعبة وأقرب إلى عبء، وربما نحن إلى أيام كنا فيها عبيدا، لكن آمنين وخليي البال.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى