حسين العوداتصفحات الرأي

حول الحرية والاستبداد والدين/ حسين العودات

 

 

أهل الشرق معجبون بحب الأوروبيين للحرية واحترامهم لها وحرصهم عليها، باعتبارها معياراً رئيساً من معايير الدولة الحديثة، وضرورة اجتماعية لا يمكن أن يكون المجتمع سويا بفقدانها، ولا يتحقق الأمن والسلام والرفاه والامتيازات الاجتماعية الأخرى من دونها. وهم معجبون أيضاً بتطبيق المجتمعات الأوروبية للحرية، بل ويحسدونها على هذا الإنجاز الذي تحقق بالتتالي منذ الاستقلال الأميركي وبعد الثورة الفرنسية وتهاوي الأنظمة الديكتاتورية تباعاً، حيث استطاعت الثورات الأوروبية منذ القرن السابع عشر إسقاط هيمنة رجال الكنيسة على الدولة والمجتمع، وتجريدهم من سلطتهم الغاشمة وما فرضته من نظم وقوانين واستغلال للمجتمعات وتحكم فيها باسم الدين والتعليمات الدينية وحسن الإيمان و «حكم البابوات»، وهذا ما تحاوله جماعات الإسلام السياسي في عصرنا تحت شعار «الإسلام هو الحل». وفي الحالتين (الأوروبية والإسلامية)، ليس للدين علاقة بهذه المقولات والممارسات والأقاويل والتحريفات والخداع.

يشابه حكم المؤسسة الكنسية، ولنقل «المسيحية السياسية» في ذلك الوقت، طموحات «الإسلام السياسي» في أيامنا، مع أخذ اختلاف المجتمعات ومرور الزمن بالاعتبار. ومع سقوط سلطة المؤسسة الكنسية في أوروبا لمصلحة الدولة الحديثة ومعاييرها، تكرست الحرية في ثقافة الأفراد والمجتمعات، وفي القيم والتقاليد وحتى في الطقوس، وطاولت حريات متعددة مثل حرية التعبير والقول، والمشاركة السياسية واختيار الحاكم، والعمل والمرور من بلد لآخر، فضلاً عن الحرية الاقتصادية. وقد غدا كل من هذه الحريات إيقونة معلقة على صدر كل مواطن يحرص عليها ويحترمها ويقدرها ويدافع عنها، ولديه استعداد للتضحية بنفسه من أجلها، وصارت الحرية في مختلف المجتمعات الأوروبية أساساً لتأكيد معايير الدولة الحديثة الأخرى، كالمساواة والعدالة وتكافؤ الفرص وفصل السلطات وغيرها، ووسيلة التذكير بهذه المعايير والتحريض على احترامها وتشكيل رأي عام وقوى ضغط حقيقية لتطبيقها، ومصدرا لخوف السلطة من الشعب إذا تجاوزتها. وفي ضوء ذلك، من المفهوم حرص المجتمعات الأوروبية على الحرية وعلى التسامح مع الرأي الآخر واحترامه، لأنه يقع في إطارها، حتى لو كان هذا الرأي ينتقد الأيديولوجيات والثقافات والأديان والمفاهيم والحكام والقيم والعادات والتقاليد وكل شيء، ما دام النقد في إطار هامش الحرية المتعارف عليه. ولهذه المجتمعات الأوروبية وأفرادها الحق كله في اعتبار أي إشارة ضد هذه الحريات عملاً إرهابياً، فكيف بالعنف المادي والمعنوي الموجه ضد ممارستها.

ولعله من الضروري تفهم هذه المواقف الأوروبية، مهما صدمتنا، لأنها جزء من ثقافة عميقة مورست خلال مئات السنين ودفعت المجتمعات الأوروبية ثمنها مئات آلاف الضحايا من خلال الحروب والصراعات الدموية والعنف المتبادل بين شرائح المجتمع وتياراته السياسية والاجتماعية، حتى وصل الأوروبيون إلى مفاهيم وثقافة وقيم مستقرة تجاه الحرية.

وبديهي أنه من الصعب على الأوروبي التهاون في شأن الحرية، أو رفض الرأي الآخر مهما كان شاذاً، أو قبول التطرف بالرأي والمواقف المستبدة، فردية كانت أم جماعية، فكرية أم سياسية، اجتماعية أم دينية. وعلى ذلك، فإن معاداة الأوروبيين الشديدة للإرهاب أمر مفهوم ومن طبيعة الأمور. إنه ثقافة بنيوية (عضوية على رأي غرامشي) لا يستطيع الأوروبيون تجاهلها أو التهاون فيها. وكل من لا يرى الأمر كذلك يعتبره الأوروبيون جاهلاً بالتاريخ الأوروبي وبالواقع القائم أيضاً، وقليل الثقافة وقصير النظر، وفي ضوء هذا، ينبغي رؤية الموقف الأوروبي من حرية الرأي ومن التطرف الديني والسياسي والإرهاب ومن كل تطرف، وعدم اعتباره مؤامرة أوروبية أو أميركية أو صهيونية، أو كرهاً لأحد بعينه أو ما يشبه ذلك.

من جانب آخر، لم تستطع المجتمعات الأوروبية أن تتمثل بعض معايير الدولة الحديثة الأخرى كالمساواة والعدالة ومواجهة الاحتكار، كما تمثلت الحرية، فحدث تناقض داخل هذه المجتمعات. ذلك أن الأنظمة السياسية والحكومات والقوانين وأنماط العيش والتربية والثقافة سُخّرت لمصلحة فئة واحدة من فئات المجتمع، هي الفئة العليا (وقد وسع الأوروبيون طيفها وعددوا فئاتها). وغدت العدالة حكراً على هذه الفئة وكذا المساواة والكفاية والرفاه. وكان لهذا نتائج كبيرة، منها نبذ فئة من الطبقة الدنيا وتهميشها، فقامت في أوروبا الأحياء الفقيرة على هوامش المدن وفي ضواحيها، حيث يعيش الناس (ومعظمهم من المهاجرين ومن أصول إسلامية) في فقر وحرمان اقتصادي ومعيشي وتعليمي وثقافي وخدمي وغير ذلك، ما قاد بعض أفراد هذه الفئة المهمشة إلى سلوك طريق الإرهاب (فلا شيء لديها لتخسره)، انتقاما ًمن أولئك المالكين والحكام الذين همشوهم وأصبحوا بالنسبة لهم طغمة لا تعرفهم ولا تتعرف عليهم، وتجهل كيف يعيشون في أكواخهم. هكذا، لم تطعمهم الحرية خبزاً ولم تقِهم من برد ومرض وجهل، وضاعوا في متاهات الحياة المعاصرة وفقدوا توازنهم، ولم يستطيعوا صياغة رؤيا صائبة تؤهلهم لنيل حقوقهم، فاختاروا طريق العنف والإرهاب والقتل والجريمة، مفترضين أنها أسهل الطرق التي توصلهم إلى حياة أفضل، ووجدوا في أفكار الفقهاء المسلمين ما يصلح لتبرير عنفهم.

وإذا افترضنا أن ما سلف واحد من مسببات الإرهاب، أمكن القول إن السبب الثاني ولد في المجتمعات العربية والإسلامية، حيث الظروف أكثر قتامة وبؤساً وصعوبة، بعدما ضيقت الأنظمة الاستبدادية والشمولية على مجتمعاتها، ونهبت ثروة البلاد، وحرمت الناس لقمة العيش، ومارست الطغيان والاعتقال والقمع، ونشرت الفساد بدل أن توقفه، وهدرت كرامة المواطنين بعد هدر حريتهم، فذهبت الحرية والديموقراطية والمساواة وتكافؤ الفرص أدراج الرياح، واختنق بعض الناس بحيث لم يجدوا منفذا ليتنفسوا منه الهواء سوى نافذة الإرهاب كما ظنوا، فسلكوا النفق المؤدي إليها. وما كانت آراؤهم المتعلقة بحمل السلاح والعنف وارتكاب الجرائم إلا هروباً من الهمّ الذي هم فيه أكثر مما كان بحثاً عن مستقبل. هكذا، مثلما همشت المجتمعات الأوروبية الفئات الفقيرة وهيأتها للإرهاب، فعلت الأنظمة الاستبدادية في البلدان العربية والإسلامية الأمر نفسه، بغض النظر عن اختلاف الأساليب والوسائل، ودرجة الظلم التي عليها الناس.

أما ثالثة الأثافي التي رعت الإرهاب فكانت مساهمة فقهاء المسلمين ومساعدة الأنظمة السياسية، في إنشاء إسلام جديد لا علاقة له بصحيح الإسلام، خصوصاً في مجال فهم الحلال والحرام، والكفر والإيمان، والجهاد والحرب، ومصادر الفقه والتشريع، والحقوق والواجبات. وقد اتبع السادة الفقهاء منهجاً يبيح لهم حق التصرف بالدين وبالعقوبات والحدود في ضوء الاجتهادات الفقهية، واعتماداً على أحاديث ضعيفة وأقوال وروايات وخرافات. ووجدت المنظمات الإرهابية ضالتها في هذه الاجتهادات لتبرير ما لا يبرر. واعتبرت العنف أمراً مشروعاً، والذبح سنة، والممارسات الوحشية «جهاداً». ووضعت عقوبات «إسلامية» و «حدوداً» كما يروق لها. وشّرعت أساليب وحشية جديدة لتنفيذ العقوبات، وجعلت كل شيء حراماً باستثناء ما تراه. ولم ير الأوروبيون في هذه الأعمال الوحشية التي ترتكب باسم الإسلام إلا أنها من تعليمات الإسلام نفسه. فأصبح الإسلام بنظرها ديناً عنيفاً في بنيته وفي تعليماته. وعلى هذه الأسس الثلاثة قام الإرهاب واستكمل بناءه.

الملاحظ في مجال مواجهة الإرهاب أن الغرب والشرق ما زالا يعالجان الإرهاب بالخطط الأمنية والعسكرية، ويهملان دور الثقافة والتربية وتصحيح الأوضاع الاقتصادية والمعيشية والكف عن الاستبداد والقمع والظلم والتعسف، ويعتقدان أن خطتهما هذه كفيلة بمقاومة الإرهاب، لكن هل يتحقق النصر عليه من دون تجفيف منابعه؟ لقد تحالف الجهل والفقر وقمع الحريات وتشويه الدين، فكانت النتيجة خلق فئة بائسة فقيرة جاهلة ترى الإرهاب وسيلتها القادرة على إنقاذها مما هي فيه، فتقضي به على بؤسها. فإن قُتل الإرهابي خلال تنفيذ إحدى عملياته، تتكفل الجنة بمنحه النعيم الأبدي، فهو يعتقد أنه المنتصر.. في الحالتين.

السفير

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى