صفحات مميزةعزيز تبسي

حين يستولي اللصوص بأسلحتهم على المجال العمومي


عزيز تبسي

        لكن ما هو الإنقلاب ؟

        عملية سطو مسلح على السلطة العمومية وتحويلها وفق إجراءات معدة ومحددة مسبقاً،قد ترتقي في لحظة ما إلى خطة عمل،تبدأ بمهام إجرائية يومية وتتوزع بعدها على خمس سنوات لتكتسب تسمية خطة خمسية ،وقتها تكون أزفت ساعة تحول تلك السلطة التي كانت عمومية إلى حيازة خاصة للانقلابيين وزبانيتهم،ويواكبها سعي غريزي في طريقه ليكون دائماً ومنهجياً لمحو الآثار التي ترشد إليهم وطمسها،وتعقب كلبي لكل مواقع الملامسة لإزالة كل ما يبقي أثراً لعملية السطو تلك ،لمحوه والتملص من نتائج فعلته وتقديم نتائجها التي تظهر أول ما تظهر على وجنات اللصوص وبطونهم، كمظاهر الغنى المفاجئ ووفاة الملوك تاركين عيونهم الجاحظة محدقة فيما تبقى على مائدة تقاسم المسروقات،مختنقين قبل الإنتهاء من تحقيق رهانهم الهرقلي بأكل السلطة بعد أن تراءت لهم ثوراً يشوى فوق نار من حطب البطم الرطب أثناء حفل توقيعهم على عقود تأجير القلاع المشيدة من العصور الوسطى إلى شركات السياحة لتحويلها إلى مواخير وصالات قمار للنخبة الإقليمية…. ، ويكلف محامين، وهم عن حق كما وصفهم يوماً الروائي الروسي فيودور دستويفسكي”ضمائر مؤجرة” لإعادة إنتاج سجل عدلي نظيف لا تشوبه دماء الجرائم ولا بصمات المجرمين ولا صورهم المأخوذة من الزوايا الثلاثة،ويكلف آخرين لإنتاج تاريخ خاص عن الوقائع ،بعد استبعاد حزمة من المفردات الرائجة في زمنها لوصف هذا التدخل في السياقات التاريخية:

        الإنقلاب /الحركة/التطهير/الوثبة/ وإعتماد الثورة كعبارة فاخرة لها رنينها النحاسي ووعودها المؤجلة،وبكونها قماشة لعباءة ملونة ومطرزة يتحجب تحتها عري هؤلاء اللصوص وإنحلالهم،وهي من العلامات التي تشير إلى ماسبقها من الزمن حيث يتكرس التراجع التاريخي والخواء المجتمعي،يظهرها مؤرخوهم في الكتب،التي إنتقلت أوراقها في زمن قياسي إلى لف صندويشات الفلافل والشاورما وأقماع الفستق ،كعلامة كوكبية فارقة، مثل عبور مهول لمذنب فلكي أو خسوف قمري أو كسوف شمسي، وهي ليست كغيرها من الأيام أو الليالي:ليلة السطو المسلح على السلطة العمومية و امتلاكها في آن.

        وسرقة الملكية العامة أو الخاصة عبر السطو المسلح،تجنب السارق أو تخفف عنه تدابير الوقوع تحت سلطة قانونية حازمة تأخذه للمساءلة والمحاسبة والعقاب،كما في حال الإستدانة من المصارف وتوقيع السندات،بخضوعه لشروط حقوقية تلزمه بإعادةالمال المستدان،أو السلطة التي تأتيه فيما تأتيه بالمال…..حينها لابد أن يلزم بكتابة سندات دين مستحقة أو مؤجلة إلى زمن معلوم،وحجز احتياطي على أملاكه ودخله الشهري،وإحضار كفلاء معروفي السيرة لإلزامهم بتسديد ما عجز عن تسديده،يضاف إليه القلق اليومي الناتج عن القرع المتواصل على باب المنزل والرنين الصاعق للهاتف من مجاميع الدائنين والمعاتبين،والمرشدين الدينيين والتربويين إلى الطرقات الأقل إلتواء ….

        اللصوص يتحررون من كل تلك الالتزامات،وبدعم من زبانيتهم،يعدون وينتقلون إلى هجوم معاكس،يتأسس على تزييف الوقائع:

        1)ما قاموا به ليس سرقة،بل عمل ثوري من أجل وضع حد لجماعات”ما” ستجري تسميتها وتغيير أسمائها حسب الطلب والضرورات التي تبيح فيما تبيح المحظورات……………………..

        2)إغلاق كل الأفواه التي تقول عكس ذلك،والتنكيل بها،بإنتاج سردية وصفية للواقعة وحمايتها،و تكون مخالفاً للحقيقة……….

        3)تخوين المسروقين،وهذا يشمل طيفاً واسعاً يبدأ من المسروقة أموالهم وحيواتهم وكرامتهم ولاينتهي بالمسروقة أحلامهم،بكونهم رجعيين ومصاصي دماء الشعب تارة وعملاء وأدوات للإستعمار…….تارة أخرى،وإن تصادف وجود يساريين بينهم فيكونون من المتحالفين مع الرجعيين،ويتكفل أعوان هؤلاء اللصوص من المتعيشين على صفقات الأيديولوجية السوفياتية بالبرهنة لهم سياسياً وهو مالا يمكن البرهنة عليه هندسياً عن اللقاء بين أقصى اليمين وأقصى اليسار.

        ويتفلت هؤلاء اللصوص عن عمد من الوقوع في صيغ ملزمة قد يضطرون يوماً لتطبيقها،لذلك يتجنبون صياغة وإبرام أي عقد إجتماعي-سياسي يتأسس على عنصري الرفض أو القبول أو التراضي،هرعوا لإنتاج”شعب إفتراضي”يسير خلفهم بطريقة “زفات العروس”في الشوارع العريضة والزواريب ومنها إلى الساحات العامة،والأسواق التجارية والملاعب الرياضية،والجبهات العسكرية التي يصنع ديكوراتها مهندسون مختصون،حاملاً قصاصات الأقمشة الملونة،يلهج بأسمائهم،ويرقص ويدبك حتى تلتصق ركبتيه بالإسفلت………………..

        وتكيفت معهم جماعات سياسية من مشارب تكاد تكون متنافرة،وحدية تجاه بعضها،ناتجة عن تبني لخيارات متباينة شكلاً تخفي تحتها الضمور الفكري والسفاهة السوقية،أسماها الشعب في سابقة لغوية تعريفية ب:الدكاكين السياسية،تمييزاً عن الدكاكين التي تبيع الخضار والأحذيةواللوازم المنزلية،يتلهى أصحابها بأولوية الوحدة على الإتحاد والحرب على السلم والصناعة على الزراعة والمياه على الكهرباء والصابون على الشامبو،ولا يحفز تفكير هؤلاء أي جديد معرفي أو مفارقة سياسية،قد تفاجئ معلميهم اللصوص للوقوع بها بداعي المؤامرة الحقيقية حيناً،وعدم التفهم الإستعماري لوظائفهم،التي باتت غير مجدية، في أوقات باتت تضخ هذه النظم الانقلابية قوافل من رجالها إلى صفوف فوائض العمالة المتسكعة في دوائر الاستخبارات الغربية والتي تتوسع بدورها لتشمل بعضاً من المعارضين من اللذين أفقدوا أي دور للشعب في عملية التغيير ،مما بات يرهق ضباط مخابراتها وهم يقرؤون إثنان وعشرون تقريراً متشابهاً من بلدان تنطق بالضاد يلوك واقعة نافلة واحدة،ويعقبها بعد أيام مئات التقارير عن الواقعة ذاتها ومن الدول ذاتها تأتي من المستجدين في العمل الإستخباراتي،حتى كادت المؤسسات اللغوية الغربية تلغي الفعل المبني للمجهول،لكونه فقد وظائفه التعبيرية واللغوية…..إلا من بقي يعول على مميزات المبني للمجهول في تلبيسه مالا يلبس،من جرائم ينفذها اللصوص وأعوانهم للتذكير بدورهم ولخلط أوراق اللعب وفق التعبير الأثير على المقامرين…………

        رغم ذلك يجترع هؤلاء اللصوص في لياليهم الماجنة مهمات تشكل في سياقها العام ضرب من التلهي،بعد أن فقدت مجموعة ألعاب الورق من الطرنيب والبوكر قدرتها على الإثارة والحماس،مجموعة عسكرية تعجز أو تترفع ربما،عن تصويب مسار حافلة تنقل الفلاحين إلى مزارعهم وقراهم أو الدراجة النارية ذات الدواليب الثلاثة التي تنقل أكياس الحنطة المسلوقة إلى مطحنة البرغل،وتتدخل فيما لا يمكن التدخل به:تصويب حركة التاريخ.

        في غرور طالما قض مضاجع المصارعين،وأصحاب العضلات المفتولة،حين تكون قوتهم البدنية وأسلحتهم النارية وسيلة إنتاجهم الوحيدة،وتوفير الشرط اللازم لتمكين هذا النمط من الاستمرار عبر تجريد الناس من وسائل مقاومتهم والسهر على تنفيذ ذلك،بإعتبار تلك الوسائل أدوات حصرية في أيدي سارقي السلطة العمومية،وتوفرها في أيادي غيرهم أو مجرد التفكير بها من علامات العصيان والتمرد:إحتكار العنف وأدواته ومواضيعه.

        اللعب مع الإستعمار-وعي حدود الكولونيالية

        وأول ما ينبغي معرفته وإتقانه عند لصوص السلطة العمومية هو معرفة حدود اللعب والملعب،ولا بأس التذكير من حين لآخر، أن هذه السلطة قامت “بفعلتها” على قصاصات خطاب وطني صاخب،مما يعني أن المسألة الوطنية هي عنصراً تكوينياً في جملتها السياسية………..وحدود الموقف من الخارج بين الحقيقي والمزيف هو أساس ما لشرعيتها.

        إذاً من موجبات الهذر الوطني وهذياناته إعتماد شتم الإستعمار قبل الوجبات الثلاثة وربما بعدها،مما لا يضر الاستعمار الذي بات صغار رجالاته ينفثون دخان النراجيل على مقاهي الأرصفة في عواصم ومدن تلك المستعمرات المتجددة التي ترتدي الأزياء المحلية وتنتعل أحذيتها،وبخبرته الواسعة بات يعرف أسباب وحدود هذه الشتائم بعد تصنيفها في نسق عوارض الأمراض التي تصيب العملاء المحليين في لحظات تبكيت الضمير الناتج عن التلاصق الإستخفافي بين التخطيط والتنفيذ للجرائم الوطنية القديمة،والتي باتت تشكل مصيراً تاريخياً لهذه الدول، وروائحها التي لا تزيلها العطور،وأصوات ضحاياها التي لا تحجبها كل الطبول والصنوج النحاسية التي تقرع في ساحات البلاد صباح مساء،وتم إعتبارها أمراض غير خبيثة،بل تبينت له أهميتها وضرورتها لإكساب شرعية لهؤلاء اللصوص الذين باتوا حكاماً لدول هو من صنعها لهم ورسم حدودها ورسم الخطوط العامة لسياساتها…………..

        معرفة أوراق اللعب تكون المدخل البدئي للمقامرة،المقامرة على أي شئ وفي أي وقت،ساعة أعلن هؤلاء اللصوص أن هذه الجغرافيا غير نهائية ولا تعبر عن طموحات الشعب،لم يخطر في ذهن الفلاحين وهم عموم السكان إلا بكون هذا الإعلان تعبيراً عن التبرم بهذه الحدود الضيقة وعن النية المرتجاة للعودة لتلك البلاد الواسعة،لكن ماحصل هو عكس ذلك،وإكتشف الرعاة دون عناء وهم يسوقون قطعانهم إلى أطراف مراعي البلاد،وفق تعبير أغنية السيدة فيروز، أن البلد يضيق ولا يتسع،وأن المراعي التي زاروها في الربيع الماضي،هي في هذا الربيع لدولة أخرى،وبدأت تجف الأنهار الصغرى،وتشح الأنهار الكبرى……………..

        و تهدد سلامة السكان والبيئة الحيوانية والنباتية بوأد نفايات لمواد إشعاعية،من التي تبقى حية لمئات السنين تفعل مفاعيلها وهي تحت التراب وتسجل خسارة سد مائي بلعبة بوكر،رهانها أن هذا السد سيصمد لعشرة سنوات فإنهار بعد عفو شمل ثلاث أرباع المدة وذلك قبل أن يخسر النهر الذي يمده بالماء، أما المقامرة الغريبة فكانت على أراض تاريخية،هي الآن تحت سيادة دولة أخرى،ومازال أصحابها يملكون سندات ملكيتها ويأملون العودة إليها مع سرايا التحرير ،ومقامرة غريبة شملت سرقة وبيع أماكن أثرية،ساهم فيها رجل دين قدم فتواه عنها بكونها من بقايا الوثنية البغيضة….

        الحرية بطعم نعل الحزب القائد

        مفهوم الكلب لا ينبح ولا يعض ولا يهز بذيله،من يقوم بكل ذاك أو بعضه هو الكلب،وإن مفهوم الإشتراكية لا يصنع العدالة في توزيع الثروة،وكذلك هو مفهوم الوحدة الذي لاينجز وحدة أو إتحاد..وعلى هذا يمكن القياس………عمل اللصوص وأعوانهم على نسق دعائي متكامل ساهم تدريجياً بخلط الأفكار الرئيسية التي لهج بها الشعب مع أفكار مستحدثة ومنتقاة،بما يشبه التبغ بطعم النعناع،والشاي بطعم الليمون والفريز………كان الغاية هي إضاعة الطعوم الأصلية……وفي سبر مفتعل للسكان على الهواء أبدى الكثيرون والكثيرات تفضيلهم للطعوم التي تحاكي أذواقهم من البرتقال والليمون والتفاح المعبأة بظروف بلاستيكية على أصولها الطبيعية وأظهروا أهمية الأخذ بهذا الإختراع وعبقريته لكونه يختصر الوقت الثمين الذي تفقده ربات البيوت من مشاهد المسلسلات المكسيكية والتركية،والموظفون من أوقات النوم في العمل…..إضافة أنه بات بإستطاعهم تناول هذه العصائر خارج مواسمهما،ومن نتائجها بزوغ جيل صحيح البنيان بتوفير اللصوص وأعوانهم للأمهات مايمنع هلوسات الوحام وآثاره على الجنين.

        لكن نسي في غمرة الإيجابيات أن الناس فقدت تذوق الطعوم الأصلية……وباتت تشكك بما أسماه اللصوص وأعوانهم يوماً ما الوحدة العربية،حتى خالها البعض مزحة تاريخية،وبدأت تظهر نتائج التناول المفرط لهذه العصائر أسئلة تشكيكية من مثل:هل ستعود الأراضي المحتلة من تلقاء نفسها كعودة الإبن الضال في قصص العهد الجديد،أم سيعيدها من أخذها بعد أن يتلو مطولات الأسف والإعتذار عن سنوات سرقتها،كل هذا وغيره صار عرضة للتضليل الذوقي،ما نجا من هذه المحنة هو الحرية.

        بقيت وحدها لتؤكد عن عدم تمامية “فعلة”اللصوص وفشل قدراتهم التضليلية،رغم كل الطعوم التي قدمتها لهم المختبرات الكيماوية من تغيير طعمها والعبث به،كان لها مذاق نادر لا يمكن العبث معه وتقليده،تحققت في تلك الوحدة الصافية التي تأخذ شكل خلوة،تخلق طمأنينة ممتعة،كفيلة بترميم التمزقات التي تظهر كخطوط حمراء متقاطعة بمخالب لاترحم،ليعلو بعدها الصوت قليلاً،أنا رجل ولست إمرأة،أنا من بني آدم ولست أرنباً،أمي التي حملت بي وأرضعتني وعلقتني على أرجوحة لأرى السماء والأرض توأمان ليست شرموطة،وأنت لست الله لأقبل يديك ساعة تمنحني رغيف خبز وحفنة سكر،ورجالك قذرون ساعة يبولون ويغسلوا أحذيتهم في طعامنا……….أنت ورجالك لاشيء…….

        ليس للمطارق قوة تفسيرية،ساعة تهوي على البلورات الصلبة لتحولها إلى رمل ناعم،إنها تعبير عن النزق والعجالة وفقدان الأمل،والإستسلام النهائي لليأس……….قوة السلطة تتأسس في واحدة من أركانها على توثيق العرى مع اليأس إلى حدود عقد نهائي معه.تتلطى خلف حصونه وتتعقب كيف تستنبت زهور الأمل وكيف تزوي وتموت مخنوقةً بأعشاب يأسها.

        حلب أيار2012.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى