صفحات سورية

حول النقاش الذي أثارته ريما… أو أي حرية نريد؟


غيد الهاشمي

العدل من أهم القيم الإسلامية: العدل و لو كان في مصلحة الخصوم و العدل و لو كان ضد الوالدين و الأقربين. هل من العدل أن يقول البعض اليوم أن هذه الثورة في سورية ثورة إسلامية و هدفها تحكيم القرآن و السنة؟

بل من المفارقات المضحكة المبكية و المعبّرة أن يعلق أحدهم (و رأيه يمثّل الكثيرين) على موضوع ريما دالي بقوله: “هذه الثورة إسلامية وهدفها تحكيم القرآن والسنة و اللي مو عاجبه بعد الثورة منستنّاه “بالصرماية”””

“بالصرماية”؟

إذا كانت هذه هي مفاهيم الكثيرين عن الله و دينه فهم يبرهنون هنا بتهديداتهم أن ريما كانت محقة حينما أرادت تغيير مفاهيمهم المقلوبة عن الله

صفحة تنسيقية الميدان تقول إنها ليست ثورة شعب بل جهاد المسلمين في سورية ضد النظام الكافر

و أن غير المسلمين في سورية لم يقوموا بمقاومة النظام و لا بتقديم الشهداء بما يستحق الذكر و أن المجاهدون في سبيل الله وحدهم هم من يقررون مستقبل سورية

نسيت صفحات تنسيقيات الثورة التي أدانت ديما و سخرت من مطالبتها بإيقاف القتل وطالبتها بإيقاف الكفر أوّلاً نسيت الحكمة الإسلامية “أن الله ينصر الدولة الكافرة إن كانت عادلة ولا ينصر الدولة المسلمة إن كانت ظالمة”…و ما ينطبق على الدولة هنا أظنه ينطبق على الثورة…أليس من الظلم أن يكون الخصمُ هو الحًكًمُ؟

نعم لقد انطلقت المظاهرات من المساجد بالتكبير و التهليل وكانت كثير من الشعارات والهتافات ذات طابع ديني وهذا طبيعي لشعب أكثره متدين وكان و ما يزال الدين والإيمان للمسلمين و المسيحيين فيه مصدر طاقة للاستمرار و استعداد للتضحية و مواساة و صبر على المصائب الجلل التي يلحقها النظام السفاح بهذا الشعب العريق المقاوم. ولكن ماذا كان هدف الثورة.. ماهي القيم التي أشعلتها؟

اختلف أنصار الثورة أين بدأت في دمشق أم في درعا، لكن اللافت هو المشترك في هتافات أول مظاهرة في درعا و أول مظاهرة في دمشق: التمرد على الذل: في دمشق: الشعب السوري ما بينذل، و في درعا : الموت و لا المذلة. و قبل أن يطالبوا بإسقاط النظام طالبوا في طول سورية و عرضها: الله سورية حرية وبس: هي ثورة كرامة وحرية إذاً، ثورة على الذل و القمع يا صفحات تنسيقيات الثورة، ليست ثورة دين على الكفر وإن كان أكثر الثوار من المتدينين و لكن هم من المتدينين الوفاقيين الوطنيين الذين يؤمنون بأن رضا الله حيث يكون العدل و الإخاء و يريدون سورية دولة مدنية للجميع متساوين في الحقوق و الواجبات وهذا يعني أن لا فضل لمسلم على غير مسلم في سورية الجديدة المنشودة وهذا ما عبرت عنه عشرات التعليقات على صفحات التنسيقيات التي استنكرت هذه الحملة الشعواء التي تجعل العدو المشترك لنا و لريما ألا وهو نظام القهر الاسدي يطرب جذلاً..

لم تطالب المظاهرات بتحكيم القرآن و السنة ولم تقل لافتاتها و لا هتافاتها أنها ثورة إسلامية و لا أنها جهاد ضد الكفار بل قالت الشعب السوري واحد سني و علوي واحد، إسلام ومسيحية كلنا بدنا الحرية

كلنا بدنا الحرية…

من أين أتوا “بالصرماية”؟

إحدى المصائب التي أورثنا إياها النظام الذي نريد إنهاءه أننا لم نتعلم أدب الاختلاف،  نرى من ليس معنا أنه ضدنا و هذا معناه أنه ضد الله بالنسبة للمتدين و ضد الإنسانية للا ديني

!تسمي صفحات تنسيقيات الثورة ريما و أصدقاءها بالقطيع العلماني الإلحادي

كما يسمي بعض العلمانيين يسمون المتظاهرين الخارجين من المساجد بالقطيع الديني ..كم سنحتاج من الوقت لنقطع مع ثقافة القطيع التي ربانا عليها النظام جيلاً بعد جيل؟ عاملنا كقطعان الغنم وكان هو الذئب في ثياب الراعي وها هو قد سقط عنه  قناع الراعي فمتى نخلع عنا ثياب القطيع لنعود بشراً أحراراً كما ولدتنا أمهاتنا؟

رموا ريما بتسفيه المعتقدات و نسوا ألفاً و أربعمئة عام من التسامح المتبادل في بلاد الشام مع تسفيه معتقدات الآخر!

يشهد المسلمون تأليه المسيح في القداسات الكنسية تنقل في المذياع و التلفاز و يرون النصارى في مختلف المناسبات يشيرون بالتثليث على صدورهم،  يسمع المسيحيون ليل نهار الآيات القرآنية تتلى

“قد كفر الذين قالوا إن الله ثالث ثلاثة” ويسمعون “و ينذر الذين قالوا اتخذ الله ولدا ما لهم به من علم ولا لآبائهم كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا”

أليس هذا تسفيه لمعتقدات الآخر؟ هذا تسفيه لا يقبل التأويل و ما قالته ريما يقبله!

سيقولون لا يقارن كلام الله بكلام البشر..و لكن ما نعتقده نحن أنه كلام الله يعتقده غيرنا أنه كلام البشر و هذا هو بيت القصيد…

حينما يكون تسفيه معتقدات الآخر جزء من معتقدات الذات و يكون جزء من معتقدات الآخر تسفيه لمعتقدات الذات  فليس هناك من حل سوى التسامح المتبادل. تعوّدنا على اعتماد هذا الحل قروناً طويلة بين المسلمين والنصارى حتى صار من البديهيات فلم نعد نشعر بالتثليث المسيحي و لا بتأليه المسيح استفزازاً لمشاعرنا الدينية ولا ازدراء لعقيدة التوحيد. تعوّدنا أن يجهر النصارى بما نراه كفراً و لكننا لم نتعوّد أن يجهر اللادينيون بما نراه كفراً..

من يدين كلام ريما بدعوى حماية المعتقدات والمقدسات عليه إدانة فتاوي ابن تيمية في النصيريين وإدانة فتاوي العرعور و أمثاله في الشيعة لنفس السبب.

تسفيه المعتقدات وشتم المقدسات و الهزء بها مرفوض و مدان حينما يثبت من جهة موضوعية غير متحيزة أنه متعمد تُقصد به الإساءة لا غير و لا يمكن تأويله بغير ذلك. ليس مدى التأثير السلبي على مشاعر الناس الدينية هو الحَكَم فمشاعر الناس قد يتم تحريضها و استثمارها لمصلحة اتجاه معين أو ضد اتجاه معين. المشاعر ليست من الثوابت القانونية..

ريما أساءت للمشاعر الدينية عند الكثيرين و لا أظن أنها كانت تقصد  ولا أدري كيف يدعي البعض بل و منهم عقلاء أنهم يعرفون ما قصدت فهل شقوا عن قلبها؟ أم فتحت لهم ستر الغيب؟ ولماذا يحملون كلامها على المحمل الاسوأ مادام المحمل الحسن ممكناً؟

بالمحمل الحسن أقصد أنها تريد تغيير مفاهيم بعض الناس و تصوراتهم عن الله

و من الغريب أن يعتمد البعض في إدانة ريما على افتراضيات خلافية بامتياز ، إذ كيف يحكمون أن صفحة المرء الخاصة به على الفيسبوك هي من الشأن العام وليس الخاص؟ هذه وجهة نظر تقابلها وجهة نظر مناقضة وأدلة كليهما متساوية في القوة!

الحساسية المفرطة التي تشبه حساسية الاقليات هي أيضاً من الإرث المريض للنظام الذي جعل أقلية تضطهد أكثرية حتى تكونت عند الأكثرية عقدة الأقليات!

أي رسالة نريد إيصالها لغير المتدينين من أخوتنا المواطنين السوريين؟

“لكم حرية الاعتقاد و لكن إياكم ثم إياكم والاقتراب من مس عقائدنا. لكم حرية التعبير و لكن عليكم أت تعبروا بطريقة ترضينا! فمشاعرنا الدينية عالية الحساسية، سريعة الانفجار وشديدة الخطورة على حياة من يستفزها و الجيش الحر وأكثره من السنة يحمينا!” هل يعقل أن هذا مضمون رسالتنا؟

على صفحة الفنان علي فرزات قرأت مقارنة موجعة للنظام الحالي بنظام ما  بعد الثورة كما يتخوف البعض:

النظام الحالي ” بدك حرية ولا حيوان؟” نظام ما بعد الثورة ” أتريد حريةً يا عدو الله؟”

مهما كان خطأ ريما فادحاً و لنفترض أنها استهزأت بالله عمداً فيجب الا نغفل عن مسؤولية الجماعة الدينية عن سلامة الفرد المخالف لها حينما يترصده خطر “العقاب” أو “القصاص” من طرف من ينصّبون أنفسهم حماة لمقدّساتها.

العلمانيون المتطرفون لا يهددون خصومهم بالقتل ولا يقتلونهم بالفعل كما يفعل بعض المتطرفين الإسلاميين الحديث هنا بعيداً عن السلطة أما عن متقلّدي السلطة فلطغاة التطرف العلماني إجرام مثل طغاة التطرف الإسلامي..

و  لئن أخطأت ريما حين لم تراع حق المتدينين في احترام عقائدهم فهل يبرر خطؤها كل هذا التحريض و كل هذا السيل من القذف و الشتائم بل كيف يجتمع الغضب لله و لدينه مع بذاءة اللسان و فحش القول والعدوانية و إهدار الدم من أجل إهانة خرجت بدون قصد؟

يسألني أخوتي المتدينون لماذا أزعجني التطرف الديني أشد مما أزعجني التطرف العلماني و أجيبُ أن هذه الحملة الشعواء ضد ريما جرحت مشاعري الدينية لأنني شهدتها كحملة صدٍّ عن سبيل الله و تنفير من الدين وتجنٍّ على تسامح الإسلام و إنكار لعقلانيته. من يريد فرض ديني “بالصرماية” يهينني و من تريد أن “تدعس” على الذين يسخرون من معتقداتي تسفّه هي معتقداتي لأنني أرى أن العقل و القلب هما اللذان يحميان معتقداتي وشتان بينهما و بين ” الدعس” و “الصرماية”.”

و أرى التطرف الديني في سورية أقبح من التطرف اللاديني لأن أصحاب الأول يعتمدون على انتمائهم للأكثرية و يدللون بذلك و كأن قمع الأكثرية للأقلية مقبول و ينكرون أن مسؤولية الأكثرية تجاه الأقلية أعظم من مسؤولية الأقلية و وزن أخطاء الأكثرية في هذا الاتجاه أثقل ( إلا إذا كانت الاقلية حاكمة تحتكر السلطة فالأمر هنا بالطبع يختلف)

ذكرتني هذه الحملة ضد ديما بسبب خطئها بردّ الرسول (ص) حينما جره رجل  من فتحة ثوبه جراً عنيفاً و هو يقول: أعطني يا محمد من مال الله الذي أعطاك لا هو بمالك ولا بمال أبيك،  و همّ عمر به أن يضربه فنهاه الرسول (ص) قائلاً: لا يا عمر أنا و هو أحوج منك إلى غير هذا تأمرني بحسن الأداء و تأمره بحسن الطلب.

لا أنسى قبل إنهاء كلماتي ذكر دور أهل التسامح في هذه الحملة: عشرات التعليقات و على كل منها تسعة أو عشرة لايكات التي كانت تعبر عن رفضها لمضمون عبارة ريما وتؤكد في الوقت ذاته على حق ريما في كتابة ما تراه و تستنكر الهجوم عليها و تطرح السؤال الأهم: لماذا قامت الثورة؟ أليست لأجل الحرية فلماذا تغضبون؟ لماذا الثورة؟ أليست للقضاء على الاستبداد أتريدون أن تأتونا باستبداد جديد؟

لماذا قامت الثورة؟

أليس للقضاء على حكم “الدعس” و “الصرماية” ؟

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى