صفحات الرأيمنير الخطيب

حيث تتناسل التحديات التي تفتك بالبناء الوطني الحديث/ منير الخطيب

 

 

رحل المفكر والسياسي السوري ياسين الحافظ في 28 تشرين الأول (أكتوبر) 1978 في بيروت، حيث كان يعيش وهي تحترق بنيران حربها الأهلية. كان من القلائل الذين لم تخدعهم الشعارات الكبرى التي غلّفت نوى الحرب اللبنانية الطائفية، لذا كان يصفها على الدوام بأنها حرب طائفية قذرة بين فلقتي أمة، مثلت انتكاسة للتقاليد المسيحية العربية في الديموقراطية والحداثة، والتي كانت من العناصر التكوينية المهمة في «محاولة النهوض» العربي بداية القرن الماضي. ومثلت تلك الحرب، أيضاً، نكوصاً للقوى القومية واليسارية وللفصائل الفلسطينية المسلحة، التي غطست فيها جميعها، بدعاوى أيديولوجية واهية، عبّرت عن تدهور في الوعي إلى منسوب ما دون وطني.

إن محتوى النقد الذي مارسه ياسين الحافظ للبنى الثقافية والمجتمعية والسياسية، التي أنتجت تلك الحرب، لا يزال راهناً، لأن ذات البنى لا زالت تفرّخ عناصر الحروب الأهلية القائمة منها والكامنة في «مجتمعات» المشرق العربي. ولأن أبوّة «حزب الله»، بوصفه أحد أبرز أدوات التوتير والحقن المذهبي في لبنان والمشرق، تعود إلى نتائج ومداخلات تلك الحرب، وإلى واقعة الانقسام المذهبي والطائفي اللبناني، التي تراكبت مع التدخلات الخارجية، وبخاصة التدخل السوري والاختراق الإيراني. وأيضاً، كون الكلبية المذهبية المستعرة في الإقليم، تنذر بتفكيك الكيانات والدول التي تشكلت بعد اتفاقية سايكس – بيكو، وتهدّد مستقبل شعوب المنطقة وأمنها، وتثبت، من جديد، أن الانقسام العمودي سواء كان طائفياً أو مذهبياً أو إثنياً، ليس ظاهرة عابرة من فعل إرادات خارجية، كما يحلو لبعضهم تصويره، بل هو ظاهرة جوّانية من صلب التاريخ العربي – الإسلامي، وإنّ صيغ العيش المشترك، التي تعبر عنها نظم التوافق الطوائفي والإثني، ليست كفيلة بمعالجة تلك الانقسامات، التي تجثم على صدورنا بفعل ثقل التاريخ، وإن التعايش المشترك، الذي هو في حقيقته تكاذب مشترك، ليس إلا استراحة موقتة في سياق محتــقن وقابــل للانفجار على الدوام.

لذا، فإن تلك الكلبية المذهبية، التي أفصحت عنها قيعان «مجتمعاتنا» والسلطات الحاكمة في كل من إيران وسورية والعراق، والفصائل والمــــيليشيات المذهبية بشقيها السني والشيعي، تستدعي، مرة أخرى، راهنية أحد مفاهيم ترسيمة ياسين الحافظ النظرية وهو: مفهوم الثورة القومية الديموقراطية العلمانية، والقومية، هنا، لا تعني رابطة سلبية إزاء الأمم الأخرى، بل تعني «الأّمّوية»: التي هي حركة تاريخية متجهة نحو دواخل «المجتمعات» العربية، بهدف رفع سديم بشري غير منسوج إلى مستوى شعب وأمة، هي سيرورة تهدف إلى تشكيل نسيج سوسيولوجي ينهي ويصفّي العلاقات المذهبية والطائفية والإثنية وصولاً إلى بناء الدولة / الأمة. وهذا فيما الديموقراطية والعلمانية هما حدّان وقطبان في عملية واحدة، الديموقراطية حدُّ على العلمانية كي لا تتحول إلى أوليغارشية نخبوية، والعلمانية حدُّ على الديـــموقراطية كي لا تتحول إلى شعبوية تلغي مفهوم الشعب، وتشكل منظومة الحداثة حاضنتهما معاً.

كما، تتمخض عن هذا السُعار المذهبي ثلاثة استنتاجات، يفترض أن تكون منطقية: الأول، لا يمكن معالجة الصدع السني – الشيعي بأدوات ومناهج من داخل التراث العربي الإسلامي، لأنه لم يفرز طيلة التاريخ أدوات ومناهج للتعامل مع التعدد والاختلاف. الاستنتاج الثاني: إن العلمانية الموصولة بالحداثة هي الإطار الوحيد الذي أنتجته البشرية، حتى إشعار آخر، للتعامل مع الاختلاف والتعدد الديني والأيديولوجي والقومي، بناء على هذه الواقعة، أضحت العلمانية إشكالية إسلامية – إسلامية، وفق جورج طرابيشي. والاستنتاج الثالث مفاده بأن تجارب التاريخ تشي بأن التدين والتعصب المذهبي يتقدم في ظل «الدولة» الدينية، فيما يتقهقر الإيمان في مضامينه الروحية والوجدانية والأخلاقية، وعلى العكس من ذلك، في الدول الوطنية ذات المضمون العلماني الديموقراطي، تتطور الأديان وفقاً لقوانينها الذاتية باتجاه تحقيق القيم الأخلاقية الكونية ونبذ التعصب بكل أشكاله. وبالتالي، من المهم أن يعمل جميع الفاعلين المرتبطين بالمستقبل على انتشال المسألة العلمانية من سياق سطحية وركاكة التداول الإعلامي حولها، الذي يحاول إلصاقها بالإلحاد تارة، وبالنظم التسلطية تارة ثانية، ويحاول تصويرها كمطلب أقلوي تارة ثالثة، ويبتكر مصطلحات مغلوطة كمصطلح التطرف العلماني في مقابل التطرف الديني تارة رابعة، ونقلها إلى ميدان بناء الأسس المعرفية والمقدمات النظرية لمشروع تشكيل ثنائية دولة وطنية / مجتمع مدني.

لم يعد الخيار الأمّوي الديموقراطي العلماني، الذي اجتهد في تحديد بعض معانيه الراحل ياسين الحافظ، ترفاً فكرياً، على رغم كونه تجديفاً صعباً ضد تيارات عاتية، بل هو خيار الحياة والمستقبل والتاريخ في مواجهة انحطاط أخلاقي وقيمي قبل أن يكون انحطاطاً سياسياً وثقافياً، جلبته إلى بلادنا نظم التسلط القومية وقوى الإسلام السياسي ودوله وأحزابه ومليشياته السنية والشيعية.

* كاتب سوري

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى