صفحات مميزة

حول بشار الأسد مقالات مختارة

 

«حقيقة الدور الذي لعبه «بشار الأسد» في تأسيس تنظيم «الدولة الإسلامية
ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد
تعد روسيا الآن موطنا للتجمعات الأكبر والأكثر قدرة للمسلحين الجهاديين السنة حول العالم، وسوف تظل كذلك لفترة طويلة قادمة. ومهما كان حجم التقدم الذي يمكن أن تحرزه قوات التحالف التي تقودها الولايات المتحدة ضد «الدولة الإسلامية» خلال الأشهر المقبلة، فإن الفوضى الهائلة والدمار الناجم عن خمس سنوات من الصراع سوف يضمن أن عدم الاستقرار سوف يسود في سوريا لعدة سنوات قادمة. وسوف يكون الجهاديون هم أكبر المستفيدين من هذا الوضع.
في مارس/أذار عام 2011، نزل الرجال والنساء والأطفال في سوريا إلى الشوارع مطالبين بالإصلاح السياسي والتحرر من القمع. حيث تم استقبالهم من قبل النظام بالغاز المسيل للدموع والرصاص المطاطي ونيران الأسلحة الآلية. حول القمع العنيف والعشوائي للمظاهرات السلمية، إضافة إلى وقائع التعذيب المروعة مثل واقعة مقتل الطفل «حمزة الخطيب» البالغ من العمر 13 عاما في درعا، تلك الحركة الاحتجاجية إلى ثورة.
أدى التصعيد النظامي إلى نشأة الجيش السوري الحر في وقت لاحق بهدف حماية التظاهرات المدنية والانتقام من النظام على جرائمه. ولد العنف المزيد من العنف. الآن، وبعد 5 سنوات هناك ما يقرب من نصف مليون سوري قد قتلوا، سوى نزوح نصف عدد السكان سواء داخل البلاد (6.6 مليون نازح) أو خارجها (4.6 مليون لاجئ).
على الرغم من أن اندلاع الاحتجاجات الشعبية، عنف النظام، والحرب الأهلية قد خلقت ظروفا مهيئة لازدهار النشاط الجهادي، فقد كانت سوريا بالفعل أرضا خصبة للتطرف السني. لسنوات عديدة قبل عام 2011، كان نظام الرئيس السوري «بشار الأسد» قد سعى للحفاظ على علاقة غزلية مع الجهاديين السنة. كانت دمشق تهدف إلى التحكم بهم من أجل استخدامهم كوكلاء لتنفيذ جدول أعمال سياستها الخارجية.
يمكن تفهم حجم وطبيعة هذه العلاقة بشكل أفضل بالنظر إلى الغزو الذي قادته الولايات المتحدة للعراق واحتلاله من عام 2003 إلى عام 2010. بمجرد أن خطت القوات الأمريكية خطواتها الأولى على الأراضي العراقية، قام المفتي المعين من قبل النظام السوري، «أحمد كفتارو»، بإطلاق فتوى جعلت مقاومة «الاحتلال الأجنبي» فرض عين على جميع السوريين المسلمين ذكورا وإناثا، بشتى الوسائل بما في ذلك التفجيرات «الانتحارية».
في المقابل، خلال الأسابيع الأولى للغزو العراقي، سهلت المخابرات العسكرية السورية نقل الآلاف من الشباب من المحافظات الشرقية مثل الحسكة ودير الزور عبر المراكز الحدودية إلى العراق. وتشير تقارير إلى أن 5 آلاف من هؤلاء المجندين الجهاديين قد عبروا الحدود إلى العراق خلال الـ11 يوما الأولى من أيام الغزو قبل أني 1000 فلسطيني من مخيم اليرموك إلى الجهاد بعد ذلك بيومين. بعد ذلك بوقت قصير، احتجزت القوات الخاصة الجوية البريطانية أربعة حافلات تقل حاملي جوازات السفر السورية بينما كانوا يعبرون من سوريا إلى العراق.
وكان «محمود الغاسي» المعروف بـ«أبو القعقاع» أحد الشخصيات المحورية الأكثر تأثيرا في تعبئة السوريين للقيام بواجبهم الجهادي، والذي تم الكشف لاحقا عن علاقته بالمخابرات السورية. وفقا لمسؤول في شرطة حلب، فقد تم استدعاء «أبو القعقاع» إلى المبنى الإداري المحلي من قبل ضباط المخابرات بعد وقت قصير من وصوله إلى المدينة في أواخر التسعينيات.
«كان الرجل يرتدي زيا أشبه بزي الباكستانيين ونادرا ما ينبس بكلمة واحدة. وقد تحدث الضابط نهاية عنه. تلقينا الأوامر باستخراج بطاقة هوية ورخصة قيادة وغيرها من الوثائق الخاصة به ولكن من دون العنوان المسجل أو غيره من المعلومات الشخصية. كان هذا غير قانوني في سوريا، حيث كنا نعرف على الفور، على الرغم من شبابه ومظهره الأجنبي أننا كنا نتعامل مع شخص مهم. ولاحقا بعد سنوات فقد أدركنا حقيقة الدور الذي يقوم به».
بحلول عام 2003، كان «القعقاع» قد اجتذب عددا كبير من الأنصار ما جعل من الصعب على الدولة السورية التحكم به. خلال صلاة الجمعة والتجمعات المماثلة غالبا ما كان يشن هجوما على الحداثة الغربية والعلمانية وربما الشيعة والعلويين في بعض الأحيان، وقد كان كل ذلك بطريقة أو بأخرى يتناقض مع حكم «الأسد» في سوريا. وبالتالي فإن غزو العراق قد جاء في وقت مناسب تماما. تم تصدير الجهاديين من أتباع «القعقاع» لمحاربة الاحتلال عبر الحدود الشرقية لسوريا. أصبحت سورية طريق العبور رقم واحد للجهاديين من جميع أنحاء العالم إلى العراق. من خلال رجال القاعدة مثل «بدران تركي هشان»، (أبو غادية)، وعلى مرأى ومسمع من المخابرات السورية، فقد تم تسريب المئات من الجهاديين إلى العراق لمحاربة الجنود الأمريكيين. دون مساعدة من دمشق، فإن تنظيم القاعدة في العراق، والذي تحول الآن إلى «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، لم يكن ليتمتع بكل تلك القوة التي أصبح عليها في وقت لاحق. الأهم من ذلك، أن العشرات إن لم يكن المئات من جنود الولايات المتحدة كانوا ليبقوا على قيد الحياة إلى اليوم.
إلى لبنان
استراتيجية نظام «الأسد» برعاية المسلحين الجهاديين السنة قبل تصديرهم في نهاية المطاف تم تكرارها في لبنان عندما دفعت التعزيزات الأمريكية في العراق نحو عودة الجهاديين إلى سوريا. باستخدام صلاتها المكثفة مع عصبة الأنصار، المجموعة الجهادية اللبنانية في صيدا بالجنوب اللبناني ومجموعة فتح الإسلام في طرابلس بالشمال، فإن المخابرات السورية قد استخدمت أيضا صلاتها بالجهاديين في تشجيع مئات المسلحين الذين قاتلوا سابقا في العراق للانتقال إلى لبنان. الهجمات ضد الشخصيات ذات الأجندات المناهضة لسوريا اشتدت بعد ذلك في البلاد. وقد بلغت الأمور ذروتها في طرابلس عندما أعلن الجيش اللبناني الحرب على فتح الإسلام، وتمت هزيمة الجماعة في نهاية المطاف بعد معركة استمرت لمدة 3 أشهر وأسفرت عن مقتل 400 شخص.
العديد من هؤلاء المتشددين الذين نجوا من هزيمة جماعتهم في أحداث مخيم نهر البارد في طرابلس قد فروا إلى سوريا. ومن المفارقات، أنه قد جرى توظيفهم في سلسلة من الهجمات التي استهدفت النظام في عام 2007 ومعظمها لم يتم الإبلاغ عنها من قبل وسائل الإعلام السورية الخاضعة لسيطرة محكمة. ومما لا يثير العجب أن هذه التطورات الجديدة قد حفزت موجة جديدة من تصدير الجهاديين إلى العراق عامي 2007 و2008 حيث كان أكثر من 100 مسلح يعبرون إلى البلاد قادمين من سوريا في كل شهر.
إلى الوطن من جديد
عندما نمت الاحتجاجات ضد حكم «الأسد» في عام 2011، قام النظام السوري بإصدار موجتين من العفو جرى خلالهما إطلاق سراح ما لا يقل عن 1000 معتقل مرتبطين بالأنشطة الجهادية من السجون المشددة. ولم يكن هذا النهج تصالحيا بقدر ما مثل محاولة سافرة لأسلمة المعارضة وتبرير مزاعم «الأسد» أنه يواجه انتفاضة للمتطرفين. الكثير من الذين أفرج عنهم قاموا بتشكيل مجموعات المعارضة الإسلامية الرئيسية مثل جيش الإسلام وأحرار الشام، ولكن ذهب البعض إلى لعب دور أكثر شرا من ذلك بكثير.
عندما بدأت الإرهاصات المبكرة للمقاومة الشعبية المسلحة في سوريا بالظهور كان الجهادي العراقي المعروف باسم «سمير الخلفاوي»، المشتهر باسم «حجي بكر» يستعد لاستغلال هذا الوضع في سوريا. وكنائب موثوق لزعيم تنظيم «الدولة الإسلامية»، «أبو بكر البغدادي»، اقترح «حجي بكر» إرسال زعيم الجماعة في الموصل إلى سوريا لإقامة جناح سوري للتنظيم الإرهابي. وهكذا، بعد عدة أسابيع، في وقت متأخر من أحد ليالي أغسطس/آب 2011، عبر «أبو محمد الجولاني» إلى محافظة الحسكة السورية مع ستة من كبار القادة الآخرين في التنظيم. كان واحدا منهم، هو «ميسر علي موسى عبد الله الجبوري»، (أبو ماريا القحطاني)، الذي كان على دراية كافية بالوضع السوري، حيث كان قد خضع لعملية جراحية هناك في العام السابق.
استغل هؤلاء السبعة شبكة متطورة من البيوت الآمنة من أجل جمع العديد من «المتطرفين» الذين تم الإفراج عنهم من قبل النظام. بحلول أكتوبر/ تشرين الأول، كانت جبهة النصرة قد تم تشكيلها بشكل سري. على الرغم من أن هذه المجموعة لم تكن تحظى بشعبية كبيرة في سوريا في البداية فقد أصبحت مع مطلع عام 2013 واحدة من أقوى المجموعات المسلحة وأكثرها تأثيرا في القتال ضد «نظام الأسد».
استفادت جبهة النصرة وغيرها من الجماعات الإسلامية من عودة ما يسمى بـ«جيل حماة» والمقصود بهم أولئك الذين فروا من سوريا خلال حرب الرئيس السابق «حافظ الأسد» على جماعة الإخوان في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات. وكان العديد من هذه الأسر قد انتهى بهم الحال في المملكة العربية السعودية، وتركيا، وأوروبا، وقد انضم بعض أبنائهم إلى الصراعات الجهادية في كل من البوسنة والشيشان وأفغانستان. عاد هؤلاء الأبناء إلى سوريا للمرة الأولى في عام 2011 وأصبحوا الآن من كبار الشخصيات في جبهة النصرة وغيرها من المجموعات.
وبمجرد أن تحول الصراع في سوريا إلى حرب أهلية منتصف العام 2012، فقد بدأت سوريا في جذب جحافل من الجهاديين من جميع أنحاء العالم من الذين سعوا للقتال والموت في بلاد الشام، موطن نبوءة المعركة الفاصلة ضد الكفار قبل نهاية العالم.
فعل نظام «الأسد» الكثير في السنوات السابقة للثورة لأجل بناء بنية تحتية جهادية، ومع نشوب الانتفاضة في عام 2011 فقد كانت الأمور قد بلغت حد الاستواء.
التنافس الجهادي
في التربة السورية الخصبة، صارت جبهة النصرة أكثر استقلالا على نحو متزايد عن القيادة في العراق التي كانت تزودها بنحو 50 في المائة من احتياجاتها المالية الشهرية. في أواخر عام 2012، كان «حجي بكر»، الملقب بفارس السكون، نظرا لدوره في تصفية عناصر تنظيم «الدولة الإسلامية» المشكوك في ولائهم، قد ضاق ذرعا بنجاحات جبهة النصرة. وعليه، فقد اقترح على «البغدادي» أن يرسل إلى «الجولاني» ليطلب منه صراحة إعلان ولائه للدولة الإسلامية في العراق، وقد رفض «الجولاني» هذا الطلب.
مدفوعا بالغضب، قام «حجي بكر» بالسفر إلى سوريا بصحبة المتحدث اسم تنظيم «الدولة الإسلامية»، «طه صبحي فلاحة»، (أبو محمد العدناني) وإنشاء قاعدة سرية في شمال حلب. وقد شرعا في جمع المعلومات حول الأوضاع الميدانية ومحاولة استقطاب حلفاء داخل جبهة النصرة وغيرها من الجماعات الإسلامية المقاتلة. وقد تم إرسال بعض هؤلاء للتجسس على «الجولاني» نفسه. وبعد تأمين الطريق الآمن من العراق، فقد عبر «البغدادي» نفسه إلى سوريا في فبراير/ شباط عام 2013 وانضم إلى رفيقيه. في سلسلة من الاجتماعات السرية، نجح «البغدادي» في تأمين ولاء عدد كبير من القادة الأجانب في جبهة النصرة.
وفي إبريل/نيسان 2013 خرج «البغدادي» بإعلانه إلى العالم بأن جبهة النصرة قد ولدت من رحم تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق مطلبا الجبهة للانضمام تحت لواء مجموعة موسعة تحت اسم تنظيم «الدولة الإسلامية» في العراق والشام. وهكذا، ولد التنظيم بشكله الحالي وتفتت الساحة الجهادية السنية. القيادة المركزية لتنظيم القاعدة أمرت في البداية كلا من الفريقين بالتزام بلده قبل أن تساند جبهة النصرة في النهاية. في أوائل عام 2014، كانت جبهة النصرة و«الدولة الإسلامية» تقفان وجها لوجه على أرض المعركة بعد أن قام تنظيم القاعدة بالتبرؤ من أي صلة له بـ«البغدادي» أو تنظيم «الدولة الإسلامية» .
نموذجان متنافسان في الحركة الجهادية
وبالتالي فإن الجهاد السوري قد مهد الطريق للتنافس الجهادي العابر للحدود بين تنظيمي القاعدة و«الدولة الإسلامية» . منذ التوسع في سوريا في إبريل/نيسان عام 2013 وإعلان الخلافة في يونيو/حزيران عام 2014، أصبح تنظيم «الدولة الإسلامية» منظمة جهادية هائلة مع وجود رسمي في أفغانستان، الجزائر، مصر، ليبيا، نيجيريا، باكستان، روسيا، واليمن إضافة إلى مؤيدين في العديد من البلدان الأخرى. يقدم التنظيم نفسه على أنه الممثل الشرعي للجهاد في القرن الحادي والعشرين وهو يتبني نهجا أيديولوجيا مطلقا يدفعه إلى الانطلاق نحو أهدافه بغض النظر عن الوسائل.
تنظيم القاعدة هو الآخر قد شهد تغيرا استراتيجيا كبيرا في السنوات الأخيرة. وفي مواجهة التحدي الذي يشكله الربيع العربي، فقد ركزت القاعدة على دمج فروعها مع المجتمعات في مناطق النزاعات القائمة من ثم رعاية المجتمعات الضعيفة من أجل استخدامها كنواة لإقامة دولة إسلامية في المستقبل. فشلت المحاولات المبكرة في اليمن (2010-2011) ومالي (2011)، ولكن جبهة النصرة قد مهدت الطريق في عام 2012 لإثبات فاعلية هذا النهج. قامت النصرة بتبني رؤى أقل تشددا للشريعة وتغلغلت بشكل ملحوظ في العمل الشعبي. وعبر الحفاظ على تفوقها في ميدان المعركة، قامت الجبهة باستقطاب العديد من المدنيين وغيرهم من المسلحين الأكثر اعتدالا لتشكيل بوابة واقية حول التنظيم في سوريا.
بدا أن القاعدة قد زرعت لنفسها جذورا أكثر رسوخا بالمقارنة بـ«تنظيم الدولة» في سوريا. وعلى الرغم من أن ذلك سوف يفيد جبهة النصرة على المدى الطويل، فإن تدهور الأوضاع داخل سوريا وتعقيدات الصراع توفر الفرصة لجميع المجموعات الجهادية لاستغلالها. ومع تقدم العملية السياسية التي يدعمها المجتمع الدولي في الأشهر المقبلة، فإن جبهة النصرة سوف تجد نفسها مستبعدة أكثر من أي وقت مضى منذ أوائل عام 2012، ولكن جذورها العميقة في محافظة إدلب شمال غرب سوريا سوف تقدم لها ملاذا آمنا على المدى الطويل. «الدولة الإسلامية»، على النقيض، من المحتمل أن تواجه تهديدا أكثر تضافرا لأراضيها في سوريا في العام المقبل، ولكن المجموعة أثبتت مرارا وتكرارا قدرتها على البقاء على قيد الحياة رغم كل الصعاب.
قلل الغرب من شأن تنظيم «الدولة الإسلامية» من قبل، ولا ينبغي عليه أن يفعل ذلك مرة أخرى. ومع ذلك فإن هذا الدرس قد أثر هاجسا غير صحي تجاه «الدولة الإسلامية» على حساب التهديد الذي تشكله جبهة النصرة. وهو التنظيم الذي من المرجح أن يمثل خصما للغرب في المنطقة لعدد من السنوات المقبلة.
فورين أفيرز
عقبة الحل السياسي في سورية!/ خالد الدخيل
يتساءل البعض لو أن الراحل حافظ الأسد كان رئيس سورية عندما اندلعت أول شرارة للثورة في درعا في 15 آذار (مارس) 2011، هل كان سينتهي به الأمر إلى المأزق الذي انتهى إليه ابنه بشار الآن؟ سؤال صعب لأن الإجابة عنه تستدعي افتراضات واشتراطات كثيرة. لكنه يبقى سؤالاً سيظل يفرض نفسه ليس أقل من أنه يتعلق بمسار سياسي متصل بدأ مع الأسد الأب في تشرين الثاني (نوفمبر) 1970، ووصل ذروة ارتباكه في شباط (فبراير) عام 2005، لينتهي إلى ذروة مأزقه الآن. وهو مسار ليس مبتوراً تماماً عما سبقه، لكنه مثّل انحرافاً واضحاً نحو هدف سياسي مضمر وغير قابل للإعلان عنه في شكل مباشر. وهو في ذلك ليس أكثر من تجسيد شاذ في تطرفه لإشكالية الحكم في التاريخ السياسي العربي. انطلاقاً من ذلك يمكن القول إن بذور المأزق في هذا المسار مدفونة في حقيقة أنه كان يراد له أن يقود إلى تأسيس سلالة حكم في الشام في إطار سياسي جمهوري، وتحت ظلال حزب البعث بنزعته «القومية»، وبقيادة عائلة صغيرة (الأسد) جعلت من انتمائها المذهبي (العلوي) الصغير أول وأهم حصونها أمام المجتمع السوري بأغلبيته السنّية. بذور الشقاق وما ستنتهي إليه من مآزق كثيرة في هذا المسار عدة أهمها وأخطرها تصادم الجمهوري مع السلالي، والقومي مع المذهبي، والأقلية مع الأكثرية. وهذه تصادمات فرضت، بحكم تضافر ضرورات طبيعة النظام أحياناً والحماقة أحياناً أخرى، تبني سياسات متطرفة تجمع التكاذب مع القمع والعنف كسياج يراد له أن يكبت هذه التناقضات إلى الأبد.
شاءت المصادفة التاريخية أن يواجه هذا النظام امتحانه القاتل مع موجة ثورات الربيع العربي في عهد الأسد الابن. وهو الأمر الذي ضاعف من المأزق. فالثورة السورية عندما بدأت لم تكن حدثاً معزولاً كما كانت حال التمرد في حماة عام 1982. هي تتمتع بزخم شعبي إقليمي، صاحبه انبهار دولي. المدهش أن الرئيس بشار الأسد تجاهل، أو لم يدرك أهمية هذا الفارق الواضح، وأنه تصرف على العكس مما يقتضيه. لم يدرك الأسباب الحقيقية الداخلية للتمرد في درعا، ولقابليته للانتشار إلى مدن أخرى. من هنا طبّق أسلوب العنف المفرط نفسه الذي تعامل به والده مع حماة، أملاً بأن يؤدي ذلك إلى وأد التمرد ودفنه داخل درعا قبل أن ينتشر إلى خارجها. لم يدرك الأسد الابن أيضاً أن وضعه الإقليمي بات مختلفاً عما كان عليه قبل وراثته للحكم. كان والده إبان تمرد حماة في ذروة هيمنته على السلطة. وإلى جانب أن هذا التمرد كان معزولاً، كانت المنطقة منشغلة بحرب كبيرة تدور رحاها بين العراق وإيران. في هذا الإطار كان الأسد الأب يتمتع بعلاقات إقليمية قوية ومتوازنة، فضلاً عن أن تمرد حماة لم تكن له امتدادات إقليمية. وبالتالي تمكن من عزل المدينة وإخضاعها لعملية تدمير قاسية أريد لها أن تكون رادعاً أمام انتقال تأثيرات التمرد إلى مدن أخرى. ونجح في ذلك نجاحاً واضحاً. لكن الآثار النفسية والاجتماعية لمذبحة هذه المدينة بقيت ندوباً مريرة في الذاكرة الجمعية ليس فقط لمدينة حماة، بل للمجتمع السوري.
كانت صورة المشهد مختلفة تماماً عندما بدأت الثورة ضد الأسد الابن في درعا، وبدا ذلك في أمور ثلاثة لافتة، الأول أنها ثورة ريف ضد أهل المدن، وليس تمرد مدينة بمفردها. والثاني أنها في بدايتها كانت ثورة ضد النظام بما يمثله وينطوي عليه وليس ضد الرئيس تحديداً (هكذا كانت شعارات التظاهرات في البداية. لكن كيف يمكن الفصل بين الاثنين؟). ثالثاً أنها جزء من موجة إقليمية عاتية، وبالتالي يصعب عزلها خصوصاً في ضوء أن ثورة الاتصالات والفضائيات، والتواصل الاجتماعي في ذروتها. وزاد من اختلاف الصورة أن العلاقات الإقليمية للأسد الابن حينها كانت مرتبكة مع الأردن ولبنان ومصر والعراق والسعودية. كل ذلك كان يفرض على النظام التعامل مع الحدث بطريقة مختلفة، استيعابية وليست تصادمية. لكن طبيعة النظام العنيفة ومرتكزاته المذهبية لا تتسع لمثل هذه السياسة ومتطلباتها. الأهم من ذلك كما يبدو أن عملية التوريث التي وصل من خلالها بشار إلى الحكم أضعفت مؤسسة الحكم، خصوصاً الرئيس نفسه. وبالتالي صار أكثر قابلية لأن تستبد به هواجس اقتلاعه أمام تظاهرات كبيرة أخذت تنتشر عدواها، بعدما حصل للرئيسين التونسي والمصري، خصوصاً ما حصل للعقيد معمر القذافي في ليبيا.
وهذا إضافة إلى أن علاقة الأسد مع إيران وصلت إلى درجة التبعية، لم تكن لتسمح بالتعامل السياسي أيضاً. الأمر الذي ضاعف من ارتباك النظام أمام الأحداث، وأدخل نفسه في حلقة مفرغة أمام الثورة، فكلما زاد عنف النظام انتشر نطاق الثورة. كان الأسد يأمل بأن تحالفه مع إيران سيمكنه من القضاء على الثورة. فتح باب سورية أمام الميليشيات التي تمولها وتسلحها إيران. لكن هذا لم يسعفه إلا في إطالة أمد الثورة، وليس القضاء عليها. أنقذه الإيرانيون من السقوط مبكراً. وساعدهم في ذلك انكفاء إدارة باراك أوباما الأميركية. لكن تبين للأسد في صيف العام الماضي أن وضعه يزداد سوءاً، وأنه لم يتبقّ أمامه إلا المحافظة على المناطق التي تحت سيطرة قواته، والتضحية في سبيل ذلك بالمناطق الأخرى التي تسيطر عليها مختلف فصائل المعارضة. تدخل الروس في أيلول (سبتمبر) الماضي لإنقاذه ومساعدته في استعادة بعض ما خسره. لكنه تدخل لم يضع حداً نهائياً لارتباك الأسد ونظامه. فمع أن الروس مع بقاء النظام، إلا أن موقفهم من بقاء الأسد نفسه ليس واضحاً تماماً. وضاعف من هذا الغموض أنه بعد ستة أشهر من التدخل الروسي أعلن بوتين سحب معظم قواته. تزامن هذا مع بداية مفاوضات جنيف 3، واستمرار النظام في تفادي الاقتراب من أي حل سياسي يطاول مستقبل الأسد، يعني أن الانسحاب ورقة ضغط على الأسد ونظامه.
هذا يعيدنا الى السؤال الأول: هل كان الأسد الأب سيتصرف بطريقة مختلفة؟ الأكيد أنه كان أكثر نضجاً وحنكة من ابنه في موضوع السياسة الخارجية والتوازنات الإقليمية. حافظ على علاقته مع السعودية ومصر على رغم اختلاف السياسات الإقليمية معهما. تحالف مع إيران لكنه لم يسمح لها بمنافسته في لبنان أو استتباعه كما حصل مع ابنه لاحقاً. أذعن لتهديد تركيا في أواخر ثمانينات القرن الماضي وعملياً سلم المعارض التركي عبدالله أوجلان لها. وبما أن نضجه في السياسة الخارجية انعكاس لهواجسه في الداخل، ربما أنه كان سيتصرف، لو امتد به العمر، مع الانتفاضة بطريقة أكثر نضجاً وأقل تصادمية. ربما قيل إن الطبيعة الهشة للنظام لا تحتمل في كل الأحوال أي تحدٍ داخلي. وهذا صحيح. لكن ينبغي الانتباه إلى أن فشل الأسد الابن على المستويين المحلي والإقليمي فرض استتباعه إيرانياً، ما ضاعف بالتالي من هشاشة حكمه ورعونة ردود أفعاله داخلياً وخارجياً.
هنا يتبدى المأزق القاتل للأسد الابن. بدلاً من وأد الثورة، ها هي تحتفل بالذكرى الخامسة لانطلاقتها. لم يعد يمسك بالورقة السورية. أصبحت في أيدٍ كثيرة. هو نفسه بات ورقة تفاوضية في أيدي الروس والإيرانيين. وباتت سورية تقاوم فرض التقسيم عليها. قتل مئات الآلاف، وجرح وهجر عشرات الملايين، ودمرت المدن، والأسد لا يزال يصر على البقاء في الحكم الذي ورثه. يقاوم الاعتراف بأنه لا حل سياسياً من دون رحيله كمن يقاوم مقصلة الإعدام.
* كاتب واكاديمي سعودي
الحياة

الدولة البوليسية: كيف نجح «الأسد» في البقاء بعد 5 سنوات من الحرب؟
لقد مرت خمس سنوات كاملة منذ بداية الحرب الأهلية في سوريا. وسط مفاوضات السلام السورية المتأخرة فإن وقف إطلاق النار يعج بالثغرات، بينما يتدفق دعم الوكلاء من جميع أنحاء العالم على مختلف الأطراف، ويبدو أن الأزمة الأكبر عالميا سوف تستمر إلى ما بعد ذكراها السنوية الخامسة.
كيف وصل الأمر إلى هذا الحد؟ قبل اندلاع أعمال العنف في عام 2011، كانت الحكمة السائدة أن إدارة رئيس النظام السوري «بشار الأسد» كانت في مأمن من الثورة. في ذلك الربيع، كنت أستعد للتوجه إلى دمشق مع تصاعد الاحتجاجات المناهضة للحكومة في تونس ومصر والبحرين. ولكن أحد الأصدقاء اللبنانيين أعرب عن رأي بدا أنه واسع الانتشار حول سوريا: وهو أن هذه الانتفاضة لن حدث هنا، وأن الحكومة السورية ليست معرضة للسقوط.
في 15 مارس/آذار 2011، تدفق المتظاهرون إلى شوارع دمشق احتجاجا على قيام الحكومة بتعذيب عدد من الطلاب الذين كتبوا لافتات مؤيدة للثورة في درعا. تحولت المظاهرات إلى أعمال عنف ثم ما لبث أن تحول العنف إلى حرب أهلية شاملة. ولكن مع مثابرة ملحوظة، فقد تشبث الأسد بسيطرته على الأرض على مدار خمس سنوات من الصراع الدامي، ونجح في الحفاظ على حكم عائلته للبلاد رغم المعاداة التي لاقاها من المجتمع الدولي. وهو الآن يتمتع بدعم هائل من قبل روسيا وإيران وحزب الله. لكن إدارة «الأسد» قد برهنت على تمتعها بمرونة ذاتية لأسباب خارجة عن الرعاة الخارجيين. وقد ساعدت القدرات الاستخباراتية والأمنية الضخمة للحكومة التي تقودها أقلية علوية في الحفاظ على سيطرتها على مجموعة متنوعة من السكان.
صعود الدولة البوليسية
هناك مجموعة متنوعة من الجماعات الدينية والعرقية داخل الحدود السورية وقد شكلت هذه التنوعات تاريخيا تحديات كبيرة واجهت حكامها. وقد نجح الحكم العثماني في الحفاظ على تراث التنوع السوري بشكل كبير مقارنة بالانتداب الفرنسي في وقت لاحق، والذي شهد عهده ممارسات مؤسفة في تفضيل بعض الجماعات على بعضها الآخر. بعدما غادر الجنود الفرنسيون الأراضي السورية في عام 1946، فقد عملت الجمهورية السورية حديثة الاستقلال على تعزيز قدراتها العسكرية والاستخباراتية. شكلت سوريا وحدة قصيرة الأجل مع مصر عام 1958 من أجل توسيع نطاق انتشارها إلى ما وراء الحدود. خلال هذه الفترة، كسب حزب البعث العربي الاشتراكي المزيد من السيطرة، ونجح في ترسيخ سلطته من خلال الانقلابات في أعوام 1963 و1966.
بعد انقلاب غير دموي في عام 1970، قام وزير الدفاع وزعيم حزب البعث «حافظ الأسد» بتنصيب نفسه رئيسا للبلاد. وقد قام بتوزيع المناصب القيادية على حلفائه المقربين بهدف خلق دائرة من الأتباع المخلصين لضمان السيطرة في نظام يتمتع بقدر من اللامركزية. نجح الرئيس الجديد في تأسيس علاقة بين أعضاء حزب البعث ونخبة رجال الأعمال جعلهم يعتمدون عليه بشكل كبير، وجعل رئاسته أمرا لا غني عنه من أجل استقرار النظام بأكمله.
ربما كان العنصر الأكثر أهمية في الحفاظ على القبضة الصلبة للحكومة على السلطة هو جهاز الاستخبارات القوي الذي تعود أصوله إلى بقايا الإرث الاستعماري الفرنسي. حتى عام 1969، كان هذا الجهاز يعرف باسم المكتب الثاني وكان مصمما بشكل كبير على طراز الجهاز الذي تم إنشاؤه تحت الحكم الفرنسي. هيمن هذا الجهاز بشدة على جماعات المعارضة في لبنان، وقام بتعزيز الدعم لبعض الجماعات الدينية والعرقية خارج الحدود السورية، مثل حزب الله. تحت حكم «الأسد» الأب، صار جهاز الاستخبارات أكثر قوة. مكنت شبكات المخابرات العابرة للحدود الحكومة من مراقبة السكان عبر مساحات واسعة من الأراضي ومعاقبة المعارضة. أي شخص ينتقد الحكومة ويتعرض لشخص الرئيس اللوم ولو على سبيل المزاح كان يتعرض للبطش. وفي الوقت نفسه، فإن أجهزة الاستخبارات السورية أصحبت كيانات سياسية مستقلة، وفرضت هيمنتها على السياسة الداخلية والخارجية.
وبفضل هذه الهيمنة العسكرية والشرطية، فقد ظل حكم «الأسد» بلا منازع منطلقا. عندما كانت تنشأ بوادر التهديدات فإن الجيش كان يقوم بسحقها على الفور. في عام 1982 نظمت جماعة الإخوان المسلمين في حماة حملة معارضة ضد الحكومة التي يقودها العلويون. وردا على ذلك، فقد قام الجيش السوري بقل عشرات الآلاف من السوريين لأجل القضاء على التمرد، وهو الفعل الذي عزز التصور العام حول «الأسد» كقائد وحشي.
لم يعاني الجميع من وطأة الدولة البوليسية. السوريون الذين انصاعوا للقانون وتجنبوا التورط في أي نشاط سياسي معاد للحكومة قد نجحوا في الإفلات من هذه الوحشية. وقد امتدت العقوبات القاسية التي فرضتها الأجهزة الأمنية لتشمل ردع الجرائم اليومية وليس فقط المعارضة السياسية ما أدى إلى انخفاض معدلات الجريمة خلال فترة حكم «الأسد». ومع ذلك، فقد كافح العديد من السوريين من أجل تأمين مستوى معيشي لائق.
فرصة ضائعة في الإصلاح
تولى «بشار الأسد» الرئاسة خلفا لوالده في عام 2000. كان بشار الأسد طبيبا للعيون ولم يكن يتمتع بخبرة سياسية كبيرة، وكان شقيقه الأكبر الذي توفي في حادث سيارة في عام 2000 هو الذي يجري إعداده لتولي المنصب، وقد مهدت وفاته طريق «الأسد» الصغير للارتقاء إلى السلطة.
ورث الرئيس الجديد الشبكات المعقدة التي صنعها والده. منذ اندلاع الحرب في عام 2011، فإن هذا النظام قد خدمه بشكل جيد. لا يزال الرئيس السوري يحتفظ بدعم العلويين إلى اليوم جنبا إلى جنب مع مختلف الأقليات الدينية التي لا تزال تنظر إلى أن سوريا في غياب «الأسد» سوف تكون أكثر خطورة بالنسبة إليهم. وقد وفرت العلاقات الوثيقة بين القادة العسكريين ورجال الأعمال ما يكفي من الدعم لمساعدته على الاستمرار والدفاع عن أرضه خصوصا على الجبهتين الساحلية والجنوبية.
في بداية توليه المنصب، قام «الأسد» ببعض الإصلاحات الليبرالية شديدة المحدودية على الدولة البوليسية التي ورثها. إلى درجة صغيرة، اعتقد الأسد في أهمية وجود متنفس للتعبير عن الآراء من أجل منع تحول الاستياء العام إلى غليان. خلال هذا الربيع الدمشقي، كما يطلق على تلك الفترة القصيرة التي أعقبت ارتقاء «الأسد» إلى السلطة، تسامحت الحكومة مع المزيد من حرية التعبير. وعلى الرغم من أن الرسائل المناهضة للحكومة بشكل صارخ كانت لا تزال سببا كافيا للعقاب وحشي، فقد تم السماح ببدء حوار سياسي وطني مؤقت.
سارعت النخبة السورية القلقة إلى عكس معظم هذه الإصلاحات. وأكدت استجابة الإدارة القاسية إلى المتظاهرين خلال الربيع العربي أن أي رؤى حول مجتمع مدني سوري أكثر انفتاحا كانت بعيدة كل البعد عن الواقع. إلا أن الفترة الوجيزة التي عاشها السوريون مع قدر أكبر من الحرية ظلت متغلغلة في نفوسهم.
وقد طغت الحرب الأهلية الآن إلى حد كبير على أي مطالب للإصلاح. وقد ذكر «الأسد» مؤخرا أنه يريد أن يذكره الناس على أنه الرجل الذي قام بإنقاذ بلاده. لكن بالنسبة لمعظم من المجتمع الدولي، فإن الأسد سوف يذكر الشخص الذي خلف تراثا مختلفا: الأزمة التي أسفرت عن مقتل مئات الآلاف وتشريد الملايين. التركة الأكبر التي يعول عليها «الأسد» من أجل إبقاء نظامه هي تلك الشبكة من المؤيدين الذين يدينون بالولاء التي تمكن هو، ومن قبله والده، من الحفاظ عليها لنصف عقد من الزمن والتي سوف يعتمد مدى نفوذها في سوريا الجديدة، أكثر من أي وقت مضى، على نفوذ رئيسها.
ترجمة وتحرير فتحي التريكي – الخليج الجديد
المصدر | ستراتفور
هل يستطيع خامنئي ونصرالله النوم أيضاً؟/ محمد مشموشي
عندما وجه صحافي ألماني، من منطلق إنساني وربما آدمي فقط، سؤاله إلى رئيس النظام السوري بشار الأسد: «هل تستطيع أن تنام؟!»، لم يكن يخطر في باله ولو للحظة واحدة أن يأتيه جواب الأسد بهذا الشكل: «أنا أبحث عن ساعات للعمل، وليس للنوم».
كانت في ذهن الصحافي، وهو يوجه سؤاله، صور الآلاف من النساء والأطفال السوريين يغرقون في البحر وهم يهربون من بلدهم أملا في بلوغ شواطئ أوروبا، وعشرات آلاف الذين يقيمون في العراء على الحدود المقفلة أمامهم، وأكثر من ثلاثمئة ألف قتيل وضعفهم من الجرحى والمعوقين، وملايين المشردين داخل بلدهم وفي جواره القريب والبعيد. كانت في ذهنه أيضاً المسؤولية التي يتحملها الحاكم عندما يستخدم السلاح الكيماوي والبراميل المتفجرة ضد شعبه، وإمكان (مجرد إمكان) أن يؤثر ذلك نفسياً فيه كإنسان قبل أي شيء، وتالياً على عدد ساعات نومه أو نوعه… عميقاً مثلاً، أو قلقاً، أو متقطعاً، أو غير ذلك.
وليس خافياً أن الأسد لم يكن موجوداً قبالة صاحب السؤال، لا كحاكم مسؤول عن مصير بلد وحياة شعب، ولا كإنسان أو ككيان بشري خصوصاً، لهذا جاء جوابه على الشكل الذي جاء عليه: التفتيش عن المزيد من الوقت لإنزال المزيد من التدمير بالبلد والبطش بالشعب السوري.
هذه الصورة تبدو الأبشع، ليس فقط لدى الصحافي الذي أجرى المقابلة مع الأسد، وقد لمّح إلى هذا بصراحة، بل كذلك في عيون كل من قرأها أو اطلع عليها، عشية انتهاء خمسة أعوام كاملة من ثورة الشعب السوري ضد نظام الأسد في 15 آذار (مارس) الحالي.
ذلك أن رئيس بلد يرى بعينيه (هل يرى فعلاً؟!) قرابة نصف الشعب الذي يحكمه (10 ملايين من أصل 23) وقد تشرد في أنحاء المعمورة كلها، وسقط منه مئات الألوف قتلى وجرحى ومعوقين، كما دمر الكثير من مدنه وقراه وبناه التحتية بصورة كاملة أو جزئية، ثم لا يهتز له جفن أو ضمير نتيجة ذلك، بل يفتش، كما صرح، عن المزيد من الشيء ذاته، إنما يستدعي من الكراهية والحقد والتمرد ما لا تملك عبارة الإحاطة به، ليس لشخصه وقواه العقلية فحسب إنما قبله لمبتدع أسطورة «سورية الأسد» الأول، حافظ الأسد الذي صاغ أسطورته هذه بدماء السوريين، ثم أورثها عملياً، مع الأرض والشعب والدولة، إلى ابنه بشار قبل أن يغادر الدنيا في 2000.
إذ لا يمكن تصور أن تحل بسورية الكارثة الأسوأ في العصر (الأكبر منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، كما تقول الأمم المتحدة)، ويبقى رئيس النظام فيها يعيش حياته كأن لا شيء يعنيه. بل أكثر، أن يتوهم أن في إمكانه أن يواصل الحكم فيها بعدما فقد السيطرة على أكثر من ثلثي الأرض واستدعى ميليشيات وجيوشاً من الخارج للمحافظة على الثلث الباقي… وحتى أن يظن، كما نقل عنه أخيراً، أن في قدرته الدعوة ثم إجراء انتخابات نيابية ورئاسية تعيده وفريقه إلى الوضع السابق من دون تبديل أو تغيير.
كما لا يمكن تخيل أن يعمد هذا «الرئيس»، فيما تحاصر قواته والميليشيات التي استدعاها من الخارج مئات الألوف من السوريين وتمنع عنهم الغذاء والدواء، إلى شن حملة لا تتوقف على دول ومنظمات أممية وإنسانية خاصة تحاول تقديم العون للمحاصرين، وحتى أن يظهر كمن يمنّ عليها عندما يقرر فك الحصار موقتاً للسماح بمرور المساعدات. بل أبعد، أن يتهم الدول والمنظمات هذه بالتآمر على سورية وبأنها تلعب دوراً مخابراتياً وعسكرياً ضدها، بينما يعرف القاصي والداني أن أحداً من حلفائه هو (روسيا وإيران والعراق) لم يقدم حبة دواء أو سلة غذاء واحدة للمحاصرين هؤلاء… ولو إلى جانب أطنان القذائف التي يمطرونهم بها منذ سنوات!
مع ذلك كله، فهذا «الرئيس» الاستثنائي جداً، والذي يسمع الأوصاف التي تطلقها عليه غالبية زعماء العالم من أنه فاقد الشرعية وقاتل شعبه، لا يرى لزوماً بعدما مرّ به منذ بدء الثورة ضده، لا للأرق في النوم (وما قد يؤدي إليه من عزوف أو استقالة) على خلفية ما يعانيه شعب بلده من تشريد وجوع ومرض وبرد في العراء، ولا حتى للاعتراف بالحقائق السياسية الجديدة في هذا البلد بعد 5 سنوات كاملة من القتل والتدمير على يديه وأيدي حلفائه.
لماذا؟ هناك من يجزم بأن الأسد لم يعد يملك ما يمكن أن يقوم به، حتى لجهة الأرق في النوم أو الاستغراق فيه إذا ما كانت له حاجة به. وأنه، بعد مراهناته الكثيرة على قوة نظامه وقوة حلفائه من جهة وعلى تعب الثوار بما يؤدي إلى استسلامهم من جهة أخرى، بات رهينة من دون أي قرار في أيدي هؤلاء الحلفاء.
هكذا، لم يعد يوجد في سورية الآن رئيس، وتحديداً هذا «الرئيس» الاستثنائي وغير الطبيعي الذي توجه إليه الصحافي الألماني بسؤاله: «هل تستطيع النوم؟». فهذا السؤال، يرتفع عملياً في وجه كل من المرشد الإيراني السيد علي خامنئي والأمين العام لـ «حزب الله» السيد حسن نصرالله… من دون أن ننسى طبعاً الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
* كاتب وصحافي لبناني
الحياة

ما لم يفهمه الأسد/ حسين عبد الحسين
لم يفهم الرئيس السوري بشار الأسد مفاتيح القوة التي ورثها عن ابيه الراحل حافظ. لم يفهم ان الاهمية الاستراتيجية لسوريا الأسد كانت عبارة عن ألاعيب سياسية ذكية مقرونة بدعاية عمِل والده على تكريسها على مدى عقود. لم يفهم بشار ان سوريا دولة صغيرة بالمقاييس الاقليمية والعالمية، كبيرة وقوية فقط على لبنان واللبنانيين. لم يفهم ان موارد سوريا متواضعة. ولم يفهم ان دوره الاقليمي والعالمي اقتصر على الابقاء على هضبة الجولان السوري المحتلة آمنة، وعلى ابقائه الفصائل الفلسطينية واللبنانية، ولاحقا المتطرفة مثل “فتح الاسلام”، منضبطة، تحت طائلة تسليم المشاغبين الى سلطات القوى الكبرى، مثلما سلّم والده كارلوس للفرنسيين.
اعتقد بشار الأسد ان لسوريا اهمية استراتيجية عالمية تجعل من حلفائها اللبنانيين موظفين تحت إمرته. واعتقد بشار ان سوريا تلعب لعبة اقليمية برعايتها الضربات ضد الاميركيين في العراق. واعتقد بشار ان واشنطن غير قادرة على التواصل مع طهران وانها تحتاج دمشق للوساطة. واعتقد بشار ان الخليجيين يعيشون في خيمٍ وانه يمكن فرض ما يعجبه عليهم بمساعدة ايران.
لم يعرف بشار ان والده بنى الاهمية الاستراتيجية لسوريا على توازن دقيق جدا بين الاتحاد السوفياتي واميركا، ولاحقا بين العرب وايران. لم يعرف بشار ان والده حكم لبنان بتقنينه استخدام العنف واستناده الى شبكة من الحلفاء الذين يتخاصمون في ما بينهم، غالبا بتحريض من دمشق، التي كانت تقرر حجم وحصة كل منهم، وتستبعد من لم يقبل اللعب حسب قوانينها.
لم يفهم بشار ان والده تحين بدء طهران الهجوم الذي وضع القوات الايرانية على بعد عشرات الكيلومترات من مدينة البصرة العراقية، ليأمر قواته بتلقين “حزب الله” اللبناني درساً واجتياح ثكنة “فتح الله”. اختار حافظ الأسد لحظة الضعف الايراني لينتزع إقرارا إيرانيا بأنه صاحب الكلمة العليا في لبنان، وباع موقفه الى العرب الذي كانوا يخشون انتصاراً ايرانياً في الجنوب العراقي ولبنان.
لم يفهم بشار ان والده حكم المدن السورية بقوة الاستخبارات ولكنه أمسك الريف بتحريضه القبائل الاصغر على تلك الاكبر منها، ودعمه القبائل الصغرى وشيوخها، ومنحها وظائف وتراخيص حمل سلاح، والحصول على مبايعة هؤلاء. اعتقد بشار ان رجال استخباراته كانوا قادرين على الامساك بدرعا حتى لو اهان مشايخها الذين زاروه حتى “يطلبوه” فيرفع الظلم عن اطفالهم الذين اقتلعت اظافرهم.
اعتقد بشار ان العالم سيهاب تهديداته بأن المنطقة الممتدة من قزوين الى المتوسط ستتحول كرة نار لو لم يذعن العالم لمطالبه ويتجاهل دمويته التي تخطت، بما لا يقاس، تلك التي وظفها والده الراحل وعمه رفعت.
هكذا، بعدما اغضب بشار الأسد لبنان واللبنانيين بعجرفته وعنفه، فخسر حلفاءه وخرج ذليلا، خسر بشار السوريين، المثقفين اولا ثم العشائر والقبائل فباقي الشعب. وللتعويض عن خسائره، راح يسعى لتنفيذ وعوده بتحويل المنطقة الى كرة نار، فيزرع عبوات في لبنان، ويطلق النار على المتظاهرين السوريين السلميين.
ربما كان بشار الأسد يعرف انه لا يمكن للأقليات، مثل العلويين، خوض معارك استنزاف ضد الاكثريات مثل السنة، وربما وافق على بعض التنازلات بعد اسابيع من فشل حملته الدموية في ثني معارضيه عن التراجع. لكن يبدو ان ايران، التي لا تفهم كثيرا سياسات الاكثرية والاقلية، أملت عليه تكرار قمعها لثورتها بقمعه ثورته، فجرّ الدم السوري المزيد من الدم حتى إنهارت سوريا على رأس السوريين.
وأصرّ بشار والايرانيين على تسويق روايتهم القائلة بمحاربة الارهاب، وهو ما يتطلب دعماً دولياً تحت طائلة تحويل المنطقة الى كرة نار، وهم حولوا سوريا الى نار فعلا.
لم يتصور الأسد والايرانيين ان أوباما لن يكترث، طالما ان اسرائيل تجاوزت امتحان انهيار الأسد على حدودها. لكن الأسد والايرانيين نجحوا في توريط بوتين، الذي اعتقد ان سوريا مفتاحه للبريق دولياً، قبل ان يتبين ان سوريا مستنقع لموارده المالية وقواته، بالضبط حسبما انذره أوباما، فتراجع الرئيس الروسي.
لم يفهم الأسد ان للقوة حدوداً، وانه لا يمكنه الحكم بالقوة وحدها، وان والده حكم باستمالة من أمكن، وتفريق اعدائه لتسهيل القضاء عليهم.
خرج بوتين. ستخرج ايران. لم تعد سوريا الا ركاماً، وتعرى الأسد وصار واحداً من لاعبين كثر يجلسون على الطاولة السورية ليتوصلوا الى حلول. اعتقد بشار انه اذا كبرت مشكلة سوريا، يتراجع العالم ويكلفه ضبطها، فاذ بالقضية السورية تكبر وتجبر حاكم دمشق ان يصبح صغيرا.
المدن
عن «ديموقراطية» الأسد وانتخاباته/ خالد غزال
أعلن النظام السوري أن الانتخابات التشريعية لانتخاب برلمان جديد ستجرى في موعدها الدوري خلال نيسان (أبريل) المقبل، وذلك التزاماً بالحفاظ على العملية الديموقراطية في سورية. أثار القرار استهجاناً واسعاً في الداخل والخارج، باستثناء ما عبر عنه الرئيس السوري بوتين من أن إجراء الانتخابات لا يتعارض مع العملية السياسية الجارية. فهل تعبر الانتخابات حقاً عن «العشق الديموقراطي» للنظام السوري غير المعروف عنه هذه المحبة؟ وكيف ستتحقق في ظل الأوضاع الراهنة؟
صحيح أن الانتخابات أحد مظاهر التعبير عن سيادة الدولة وحق من حقوق ممارسة الشعب في اختيار ممثليه في السلطة. لكن السيادة السورية اليوم هي المفقودة فعلاً والموضوعة في يد القوى الخارجية. منذ سنوات، وخلال الحرب الأهلية الدائرة، انتقلت السيادة السورية من النظام القائم إلى المعسكر الإيراني الذي بات يتحكم بمسار الحرب ومفاصل السياسة. وقبل أن يتضح معنى الانسحاب الروسي الأخير، يبقى أنه لا يمكن نسيان وجوب خضوع الأسد لما تقتضيه المصالح الروسية، ما يعني أن العنصر الأول لتحقق السيادة بات شبه مفقود بالكامل.
العنصر الثاني الذي يستدعي التأمل به هو «حدود» الشعب السوري الذي سيمارس العملية الديموقراطية. يعرف الرئيس السوري أن نصف شعبه يعيش اليوم خارج سورية، مشتتاً بين الدول المجاورة ويعاني مرارة الذل والعيش في المخيمات، وقسماً منه بات ضائعاً في بلاد الله الواسعة، ما يعني أن قسماً من هذا الشعب موجود في مناطق محددة تخضع لسيطرة النظام هي التي ستنتخب وتنوب عن سائر السكان. ألا يشي هذا الإصرار على إجراء الانتخابات عملياً في مناطق «سورية المفيدة»، بأن النظام قد نفض يده من سورية الموحدة، وبات يتصرف عملياً على أن حكمه سيقتصر على مناطق محددة من سورية؟ أي عملياً على الإقرار الواقعي بتقسيم سورية؟
عامل آخر يتصل بما سبق، إن القسم الأكبر من سورية يقع تحت سلطة التنظيمات المسلحة، ولا صلاحية لمؤسسات النظام في التعاطي معها، فكيف سيتصرف النظام مع السكان الذين ما زالوا يقطنون هذه المناطق، وهل أسقطهم من الحساب، وكيف تتجسد السيادة الرسمية في هذه المناطق؟ ما يعني أيضاً الحسم الرسمي بأن تلك المناطق الموجودة خارج «سورية المفيدة» لم تعد تعني للنظام أي ارتباط بالبلد الأم، وهو أمر يطعن بشرعية كل العملية الديموقراطية المدعاة.
يأتي الإصرار على إجراء الانتخابات في ظل عملية سياسية جارية باتت عناوينها واضحة: حكم جديد، دستور جديد، وانتخابات رئاسية ونيابية جديدة على أساس الدستور الجديد، وهي قضايا بات عليها شبه اتفاق من القوى الممسكة اليوم بالأزمة السورية والمحددة مسارها المستقبلي، أي الولايات المتحدة الأميركية وروسيا. من المعروف أن العناوين الثلاثة هذه تهدف إلى تكوين للسلطة مختلف عن واقعها الحالي، بحيث لا يعود الحاكم السوري مطلق الصلاحيات. وهذه العناوين الثلاثة سيدفع النظام السوري ثمنها، فهو الذي يملك كل شيء في الحكم والسلطة، وهو الذي سيقدم التنازلات التي ستقلص من وطأة تسلطه. والنظام يدرك النتائج المترتبة على المسار السياسي، لذا يستبق الإنجاز الأخير للمفاوضات بوضع القوى الغربية أمام أمر واقع، بحيث لا يعود من معنى للعملية السياسية الجارية ولا للانتخابات التي ستجرى استناداً إليها. ناهيك بأن النظام لا يبدو أنه مرتاح لعمليات وقف إطلاق النار وقصف السكان وتدمير ما تبقى من البلد، بل هو يسعى عملياً لاستعادة الحرب بالقوة. لكن الرئيس السوري يعرف في الوقت ذاته أن هذا القرار هو قرار الرئيس بوتين أولاً وأخيراً.
ما يعزز الرغبة السورية في استئناف القصف، عودة التعبير الشعبي الذي شكل ميزة الانتفاضة السورية في بدايتها. انطلقت التظاهرات مجدداً بمجرد شعور السكان بالهدوء الحربي، وعاد هذا الشعب إلى شعار إسقاط النظام، على رغم معاناته من القوى المسلحة التي تبسط سيطرتها عليه. إنه من المؤشرات الإيجابية التي تؤكد أن هذا النظام هو المسؤول أولاً وأخيراً عما أصاب سورية وانتفاضتها وحرفها عن مسارها السلمي، كما تمثل إشارة للنظام السوري تجعله يرغب بقوة في قصف المناطق، حتى لا يتواجه بتعبيرات معادية له على غرار التظاهرات الأخيرة.
* كاتب لبناني
الحياة

إنصافاً للأسد/ ماجد عبد الهادي
لا يقتل الرئيس السوري، بشار الأسد، قرابة نصف مليون من مواطنيه، ويشرّد نحو عشرة ملايين آخرين، فضلاً عن تدمير بلاده، في الحرب ضد الشعب المنادي بإسقاطه، منذ خمس سنوات، لكي يقبل، في الأخير، بأن يضع مصيره، ومستقبل نظام حكمه، بين أيدي نظيره الروسي، فلاديمير بوتين، فيتكرّم الأخير عليه بإبقائه في منصبه، أو يبيعه في سوق النخاسة الدولية.
واستدراكاً، تبدو التحالفات الدولية والإقليمية لنظام الأسد أعقد بكثير من الرؤى المسطّحة التي طالما رسمته ذيل كلبٍ اسمه بوتين، وصوّرته ألعوبة بيد الروس أو الإيرانيين، يحرّكونه، وفق ما يشاؤون، وإن اقتضت مصالحهم شطبه من المعادلة، يقولون له “هيا غادر المشهد”، فيغادر صاغراً.
لا. ليس الأمر على هذا النحو، في سورية، ولم يكن يوماً. ثمّة في هذي البلاد، وللإنصاف، طبقة سياسية حكمت نصف قرن، واستطاعت، على الرغم من جوهرها الطائفي، بل العائلي، أن تمدّ جذورها في بنى الدولة والمجتمع، وأن تسيطر على الاقتصاد، وأن تستخدم الجمل الثورية لتسوّق نفسها قيادة “مقاومة وممانعة”، وأن تحافظ، بفعل حنكة مشهودة، على هامش استقلالٍ واسعٍ نسبياً عن حلفائها الإقليميين والدوليين، خصوصاً في عهد الأسد الأب، وهي حتى وإن تغيّر حالها، أو تراجعت إمكاناتها في عهد الأسد الابن، وبعد الثورة عليه تحديداً، فإن التجربة المتكرّرة ما انفكّت تثبت، ولا تزال، قدرتها على الاستفادة من لعبة المصالح المتبادلة مع موسكو وطهران، وكثير من عواصم العرب والغرب، وصولاً إلى تل أبيب، أو بدءاً منها، بما ساعد نظام الحكم على البقاء، إلى الآن، شوكةً في حلق الشعب السوري، يصعب اقتلاعها.
وفق هذا المعنى، يمكن فهم إرسال روسيا طائراتها لحماية الأسد، بعدما أرسلت إيران حرسها الثوري، ومليشيات حزب الله، باعتبار ذلك أدلةً، لا على ارتهان الرجل لهاتين الدولتين، وإنما على تلاقي الأحلام الامبراطورية لقيصر الكرملين، وكذا لكسرى الجديد، مع مصلحة طاغية دمشق في النجاة من الغرق ببحر الدم الذي سفكه. كيف لا، وهنا المياه الدافئة التي ظلت سفن القياصرة تلهث في السعي نحوها على مر التاريخ؟ كيف لا، وهنا البحر المتوسط الذي لا يمكن أن تصير فارس دولة كبرى، بغير توسيع نفوذها ليشمل السيطرة على بعض شواطئه الشرقية؟ كيف لا، وهنا الديكتاتورية التي أثبتت استعدادها لفعل أي شيء سوى التخلي عن السلطة؟!
على ذلك، اجتمعت، إذن، مصالح الأطراف المعلنة في الحلف ضد الثورة السورية، حتى بدت متطابقة، ولولا إشارات انزعاجٍ صدرت من موسكو، في غير مرة، تعقيباً على تصريحاتٍ عنتريةٍ أدلى بها الأسد، ومعاونوه، في نشوة الزهو بالتقدم الذي حققته قواتهم ضد المعارضة نتيجة العون الروسي، لما التفت كثيرون إلى ما قد يشوب العلاقة بينهما من نقاط خلافٍ خفيّة، وكذا الحال أيضاً في ما خصّ تسريباتٍ ظلت تفضح تنافس موسكو وطهران، على الإمساك بزمام نظام الحكم المتهالك. أما بعد قرار روسيا سحب قواتها جزئياً من سورية، وإبقاء قواعدها الجوية والبحرية، فما عاد خافياً وسط التحليلات المتباينة لما وراء هذه الخطوة، اختلاف الحليفين على حدود التنازلات التي ينبغي أن يقدمها الرئيس السوري في أية تسويةٍ سياسيةٍ مقبلةٍ مع معارضيه.
ودونما تقليل من صحة الرؤى التي تتحدّث عن إرهاقٍ ماليٍّ أصاب موسكو، وعن صفقات محتملة، ربما أبرمتها مع واشنطن، فكأني بالقيصر، وقد أعلن أن قواته حققت أهدافها، يقول الآن لنفسه: ها نحن، أخيراً، نمدّ أرجلنا في المياه الدافئة، وذاك كفيلٌ ببقائنا لاعباً رئيساً في مستقبل سورية، بقي الأسد أو رحل. كأني بالأسد، أيضاً، يقول في الوقت نفسه: لديّ جيران أكثر حرصاً على حمايتي، بعدما حميتهم، وأبي، أربعين سنة، وإذا لم يكن من الرحيل بدٌ، فليس إلا في حال تخليهم عني، وبيدي، لا بيد بوتين.
العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى