صفحات سوريةعمر قدور

حيث كان عيد الشهداء مجرد بروفة


عمر قدور

في النهاية التصق اللقب باسمه، وعرف باسم جمال باشا السفاح بعد أن أصدرت المحكمة التي شكّلها في عاليه حكمها بالإعدام شنقاً على العديد من المواطنين اللبنانيين والسوريين. كان عدد الذين أعدموا حوالي خمسين شخصاً بين عامي 1915 و1917، وكما هو معلوم اشتهر من بينهم أولئك الذين أُعدموا في السادس من أيار في ساحتي البرج في بيروت والمرجة في دمشق. كان جمال باشا يحاول الحفاظ على سلطة إمبراطوريته العثمانية الآخذة بالأفول، وكما في كل استبداد طغى همّ البقاء على القيم الإنسانية والأخلاقية، ولكن على الرغم من ذلك أقام “السفاح” محكمة، وإن تكن صورية، وأُتيحت للمحكومين تلاوة كلماتهم أو قصائدهم الأخيرة على منصة الإعدام؛ بالطبع هذه الشكليات لم تنقص من سمعته كسفاح.

لم يكونوا الشهداء الأوائل الذين سقطوا على أيدي العثمانيين أنفسهم، ولكنهم كانوا طليعة الأحرار بالمفهوم الحديث لكلمة الحرية، فكانوا أيضاً طليعة الشهداء بالمفهوم الوطني الحديث لكلمة الشهادة، وربما كانوا يأملون بأن يكونوا آخر من يُضطر إلى افتداء الحرية بهذا الثمن الباهظ. كان يا ما كان في سالف العصر والأزمان، كان هناك والٍ على بلاد الشام اسمه جمال باشا، ولشدة جوره وبطشه لُقّب بالسفاح، وقد بلغ به البأس أن أعدم واحداً وعشرين ثائراً في يوم واحد. ولم توجد آنذاك قبعات زرقاء لتراقب مجازره ولا قانون دولي إنساني يدعو إلى التدخل لحماية أولئك الذين دعوا الدول الغربية لمناصرتهم!.

حدث ذلك قبل أقل بقليل من قرن، وهي مدة كافية لينسى الكثيرون الأصل في عيد الشهداء. وفضلاً عن بُعد ذلك العهد، فإن ذاكرة السوريين واللبنانيين اكتظت بسير الشهداء. في الواقع راح العيد يفقد زخمه المعنوي بقدر ما تراكم عليه من شهداء، تضاءلت حصة الشهداء الأولين من العيد، بعد أن زاحمتهم كثرة الوافدين الجدد وطزاجة دمهم، وبعد أن طغت نسبة الذين قضوا على أيدي أبناء جلدتهم، فتاه نَسَبُ العيد بين أطراف متصارعة عليه. كل ذلك من دون أن نأخذ بالحسبان أولئك الذين جعلوا الشهادة تجارة سياسية رابحة، وسعوا إلى احتكارها ليتربعوا أسياداً فوق طهرانية الدم، أولئك الذين جعلوا من شهدائهم سوطاً على أفكارنا فحرمونا من الحزن اللائق وحرموهم من كرم التضحية.

كأن ما فعله جمال باشا كان مجرد تمرين بدائي على مسيرة طويلة من القتل. صحيح أن المشانق لم تُعلّق فيما بعد على هذا النحو في ساحتي البرج والمرجة، إلا أن تلك البداية تتواضع أمام ما أنجزه زعيم صغير لميليشيا صغيرة؛ زعيم لم ينل لقباً حتى، أقله في هذا الميدان. لقد كان جمال باشا يمثّل سلطة احتلال، وليس بالزعيم “الوطني” ليبني مجده على سحق خصومه السياسيين، وكلما أوغل في التنكيل والقتل ازداد إصراراً على اكتساب المزيد من الألقاب النبيلة، وتبارى أنصاره في ابتداعها كلما ازدادوا تصاغراً أمام بأسه.

ثمة افتراض نظري بأننا كلما مضينا قدماً في الزمن اكتسبنا تقديراً أكبر للذات الإنسانية، فالقرن الفائت شهد على المستوى العالمي تطورات فكرية متوالية فيما يتعلق بالحقوق الأساسية للفرد، تلتها تطورات قانونية لا تقل شأناً. على صعيد مواز لتلك التطورات شهد العالم ارتفاعاً كبيراً في عدد الحروب الخارجية والداخلية، وعرف تطوراً متسارعاً في الأدوات المستخدمة للقتل، بالإضافة إلى القدرة الرهيبة على القتل بلا رحمة، وتسويغ هذه الأفعال بشتى القيم النبيلة. ولعل المفارقة الأكبر هي أن الحروب الأهلية شهدت ضراوة أكبر من حيث توافر النية بالقتل، ووضعها موضع التنفيذ على نحو معمم، من دون أن يأخذ الضحايا حقهم من التقدير، إذ غالباً ما سعت الذاكرة إلى تناسي تلك الحقبة المؤلمة بتجاهل مآسيها ووفرة قتلاها.

لكن الأقل حظاً من الإعلام هم ضحايا الأنظمة الاستبدادية، فهؤلاء وقعوا ضحية حرب غير معلنة، حرب قامت بها الأنظمة على شعوبها بصمت رهيب مستخدمة أفظع أنواع الإرهاب الفكري والجسدي، حرب لم يكترث بها العالم إلا ببيانات قليلة خجولة تذكّر بحقوق أولئك الأفراد وتستجدي من الأنظمة القاتلة ذاتها رحمة لم يثبت وجودها يوماً. متسلحة بحقها بالسيادة، راحت الأنظمة المستبدة تنقل هذا المفهوم من السيادة على الأرض إلى السيادة على كل قاطن فيها، وإلى الوصاية المطلقة على كل فكرة تلوح في فضائها، وفي المحصلة إلى السيادة على حق الحياة برمته وحجبه تحت دعاوى الوطنية. لم تعد الأوطان تُفتدى بحرية، بل بات الناس يُساقون كقرابين مجهولة الهوية ومعدومة المصير.

في السادس من أيار عام 1916 كانت حصة ساحة المرجة في دمشق ثمانية شهداء، ووفق الرواية البعثية (وهي الرواية الرسمية المعتمدة حتى الآن) بطش جمال باشا السفاح بهؤلاء بظلم لا نظير له، وإذا مضينا بالزمن مع الرواية ذاتها سنرى الانتداب الفرنسي يرتكب الفظائع أيضاً، ويقصف مبنيين في دمشق أيضاً!. تصمت الرواية عند الوصول إلى عهد الوحدة بين سوريا ومصر، فلا تشوبها أية إشارة عن الذين قضوا في المعتقلات إبان الوحدة، وبالطبع لا يرد أي ذكر عن استخدام الأسيد لتذويب بعض الجثث. من يقرأ الرواية الرسمية لن يجد في ثنايا الاحتفال بثورة البعث أي إشارة إلى المحاكم الثورية التي شهدتْها تلك المرحلة، لا ذكر إطلاقاً لقتلى تلك المحاكم ولو بوصفهم أعداء خطرين للثورة؛ لكن تلك المحاكم أيضاً لا تعدو كونها تمارين بدائية على القتل.

إن كان ثمة حصيلة رسمية دقيقة للقتلى السوريين في مواجهة الاحتلال الإسرائيلي فهي ليست معممة على نطاق واسع، لكن من المؤكد أن عدد القتلى في كافة الحروب مع إسرائيل لا يناهز سوى نسبة بسيطة من قتلى مدينة حماة وحدها على أيدي قوات النظام قبل ثلاثة عقود، أما حجم الدمار الذي لحق بالمدينة فيدلنا عليه الآن ما عرضته الشاشات من دمار لحق بأحياء الإنشاءات وبابا عمرو في حمص على سبيل المثال لا الحصر. لم تُتح لضحايا ثمانينيات القرن الماضي حتى الآن نعمةُ أن يُعرف عددهم بدقة، إذ لم يُكشف حتى الآن عن مصير الآلاف من المعتقلين، والذين يُعتقد على نطاق واسع أنهم تعرضوا للتصفية المنهجية، فضلاً عن المجازر الكبرى المعروفة التي وقعت في المعتقلات. مرة أخرى بوسع الحاضر أن يدلنا على الماضي القريب، إذ تشير تقارير المنظمات الحقوقية إلى أنها تنشر فقط ما أمكن توثيقه من ضحايا الثورة السورية الآن، مع التنويه بوجود قتلى لم يتم التأكد منهم، وبوجود مفقودين ومعتقلين لا يُعرف مصيرهم، وبوجود قتلى لا يفصح أهاليهم عنهم خوفاً من الانتقام.

في العام الماضي، وعلى مقربة من ذكرى عيد الشهداء، سُلّمت جثة الطفل حمزة الخطيب إلى ذويه بعد قتله تحت التعذيب وبترعضوه التناسلي!. منذ ذلك التاريخ إلى الآن ارتفع عدد شهداء الثورة ليناهز الخمسة عشر ألف شهيد، وبالتأكيد من دون وجود حصيلة نهائية. في الواقع لقد أصبحنا على مسافة كبيرة من تلك التمرينات الأولى على القتل، ولم يعد من اعتبار للضحايا يمكّنهم من الحصول على محاكمة صورية، أو يحترم الحد الأدنى من حرمتهم كموتى.

لقد تسرع أسلافنا بإطلاق لقب “السفاح”، كان عليهم أن يتحسبوا لزمن قد تعوزنا فيه الأوصاف!

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى