إيلي عبدوصفحات الرأي

حين يعلن أدونيس نهاية الثورة المصرية/ إيلي عبدو

 

 

يكرر أدونيس مقولات القطيعة مع الموروث، وضرورة تجديد الفكر، مستثمراً، هذه المرة، مآزق أصابت ثورات الربيع العربي. وغرض التكرار يستوي مع حالة العجز التي تبدت، بوضوح، عند الشاعر الحداثي، منذ بداية التحركات المطالبة بالحرية والعدالة، إذ سعى إلى إعلاء البعد الثقافي، وتقديمه على ما هو سياسي واجتماعي وإنساني. والثقافي عند أدونيس يرمي، في ظاهره، إلى نفي الجذور والسياقات التي تسبق الثورات عادةً، وتشكل مقدماتها، لكنه يستبطن، في باطنه، موقفاً راديكالياً رافضاً أي تغيير قد يمس السلطة الثقافية التي يمثلها.

تتأسس سلطة الثقافة على فجوات تاريخية أصابت المجتمعات العربية، وتجعل منها ماهيات صلبة غير قابلة للتبدل، بفعل شروط تغييرية. وكي تبقى السطوة الأدونيسية، لابد للمجتمعات أن تظل متخلفة، فخروجها عن هذا السياق يعرّض السلطة المنظّرة للخطر. بهذا المعنى، تبرز علاقة بين جذور الثورات، أي استعداد مؤيدها لممارسة ما يطالبون به، وسلطة أدونيس الثقافية التي تستمد قيمتها، تحديداً، من نفي هذه الجذور، وتحويلها استحالات متراكمة، تتصل بالبنية والجوهر والثقافة والدين. تصبح العلاقة تبادلية ونفعية، بين فشل الربيع وبقاء سلطة أدونيس. وهذه لا تتبدى فقط عبر شبكة علاقات صاغها “نبي” الحداثة في الغرب، معززاً الأحكام الثابتة ضد المجتمعات العربية، بل أيضاً بالتراكم المعرفي الذي أسسه، فلم تكن النظريات الأدونيسة عن تخلف العرب وتراجعهم حضارياً سوى تثبيت للواقعة، وليس نقداً للخروج منها. واستدعى هذا التثبيت إلغاء البشر، بكل تنوعهم وحساسياتهم وطموحاتهم، والاكتفاء بالجانب الثقافي الفوقي الذي يمحو الفوارق والتناقضات، ويجعل المجتمع كتلة واحدة يستدرج فعل الاستبداد.

ومن نتائج هذه الفوقية الخلط بين الاستبداد السياسي، بوصفه أنظمةً وسجوناً وإمحاءً وقحاً للدساتير، والاستبداديْن الديني والاجتماعي. خلطٌ لا يرمي إلى بناء علاقة تشابكية جدلية، بقدر ما يسعى إلى تبرئة الأنظمة، وتحويلها مجرد نتيجة، فتصبح مجازر بشار الأسد وبراميله التي تحول أجساد السوريين أشلاء مجالاً لنقاش تجديد الفكر، وإعادة النظر بالموروث الديني. ويزول الأخلاقي وراء ما هو ثقافي مصطنع، يرمي إلى الحفاظ على سلطة تستمد وجودها من تكريس السائد ثابتاً جوهرياً.

قد يساعد ما سبق على تفسير الموقف الأدونيسي، المتحفظ على الثورات، والداعي إلى تحميلها بعداً ثقافياً يستحيل تأسيسه خلال لحظة الشرارة التي فرضتها انتفاضات الربيع العربي. تخفّى أدونيس وراء الاستحالة ليبرر موقفه، رامياً إلى الحفاظ على سلطته المتحالفة مع العجز، والهادفة إلى تكريسه. وتبدو استعادة الخبث الأدونيسي، بعد أربع سنوات على الثورات، أمراً لازماً، خصوصاً أن الرجل زار مصر، قبل أيام، ليكرر مواعظه المضجرة عن ضرورة تبني الحداثة والقطع مع الموروث. عاد إلى بلاد الكنانة، وقد أتم النظام العسكري القضاء على مكتسبات الثورة، معيداً المصريين إلى ما قبل 25 يناير.

كان ضرورياً أن يعلن فشل الثورة رجل ينطق باسم الحداثة، ويسوق تخلف المجتمعات وعدم قدرتها على تغيير شروط وجودها. بدا زمن الثورة المضادة لحظة مثالية، ليبرهن رائد قصيدة النثر صواب مقولاته عن الثورات، وحين تمنح المجتمعات “المتخلفة” بعض حرية تتجه إلى العنف والتطرف، بفعل الفقر الثقافي وانعدام السياقات التي ترسم عادة مسارات التحوّل الديمقراطي.

الثورة المضادة بالنسبة للرجل عودة إلى نظرياته التي تتجنب، عمداً، البحث عن مسببات الأوضاع التي أفرزت التحركات الشعبية، وما تلاها من مسارات متعثرة. وتكتفي بالعودة إلى براهين وأدلة، تحيل مجتمعات بأكملها إلى تصورات ثابتة، لا تحتمل فكرة الزمن، وتدرجاته التغييرية.

لن يجد الرئيس عبد الفتاح السيسي أفضل من أدونيس، ليتبادل معه الشرعية، بحيث يقدّم له عرش السلطة الثقافية المؤسس على أشلاء النظريات الماهوية والجوهرية، فيما أدونيس يقدم للجنرال الانقلابي عرش السلطة السياسية المؤسس على أشلاء المصريين. وما اختلاط الأشلاء بين الثقافي والبشري سوى حيلة أدونيسية، تتخفى وراء شعارات الحداثة والتغيير، لتبقى شريكة الاستبداد، تستفيد منه ويستفيد منها. وبين هذه وتلك، يسيل دم كثير، يعادله في الثقافة تكريس سلطة الجوهر التي تزدري ممكنات التاريخ، وتقفل على مفهوم المجتمع، داخل مقولات ثابتة، لتبقى وتستمر.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى