بشير البكرصفحات الثقافة

حياة في الكتابة/ بشير البكر

 

 

شعرت بأن الكتابة رفعتني مرتبةً في اليوم الأول من المدرسة، سطر واحد اختصر أمامي سنة كاملة. ومنذ ذلك الحين، فإن كل ما صادفت أو عشت وما اتخذت من قراراتٍ في حياتي، ذات طبيعة عادية، أم كانت ذات تأثير بعيد، هو على صلة مباشرةٍ بالكتابة، واليوم بعد سفر طويل لا أستطيع التفكير بشيء خارج الكتابة، وأول أمر يخطر لي حين أواجه موقفاً معقداً هو اللجوء إلى الكتابة، محاولة فهم الموقف من خلال الكتابة، التعبير عنه بالكتابة. وإذا فشل النص في محاكاة الحالة، كنت أشعر مباشرةً بأني أخفقت في فهم الحالة نفسياً. وهنا، ينفرط العقد ويتشتت كل شيء، فيأتي الألم والحيرة والإحساس بالإحباط الذي يصل إلى القاع في كل مرة، ولا ينتشلني من الأمر سوى كتابةٍ جديدة تنتقم من الفشل السابق، وتعوّض عنه كنوع من المتعة الانتقامية.

لا أدري إن كنت أستطيع أن أعيش لوقت طويل بلا كتابة، لكني أعرف أن أول عمل أقوم به حين أصحو من النوم هو أن أهرع إلى الكومبيوتر، ولدي هاجسٌ واحد هو الكتابة. نص جديد، او إتمام نص قديم، تنقيح فكرة أو تعديلها. وفي بعض الأحيان، إلغاء ما كتب في وقت سابق، والبدء من جديد. أشعر، في الصباح، بأن الكتابة صلاة، وأننا على امتداد العمل نركض بعين عمياء وأذن صماء. وكلما ازدادت السرعة، تراجع التعب، وطفحت النشوة، وضمرت البلاغة لنقع في نوع من عذاب الكلمات، بينما تسيل من العيون دموع حقيقية.

بالنسبة لي، ليس هناك ورطة أكثر وطأة من الكتابة، ولم أفكّر بمخرج في الحياة أكثر رحابة من هذا الطريق. حين لا أستطيع الكتابة، لا أحس بنفسي، أشعر بأني كائن من قش، وحين أقف أمام حال صعب في الحياة، في لحظة انسداد الطريق، يظهر الكاتب ليقودني في العتمة كي أتلمس الأحرف، وأتهجّى الكلمات.

لا أدري، أحسّ، أحياناً، أن وهم الفكرة أشد جاذبية من الفكرة ذاتها، وأقوى مذاقاً من تجسيدها على الورق. يجب أن يتحوّل الكاتب إلى صانع ماهر، لكي ينسج فكرة قادرة على اختراق حواجز البلادة التي تولدها رتابة الكتابة، من خلال معادلة التجربة والكلمات، ومن ثم يحولها الى مستوى شخصي مثلما يرد المرء على النار عن كثب.

تبقى مراودة الفكرة مثل مراودة المرأة، فيها من اللعب والغواية والتجلي والخفاء ما يجعل النص يتقلب على نار هادئة، بينما أحسّ، أحياناً، بأن لقاء بعض النساء والتوغل في عوالمهن يسقط الكثير من سحر الصدمة الأولى. المرأة التي يبهت ظل حضورها الأول، ولا تبقى على الدوام مثاراً للاهتمام امرأة ميتة. لا ظل للمرأة التي تترك آثار صدمتها الأولى تنمحي بسرعة، وعادة ما تأتي العواقب كارثية حين يستحم الرجل في المرأة مرتين.

كانت الفكرة تأتي أحياناً من تلقاء نفسها، مثل توقيع سرّي، لكنها تختفي فجأة، تلمع ثم تضمحل وتختفي، فأشعر حيال ذلك بأسىً شديد، يشبه هجران امرأة، وكأنها المرأة الوحيدة والأخيرة في الكون، لكني كنت أخفف عذاب تشتت الفكرة بالجري قرب البحر، الرياضة طالما غسلتني وأعادت لي لحظة توتر الكتابة، ووقت اليوغا الذي أمضيه بعد الانتهاء منها قبالة البحر كان يشحنني بصبر استثنائي، وخواء يعيدني إلى حالة البحث والتفكير البعيد، شأن امتداد البحر وغناه بالأسرار. تواتر الشهيق والزفير، على مدى ساعة من الركض، كان بمثابة تنظيف للذات من صدأ الوقت وكدمات الأيام التي تأتي من مكان واحد، يحبس فيه المرء نفسه في صورة خاطئة أو صحيحة، لا فرق. الحبس هو الحبس، ولا تغير من أهواله صفة المكان.

في الركض، أعود إلى دون كيشوت وهو يلاعب طواحين الحياة، وأحسّ دائماً بالخطأ الكبير، وهو أني كثيراً ما أغفلت هذه الطواحين. وفي ختام كل تمرين، كنت أرجع إلى مقولته الشهيرة “أنا هو أنا…”، ولا مفرّ لي بغير الكتابة، وعليّ ألا أعطي أهمية كبيرة لتقليب الصفحات وملاحقة تعاقب الأسطر، ولا درب لي غير أن أدع الكتابة تذهب بعيداً بما يتجاوز نواياي وآمالي، لتصير أوفر.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى