صفحات سوريةطلال المَيْهَني

حين يغدو التمرد ترسيخاً للمنظومة/ طلال المَيهَني

 

 

لفتني في تلك الساحة الأوروبية، حشد من الشابات والشبان مع لافتات كُتبَ عليها: «عناق مجاني» (free hug)، وذلك في إطار حملة عامة يقوم بها بعض الناشطين. والهدف من الحملة كما هو واضح من عنوانها تقديم «عناق مجاني» لمن يرغب من المارة.

الفكرة لطيفة وطريفة، حيث تأتي هذه الحملة السنوية، التي أطلقها الأسترالي جوان مان عام 2004، كمحاولة للرد على وحشية المنظومة الاستهلاكية القائمة، تلك المنظومة التي تغوّلَت ماديتها حتى طَغَت على العواطف البشرية، ما أدى إلى انتشار الأنانية، وتحوّل البشر إلى مجرد أرقام في حسابات السوق التي لا ترحم. لكن، هل تحقق هذه الحملة الأهداف المرجوة منها باعتبارها حركة تمرد واحتجاج ضد الرأسمالية الغربية؟

في الحقيقة يخلق عنوان الحملة – عناق مجاني – حالة من التمايز والمقارنة مع «العناق المأجور»، أي مع ذاك العناق المترافق مع التزام المعانق تجاه من يعانق: الحبيب تجاه الحبيبة (والعكس)، أفراد الأسرة تجاه بعضهم، والعاهرة تجاه الزبون… إلخ، إذ وفقاً لفلسفة المنظومة السائدة، فالعناق دائماً مأجور ذو ثمن، بالتالي فهو ليس استثناء من حسابات الربح والخسارة: فالأم تعانق طفلها لأنها تسعى في اللاوعي إلى الحصول على السعادة، وفلان يعانق فلاناً لأنه يود الالتزام بالأعراف الاجتماعية أو بالمظاهر المتعارف عليها للتعبير عن الفرح والمودة، والعاهرة تعانق الذكر المجهول للحصول على المال.

إلا أن القائمين على حملة «العناق المجاني»، وعلى خلاف كل ما سبق، يقدّمون فرصة للعناق من دون أي التزام عاطفي أو اجتماعي أو مادي! هنا يُفترض أن يغدو العناق رمزاً لإعادة الدفء إلى العلاقات الاجتماعية الهشة، من دون أية قيود أو اعتبارات قَبليّة أو بعدية. لكن ما يحدث هو أن هذا العناق، الذي يتطلب فقط التوافق الآني التالي – المرافق لرغبة في ممارسة «العناق المجاني»، يتحول إلى تعاقد عابر، وشراكة لحظية تأخذ قيمتها في – من لحظة العناق، وتفقد قيمتها في – من لحظة انتهائها، لتنفرط إلى ما كانت عليه قبل بدئها! وبين هاتين اللحظتين تبرز صورة تذكرنا تماماً، وفي شكل صادم، بحركة السوق التي تشكل محور المنظومة الرأسمالية! يلتقي العملاء، يتبادلون التحية، وقد يبتسمون ويطلقون النكات، ثم يتم توقيع العقود، ربما مع مصافحة وابتسامات أمام الكاميرات، ثم يغادر كلّ في سبيله. العملاء «كأفراد ذوي عواطف وانفعالات وأحلام وآلام» لا أهمية لهم، فكل ما يهم هو الصفقة! وبهذا تقع الحملة في فخ المنظومة، لتسير تماماً وفق قواعد السوق: تتم تعرية العناق من محتواه العاطفي، فيصبح مجرد فعل عابر في لحظة زمنية عابرة يلتقي خلالها المتعانقون كي يغادروا، من دون أن يترك العناق أثراً يتجاوز اللحظة!

هكذا نقف قبالة «تناقض متأصّل»، إذ تتحول الحملة إلى ترسيخ غير مباشر للمنظومة القائمة، عوضاً عن أن تكون ضد المنظومة القائمة وما خلّفته من آثار (توتر واكتئاب وأنانية وعلاقات اجتماعية باردة… إلخ).

قد لا يكون القائمون على هذه الحملات واعين لهذا «التناقض المتأصّل»، ربما لأنهم يعيشون ويفكرون ويطلقون حملاتهم من داخل المنظومة، وبناء على المناهج والقواعد الفاعلة داخلها. لكن تشكل هذا «التناقض المتأصل» لا يرتبط بالقائمين على فعل التمرد فقط، بل يرتبط أساساً بطبيعة المنظومة التي يتم التمرد عليها، بخاصة حين تستفحل تلك المنظومة وتتغوّل وتتجذر لدرجة تنعدم معها البدائل القادرة على اجتراح التغيير، ويغدو معها التمرد مُفَرَّغاً من محتواه، وهذه هي حال هذه الحملة الطريفة مع الرأسمالية الليبرالية الغربية.

في صورة مشابهة ومقارنة، ومع التسليم بالاختلاف الجذري في السياقات والظروف، يمكن القول أن هذه هي أيضاً حال «الربيع العربي» مع الأنظمة القائمة في منطقتنا. فقد غدا «الربيع العربي» مثالاً صارخاً للتمرد المجهض والعاجز عن إحداث التغيير الجذري، ليصب في نهاية المطاف في مصلحة الأنظمة القائمة. يضاف إلى ذلك خطر يكمن في تحول التمرد إلى حركة لإعادة إنتاج المنظومة القديمة، أو لتشكيل منظومة جديدة إلى جوار المنظومة القديمة («داعش» إلى جوار الأنظمة).

لا يمكن تفسير هذا الوضع المؤسف من دون الإشارة إلى الآثار العميقة والرضّية التي خلّفتها «الحداثة المبتورة» في البنية المجتمعية – الثقافية في منطقتنا. فقد خلق عصر السرعة عند الناس رد فعل جعلهم أكثر تعلّقاً برتابة العيش (ربما كمحاولة للهروب من إيقاع الحياة المتسارعة)، وأكثر اعتماداً على كينونات مجردة (كالدولة)، أو على مقاربة افتراضية تجاه العالم والإنسان (كـ «فايسبوك»)، كل ذلك على حساب إهمال الواقع الحقيقي المُعاش مادياً، وتهميش العلاقات الأهلية التي كانت تشكل حجر الأمان في المجتمعات التقليدية. وقد أدى كل هذا إلى الترويج لنمط جديد من الطوبى (المدينة الفاضلة): طوبى لا تؤمن بالتغيير، بل تقعد قانعة بالواقع القائم، على علّاته، توجُّساً من القادم، والتمسك بعدم التغيير خوفاً من التغيير، مع الاستمتاع المازوخي بحالة الركود.

وعملياً فقد عملت الأنظمة القائمة على تعزيز هذه الطوبى المستكينة والخاضعة، خصوصاً أن هذه الأنظمة لا تستمد قدرتها على البقاء من مشروعيتها أو قوتها الذاتية، بل من جمود الفضاء العام، ومن ملابسات الواقع المزري وتعقيداته الذي سيتشكل كنتيجة حتمية لأي محاولة للتمرد.

لهذا، لا بد من إعادة التفكير جذرياً في مفهوم التمرد وأساليبه، وتحريره من صورته النمطية التقليدية، وتحويله إلى تمرد قادر على التعامل مع المنظومة وتغييرها، بدلاً من السقوط في فخّ ترسيخ المنظومة وإعادة إنتاجها. ولعل السبيل إلى مثل هذا التمرد المنشود لا يمر عبر وصفات جاهزة، كما أنه لا يمر فقط عبر المسطرة والقلم، بل عبر تفاعل مجتمعيّ مؤلم ومكلف، يبتكر أساليبه الجديدة تدريجاً، ويتجاوز العقلية القديمة التي كانت واحدة من أهم أسباب نشوء المنظومة القائمة في الأصل. حينذاك فقط يمكن «الربيع العربي» أن يثمر، بدلاً من حالة «العناق المجاني» التي ترسخ المنظومة الاستبدادية القائمة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى