محمد تركي الربيعومراجعات كتب

حيوات عربية بعيون استشراقية: السير الذاتية في فترة ما قبل الحداثة/ محمد تركي الربيعو

 

 

 

حتى وقت قريب، لم تكن توجد سوى معالجتين حديثتين للسير الذاتية العربية ما قبل الحديثة في الدراسات الغربية: إحداهما بقلم جورج ميتش والأخرى بقلم فرانز روزنتال.

إذ حاول ميتش من خلال عمله «تاريخ السيرة الذاتية»، تتبع كتابة تصوير الذات من جذورها القديمة إلى فترة جان جاك روسو. واستناداً إلى هذا البحث وصل ميتش إلى قناعة بأن السيرة الذاتية «تنتمي في جوهرها، إلى التشكيلات المتأخرة لمراحل الثقافة العليا»، وبوصفها مظهراً مهماً للتطور في النفس «الغربية». ورغم تسليمه بوجود عدد كبير من السير الذاتية في تاريخ العالم الإسلامي»قياساً بحالة السير الذاتية الشكلية في الزمن المقابل لها من العصور الوسطى المسيحية». إلا أنه خلص الى أن السير المدرسية العربية تتسم، شأنها شأن البيزنطية، بمرحلة من الشعور بالذات وصل فيها التطور، إلى سكون.

في المقابل عمل روزنتال في إطار مقولات وتصنيفات مشابهة جداً للتصنيفات التي استعملها ميتش، واضعاً السيرة الذاتية لروسو بوصفها النموذج الذي لم يتحقق في التاريخ العربي. وقد عاب على أسامة بن منقذ (ت 1188)، وهو شاعر من أعيان السوريين وفارس من فرسان الحروب الصليبية، إخفاقه في امتلاك معرفة «بالمعنى التاريخي- العالمي» للأحداث التي كتبها في سيرته الذاتية، رغم أنها تعد واحدة من أشهر السير العربية المعروفة في الغرب من القرون، التي كتبها وهو في التسعين من العمر، وشملت أحداثاً من مغامراته في الحروب الصليبية، مع حديث عن بعض العادات الاجتماعية والقانونية والجنسية عند الأوروبيين، كما رآها في المدن الصليبية.

هذا النقد، أدى إلى أن تبدو السير الذاتية العربية بوصفها لم تكن سوى «نصوص فقيرة». ووفقا لكتاب «ترجمة النفس: السير الذاتية في الأدب العربي» الذي كتبه تسعة باحثين في جامعات غربية مختلفة، وحرره دوايت راينولدز أستاذ الأدب العربي في جامعة كاليفورنيا، فإنه إضافة إلى الرؤية السابقة، تشكلت افتراضات أخرى صرفت الاهتمام بتقاليد كتابة السير الذاتية في التاريخ العربي. منها ما يتعلق بالافتراض الذي يرى أن السير الذاتية بقيت نادرةً إلى حد كبير في الأدب العربي، وهي فرضية تأثر بها حتى أهم النقاد للمركزية الثقافية الغربية، كما في حالة إدوارد سعيد، الذي أشار في كتابه «البدايات» إلى أن «السير الذاتية كنوع، نادراً ما توجد في الأدب العربي، وإذا وجدت، فان النتيجة خاصة بالكامل». في المقابل هناك من وجد ـ في ظل ولعه بالروايات الغربية – أن هذه السير، حتى لو وجدت، لا تعبر عن الأسلوب الغربي في سرد الذات، بل هي أقرب إلى نمط «الروايات الفاشلة». ولذلك نجد مثلاً أن كتاب «الأيام» لطه حسين، غالباً ما نظر إليه بوصفه رواية، رغم ما يحتوي عليه الكتاب من أسلوب مفعم بالحيوية والسخرية، وهو أسلوب عادةً ما عرفت به السير الذاتية الغربية.

ألف عام من السيرة الذاتية العربية: نظرة بديلة

غالبا ما يستقي الخط الفكري الرافض لوجود سيرة ذاتية عربية في فترة ما قبل الحداثة، حجته من تعريف غربي للسيرة الذاتية بوصفها تلك السيرة التي يجب أن تكشف عن ذات داخلية تختلف، بل حتى تخالف، الذات العامة الخارجية. هنا يرى المشاركون في الكتاب السابق «ترجمة النفس» أن هذا الموقف يبقى موقفاً غير دقيق، وأن البت فيه لا يمكن أن يتم قبل إجراء دراسة مقارنة مع التقاليد غير الغربية في التعبير عن الذات وتجربتها.

وبالعودة الى التجربة العربية الإسلامية، نجد أن السيرة قد شكلت أقدم أشكال كتابة قصة الحياة الكاملة، ويعود تاريخها إلى القرن الهجري الثاني (الثامن الميلادي) مع أعمال ابن إسحاق (767) وابن هشام حول سيرة النبي، لكن هذا الشكل سرعان ما أصبح يفيد كوسيلة لرواية حياة مشاهير آخرين، مثل «السيرة» التي كتبها ابن شداد عن صلاح الدين الأيوبي، وسيرة بدر الدين العيني للسلطان المملوكي المؤيد: «السيف المهند في سيرة الملك المؤيد»، وغيرها الكثير. وهكذا أصبحت «السيرة» عملا ًمستقلاً يكرس لحياة فرد، ورغم قلة عدد هذه السير قياساً بمئات الآلاف من أخبار التراجم القصيرة التي وصلتنا، فإنها ما زالت تشكل متناً أدبياً كبير الحجم.

من ناحية أخرى، يشير الكتاب الجماعي إلى أنه حتى لو افترضنا جدلاً أن مفاهيم مثل «الخاص» و«الشخصي» و«الذات الداخلية» هي أهم ما تتسم به السير الذاتية الغربية، فإنه من الملاحظ هنا هو أن العديد من النصوص العربية التراثية كثيراً ما تتضمن هذه المعايير من التعبير عن بواطن الشخص. وكمثال عن هذه النصوص، يمكن الإشارة الى السيرة الذاتية لابن بلقين (ت 1094).

فقد كان الأمير عبد الله في القرن الحادي عشر آخر أفراد ملوك بني زيري البربرية في غرناطة. لكن بعد أن خلعه المرابطون الذين غزوا الأندلس عام 1090، أرسل إلى المنفى في المغرب. وهناك كتب ابن بلقين سيرته الذاتية وضمنها في اثني عشر فصلاً، حيث انشغل في الفصول الأربعة الأولى بتاريخ عائلته، وبالدفاع عن حكمها. بينما اهتم في الفصول الباقية بالحديث عن حياته الخاصة وحكمه. ويعد الفصل الأخير الأكثر حميميةً وتقييماً لكل الظروف التي عاشها في حياته، بداية من تولي أمور الحكم إلى العيش في المنفى.

عند مناقشته لتجاربه في الحياة والثروة والسلطة والسعادة، يصور ابن بلقين نفسه تصويراً مشوقاً ومؤلماً في الوقت ذاته، كونه امتلك في يوم من الأيام كل شيء، ثم جاءت الأحداث السياسية ليغدو أسيراً بعيداً عن وطنه «وأجدني في كثرة المال، بعد تملكي عليه مع ذهابه، أزهد مني فيه قبل اكتسابه، مع شفوف الحال، إذ ذاك على ما هي عليه الآن. وكذلك شأني كله في كل ما أدركته قبل من الأمر والنهي، واكتساب الذخائر، والتأنق في المطاعم والملابس والمراكب والمباني، وما شاكل من الأحوال الرفيعة التي نشأنا عليها، حتى أنه لم يبق من ذلك ما تتمناه النفس، وما لا تظنه، إلا وقد بلغنا منه الغاية؛ وتجاوزنا فيه النهاية، ولم يكن عند الحصول عليه ينقطع ويذهب وشيكاً، فتطول عليه الحسرة، ويعد من جملة الأحلام، بل تمادى برهة من عشرين عاماً، وما كان قبله يكاد أن يوازيه، إذ ربينا في حجره».

ولا يعد نص ابن بلقين مثالاً استثنائياً عن هذا النوع من الكتابة الكاشفة عن خبايا الذات، حيث نجد أن الكثير من الكتاب كان يروون ما لاحقوه في حياتهم من محن وبلايا، لا بل ويقيمونها أيضاً، إذ نجد ابن حجر العسقلاني في سيرته التي كتبها باستخدام ضمير الغائب، وأدرجها في مؤلفه عن سير القضاة في مصر: «رفع الأصر عن قضاة مصر»، يضع نفسه منذ البداية في موقف المتواضع في ما يتعلق بإنجازاته على مستوى جمع الحديث: فهو لم يدخل «الكتّاب» إلا في عمر الخامسة، ولم ينه حفظ القرآن حتى سن التاسعة، ولم يصل صلاة التراويح حتى سن الثانية عشرة. كما أنه يروي لنا إخفاقه مع الشيخ النشاوري ثم مع الشيخ السلاوي، لأسباب واهية؛ هنا نعثر كثيراً على أحداث شبيهة من سيرة أينشتاين الذي فشل في تعلم الرياضيات مراراً في المدرسة. في حين نجد أن الترمذي يبدأ سيرته الذاتية بالحديث عن والده الذي كان يدفعه دفعاً على يد أبيه إلى الدراسة حتى اكتسب في النهاية هذه العادة وترك عادات الصبا وألعابه. كما يشير إلى أن عمره كان سبعة وعشرين عاماً حين أفلح أخيراً في حفظ القرآن بعد «تجربة تحول» في أثناء عودته من الحج. وهذا البدء المتأخر في الحياة الدينية هو الشيء الأبرز، لأن بؤرة سيرة الترمذي الذاتية تكمن في البرهنة على مكانته كمرجعية روحية.

من ناحية أخرى، نجد أنه في العالم الغربي لما بعد فرويد باتت الممارسات الجنسية تشكل جزءاً أساسياً من الذات الخاصة والهوية الشخصية، وصار ينظر إليها بوصفها نافذة على اللاشعور، وأحد أهم أساليب السيرة الذاتية. وهنا يلاحظ المشاركون في كتاب «ترجمة النفس» إن آداب المائدة والاستحمام والتغوط قد شكلت المرادف للممارسات الجنسية في السير الذاتية العربية ما قبل الحديثة.

حيث يروي لنا الصوفي أبو الحسن اليوسي (القرن السابع عشر) في سيرته الذاتية «الفهرسة» التي لم يبق منها سوى المقدمة والقسم الأول، وما زالا غير منشورين. إنه كان يستحي أن يطلب الأذن لقضاء الحاجة وهو في المدرسة، ما يتطلب منه أن يريح نفسه بالقرب من الآخرين، وكثيرا ًما كان يفضل البقاء خارج المدرسة على مواجهة الارتباك. ولإخفاء هذه الحيلة، كان ينتظر في الطريق رفاقه أو ينضم إليهم حين يعودون الى البيت، مدعياً أنه قضى النهار بطوله معهم.

كما تعود ابن عجيبة (القرن التاسع عشر) وهو عالم صوفي، أن يصحو في الصغر وهو مبلل الثياب، فكان يضطر إلى الاغتسال قبل الصلاة، فاحتالت عليه أمه بإقناعه أن يستنجي بحجر، ولم يكتشف الحقيقة حتى وقت متأخر من حياته.

هنا نلاحظ من خلال روايتي اليوسي وابن عجيبة، أن السيرة الذاتية هي التي ترسخ نفسها في النص، إذ إن كلا الروايتين قد بنيتا على معلومات جريئة حول الحياة الخاصة، وهو ما دعم من قيمة البعد الفردي لها. ورغم أن هذه النصوص لم تكتب بالشكل الأدبي الذي كتبت فيه السير الذاتية الأوروبية، إلا أن البعد الشخصي الثاوي بداخلها لا يمكن أن يفسر على أنه تعبير عن تراجم شخصية وحسب، بل عن مشاريع سير ذاتية عربية وجدت قبل الاحتكاك بالسيرة الذاتية الأوروبية الحديثة.

كاتب سوري

القدس العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى