صفحات العالم

حول العدمية الزاحفة وتخبطنا وسط الركام/ حسن شامي

 

خلافاً للقول الوعظيّ المأثور، يظهر في منطقتنا أن الإنسان، أكان مؤمناً أو غير مؤمن، يُلدغ من الجحر ذاته أكثر بكثير من مرّتين.

ما يحملنا على استحضار الأثر الوعظيّ هذا، وتعديل صلاحيته، يتعدّى وظيفتي التنبيه والإرشاد العزيزتين على أخلاقيات الهداية والاتّعاظ واستخلاص العبر. وليس المقصود بهذا الكلام التقليل من شأن الأخلاق كعلم وكأدب ومأثورات حكمية في كيفية فهم السياسة وإحكام قواعد عملها، باعتبارها مدار المصالح وإدارة الاختلاف والانقسام والتنازع بين مكونات المجتمع البشري. نترك مثل هذا التقليص لمكانة الأخلاق لفقهاء السينيكية المتكاثرين في زمننا. نعني بذلك كل الذين يعرفون ثمن كل شيء ولا يعرفون قيمة لأي شيء، وفق قول مأثور وصائب لأوسكار وايلد. فالحديث عن القيم يضع صاحبه بالضرورة، ويضعنا معه، في حقل الأخلاق. والحق أنّ المسألة تدور على العلاقة بين الأخلاق والسياسة. فهذه العلاقة لا تجرى على منوال واحد ولا تستقر على حال واحدة. وهذا ما يجعل رصد تبدلاتها ومعاينة أشكال عرضها واستعراضها موضوعاً للبحث النقدي.

مناسبة هذا الكلام تكاد تكون، في منطقتنا المنكوبة وفي أيامنا السوداء هذه، مرمية على الطريق. ليس هناك أسهل على عابر السبيل من العثور عليها والتعثّر بها. مع ذلك، سنجعل هذه المناسبة تتعلق، على سبيل المثل لا الحصر، بتصريح الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عن اعتقاده بعدم وجود بديل شرعي عن بشار الأسد معطوفاً على قوله إن هذا الأخير عدو لشعبه ولكنه ليس عدواً لفرنسا.

من الواضح أن ماكرون قصد بتصريحه هذا ضرب عصافير عدة بحجر واحد. فهو يترك الباب مفتوحاً للتفاوض مع الحليف الدولي الروسي لنظام الأسد. ويطمئن القوى الفرنسية المعارضة للتدخل العسكري المباشر في الحرب السورية. ويقرّ بوجود سلم أولويات للسياسة الفرنسية التي تعتبر أن مكافحة الإرهاب والقضاء على «داعش» ووضع حدّ لضرباته العشوائية في فرنسا على رأس المهمات الملقاة على عاتق الدولة الفرنسية ومصالحها الوطنية. هذا منطق السياسة. لكن الحرص على منظومة القيم التي ترفع فرنسا لواءها يستدعي التشديد على أن الأسد عدو لشعبه. وهذا منطق الأخلاق. ولتأكيد ذلك كان ماكرون قد أعلن عن جهوزية فرنسا للتدخل المباشر في حال استخدام النظام الأسدي السلاح الكيماوي. وأتبع ذلك قبل أيام قليلة بالإفصاح عن انضمام الموقف الفرنسي إلى إعلان الإدارة الأميركية عن تدفيع الأسد وجيشه، وحلفائه، ثمناً باهظاً إذا أقدم على هجوم كيماوي.

يبدو أن تصريح ماكرون أحدث خيبة أمل كبيرة وبلبلة في أوساط المعارضة السورية، خصوصاً في الوسط المثقف والإعلامي الذي يضم كتاباً وناشطين جديرين بالتقدير. والحال أن خيبة الأمل هذه غريبة، خصوصاً عندما تصدر عن متابعين سياسيين بالمعنى المحترم للكلمة. والغريب في الأمر لا يتعلق بالعثور، في تصريح الرئيس الفرنسي، على تناقض أو تفاوت كبير بين القيم واعتبارات المصالح. فهذا ما يفترض أننا، نحن وهم، قد خبرناه وعرفناه لا في أزمنة بعيدة وأمكنة نائية، بل في أيامنا وأمكنتنا وفي ربيعنا الملتهب. يكفي الالتفات إلى الحالة الليبية. وأهمية هذه الحالة لا تكمن في طريقة إسقاط سلطة معمر القذافي فريد عصره عبر تدخل أطلسي – فرنسي أدخل ليبيا في نفق مفتوح على كل الأخطار والأهوال. تكمن هذه الأهمية في تدشين انعطافة في مسار الحراك الاحتجاجي الشعبي الذي اندلع في تونس ومن ثم في مصر. رأينا كيف استقبل ساركوزي وزير عدل سابقاً في حكومة القذافي وكيف تم الإعلان عن مجلس انتقالي يمثل الشعب الليبي تمثيلاً شرعياً. ومن كان يفترض أن يكون محرر ليبيا وزعيمها، بعد قتل القذافي وسقوط نظامه، اختفى نهائياً من المشهد.

القراءة البسيطة للحدث الليبي تقود حكماً إلى المساءلة عن خلفيات التدخل ومآله الكارثي على ليبيا بلداً ومجتمعاً وكياناً جغرافياً. فإذا كان المتدخلون لا يعرفون جيداً واقع ليبيا وخريطة قواها المكتومة على يد القذافي فهذه مصيبة. وإذا كان المتدخلون يعرفون هذه الخريطة ولا يهمهم سوى القضاء على القذافي فالمصيبة أكبر. النتيجة هي أنّ كثراً ربحوا الشماتة بالقذافي ونظامه وخسروا ليبيا الغارقة في رمال تاريخ مضغوط وعصبيات ضيقة وسياسات قصيرة النظر. لم يلق ساركوزي معارضة جدية في بلده، علماً بأن إدارة أوباما كانت متحفظة. فحرب ساركوزي في ليبيا لم تكن مكلفة. وليكن من بعده الطوفان. هذه الخفة تفقأ العين. السماكة الوطنية التي تتمتع بها تونس ومصر لأسباب تاريخية وسوسيولوجية أربكت العديد من القوى المتنفذة في العالم. أجريت بالتأكيد مفاوضات في الكواليس لجس نبض القوى الصاعدة لكنها تبقى مفاوضات، أي مادة أخذ ورد وتجاذب. لا بل صدرت عن مسؤولين غربيين مواقف كانت فاضحة أخلاقياً. ليبيا دشنت التدخل الدولي والإقليمي في مسار الحراكات والتحكم باللعبة وباللاعبين. ولم يجرؤ أحد على المساءلة والمحاسبة على هذه المقامرة بمصير بلد. هكذا انفتح الباب للتسابق على مواقع النفوذ والسيطرة. وفي هذا السياق، تم «ترييع» السياسة. ولعبة الترييع فتحت الباب أمام «الترويع» الداعشي والجهادي. سنسارع إلى القول إن هذا ينطبق على النظام السوري وعلى معظم المعارضة. ما نخشاه لا يعود فقط إلى الإصرار الثأري على الشماتة بالأسد حتى وإن تمزقت سورية خرائق، بل يعود خصوصاً إلى انتصار العدمية السياسية الزاحفة وسط خراب روحي هائل.

وقد وصلنا بالفعل، مع انهيار الأطر الوطنية وتمزق الأنسجة الاجتماعية وازدهار العصبيات القرابية والقبلية والجهوية والمذهبية إلى الحد الذي يسهّل عملية استيلاء القوة المتغلّبة على القيم الحقوقية واستيلاء الغانغسترية على السياسة، وتحويل الأحقاد والضغائن والمخاوف إلى أدوات يستخدمها هذا الطرف أو ذاك لمصلحته.

في سياق من هذا النوع، لا ينبغي أن نستغرب صعود قوة عدمية وشمشونية مثل «داعش» وأشباهه. وإذا كانت نهاية «داعش» الجغرافية مسألة أيام وأسابيع قليلة، مع سقوط الموصل وسيطرة القوات العراقية على مسجد النوري والمنارة الحدباء، ومع إحكام الحصار على الرقة السورية، فإن مخزون العنف العدمي الذي استعرضه لن ينتهي بسرعة. وسيصنع اللاعبون الكبار عدواً آخر. سنتخبط كثيراً وسط الركام والأنقاض.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى