صفحات الثقافة

حيّة تحرس زوجَي حجل/ أمجد ناصر

 

 

مشهد في المرآة

هو ذا يجلسُ أمامي. يرتدي مثلي قميصاً أزرقَ فاتحاً، بزرّيْنِ مفكوكَين من الأعلى، له شَعر صدرٍ أسود، ملامح وجهه لا تشكِّل جملةً مفيدةً، يستندُ مرفقه الأيسر إلى كتابٍ أمامه، وجذعه يميل الى الأمام قليلاً.. جاءت نادلةٌ ومعها صينيةٌ عليها فنجانُ قهوةٍ وكاسةُ ماءٍ ووضعتها أمامه. قال لها شكراً باللغة المحلّية، فهزَّت رأسها. رفع مرفقه عن الكتاب الذي لم يفتحه. كان على غلافه لوحة الصرخة. احتضنَ كاسةَ الماءِ البارد، كما يبدو من تضبّب زجاجِها، بين يديه الاثنتين الحارّتين، كما يبدو من البخار الطفيف الذي تصاعدَ من زجاجِ كاسةِ الماء المضبّبة، وضعَ كاسةَ الماءِ مرّةً على خدِّه الأيمن ومرّةً على خدِّه الأيسر، ثم شربَها.. كركرَ الماءُ وهو ينزلُ في بلعومه، ارتشفَ قهوته الاسبرسو دفعةً واحدةً رغم قوّتها التي بدت من ملامح وجهه المتقلّصة. تطلَّع إلى ساعته، بدا أن الوقتَ قد أزفَ (لأيِّ شيء؟) تحسَّس شيئاً ثقيلاً، على ما يبدو، في جانبه الأيسر.

الأثرُ الوحيدُ الذي تركه على الطاولة كتابٌ بلغةٍ لا يحسنُ المحلّيون قراءتها، سيأتون بمترجمٍ مُحلَّفٍ بالطبع، ولكنهم لن يجدوا في الكتاب ما يعينُ على ربط النتائج بالعلل. أما البصماتُ التي رفعوها عن غلافه فكانت لمَن رآه المارَّة، في الساعة الحادية عشرة والنصف صباحاً، يسقطُ، ببطءِ، في شارعٍ رئيسي مُضَرَّجاً بدمه.

 

فتاة في مقهى… مرّة ثانية

أنا الآنَ في مرابعي القديمة. خرجتُ منها بدفعةٍ قويةٍ من يدِ قدرٍ ما، ثم عدتُ إليها، متسلِّلاً، من الباب الخلفي، لسببٍ أجهله. لعلّه ذلك المرض الذي يُسمَّى الحنين، ويشتدُّ بمرور الوقت، وربما تفاؤلاً بهذا المقهى الذي كتبتُ فيه قصيدةً عن فتاةٍ ذات نهدَين قاسيَين نفضت سترتها الجلديةَ العنّابيةَ فتطايرت في الجوّ حباتُ لؤلؤ. مرَّ وقتٌ طويلٌ على آخر مرّةٍ عبرتُ فيها السوقَ المضاءةَ بأقوى اللمبات لرؤية الأيدي الخفيفة تتحرّك شمالاً ويميناً. كنتُ أدخِّنُ بشراهة مراهقٍ يظنّ السيجارةَ ضرعاً. ولم تكن المقاهي مقاهي من دون سجائر يُستعانُ بها على كلِّ شيءٍ: التوتّرُ، الغضبُ، الحبُّ، الكذبُ، المزاج، إلخ. لعجبي وجدتُ الفتاةَ التي ظننتُ يومها أنَّ سُتْرَتَها العنابية من الجلد الصناعي. إنها ترتدي، هذه المرّة، سترةً من الجينز ناصل اللون. شَعرُها ملفوفٌ على هيئة حيّةٍ فوق رأسها. جلستْ إلى الطاولة التي تواجهُهني، كما فعلتْ في المرّة الماضية. نضتْ عنها سترةَ الجينز فبرز نهداها القاسيان وارتجّا خلف بلوزتِها. فكَّت أفعى شَعرِها فتمدّدت على كتفها وانحدرتْ الى منبت نهدها تحرسُ زَوْجَي حَجَل. كنتُ أمامها مباشرةً ولكنها لم تنظر إليَّ كما فعلتْ في المرّة الماضية، فلم أكن أنا أنا.

 

درس التفّاحة

وضعتْ زوجتُكَ يوماً تفّاحةً في حقيبتكَ (صليبك اليومي إلى جلجلة الوظيفة على حدِّ قول صديقٍ غادر). جعتَ فأكلتَ التفّاحةَ، لكنَّ رائحتَها ظلَّت تهبُّ عليك بالإغواءِ الأوّلِ، الذي قيلَ إنَّه تراقَصَ لأُمِّنا حوّاءَ وأنزلها إلى الأرض، كلَّما فتحتَ الحقيبة. حَدَثَ ذلك منذ وقتٍ طويل. تبدَّدت القوّة التي جعلتْ رائحةَ التفّاحةَ تبقى بعد أكْلِها. هذا كلامٌ عن الذاكرة بالطبع، ولكن طالما بقيتْ القوّةُ التي تجعلُها تعمل، وهذه، بدورها، توريةٌ عن زوالٍ لا يشبهُ الغفلة أو النسيان.

 

تحليق منخفض

في المقهى الذي اعتدتَ ارتيادَه لتشربَ قهوتَكَ السوداءَ وتستعيدَ أوصالكَ المبعثرةَ في صباحات الأحد المتلكّئةِ كالأماني، سمعتَ شخصاً يكلّمُ بهاتفه المحمول، كما يبدو، امرأةً على الطرف الآخر من الخطّ ، فلم تعرف، فعلاً، إن كان يكلّم امرأةً، أو يُمثِّل أنَّه يتكلّمُ، فمكلّمو أنفسِهم، هنا، لا يثيرون انتباهاً ولا يتوقّفُ أحدٌ عند منولوغاتهم الطويلة، لكن لغته التي لا يسمعُها المرءُ كثيراً في مدينةٍ ترطن، مع ذلك، بمئة لسانٍ هي التي كسرت قاعدةً مرعيةً تقول: ما تسمعُه هنا اترُكُه هنا، هكذا سمعته يقولُ إنَّه يجلسُ، الآنَ، في المقهى الذي اعتادَ ارتيادَه في صباحات الأحدِ المتلكّئة كالأماني ثم سمعتَه يقولُ إنَّه لا يفعل شيئاً سوى احتساء قهوته السوداءَ واستجماعِ أوصالِه المبعثرة، ثم سمعتَه يقول إنَّه لاذَ بالصمت لأن تلك الكلمةَ أخذته على حين غرَّةٍ فهو توقّع، بالطبع، شيئاً قريباً منها، ولكن ليس تلك الكلمة التي لا تُقالُ إلاّ عندما تبلغُ القلوبُ الحناجر، ثم طرأت انعطافةٌ حادّة في الكلام أحسستَ برَجَّتها في حجابك الحاجزِ حين قال إنَّه مشتاقٌ، والله مشتاقٌ، ثم استدرك، بتغيّرٍ ملحوظٍ في نبرته، إلى صوتِكِ طبعاً، متذكّراً صديقاً له فلسفةٌ خاصةٌ في أنطولوجية الأصوات سيشرحُها ربما في ما بعد، ثم قال إن صوتَها ساحرٌ، لا ليس ساخراً، ساحرٌ، منوِّناً الراءَ كضربة صنجٍ. بحَّةٌ؟ نعم فيه بَحَّةٌ مغويةٌ، وهذا أدعى إلى الحذر لأنّ للمذيعات المتواريات وراء الراديو في برامج منتصفِ الليلِ تلك البحَّة أيضاً، ثم لاحظتَ أنَّ فتراتِ صمتِ الرجلِ على هاتفٍ يُصبُّ فيه بوحٌ مُتردِّدٌ من جهتين صارت تطولُ، وجسَدَه راحَ يرتفعُ عن الكرسي ويحلِّق في الهواء الفاتر.

 

عدم اهتمام

تظنُ أن الذين تمرُّ بهم كوعلٍ مذعورٍ في لقطةٍ بطيئةٍ لا يرونك، فالبقّالُ يواصلُ رفعَ الأوراقِ النقدية إلى عينيه الضيقتين ليتأكّد من سريان المادةِ التي تحفظُها من الفساد، ومصفِّفةُ الشَعر التي كانت فتاةَ غلافِ مجلّةٍ محلّيةٍ في السبعينيات تنحني على رؤوس مُسِنَّاتٍ مستسّلماتٍ لمقصِّها الغضوب، والمشرّدُ الذي يهرولُ بين محل الرهانات وناصية الشارعِ لا يتذكّرُ أنك نفتَحه شيئاً في الذهاب فيطالبُك بحصته التي قرَّرها، من جانبٍ واحدٍ، في جيبك المثقوب في الإياب، انسَ، طبعاً، النادلةَ الحسناءَ التي تطلبُ منها يومياً نفسَ كوبِ القهوةِ السوداء بقطعتين من السُكَّر، ولكن جرِّبَ أن تخرجَ عن هذا المدارِ قليلاً لترى كم كنت قريباً من أنفاسٍ باردةٍ تركتْ نُدباً على جسدٍ تنساه، أحياناً، في آخر قطارٍ يشقُّ الليل.

 

بالصدفة أيضاً

حتى لو قلتَ إنها الصدفةُ بطلةُ حياتِكَ، وهي التي أوصلتك بكامل أعضائك تقريباً إلى مدينةٍ سبقك إليها كثيرون، فقد اصطدتها باسمكِ المستعار الذي لم يُثر خلوُّه من فصيلة الدم انتباه أحدٍ، أو بالحِيَل التي تعلّمتها باكراً في دساكر القيظ والغبار. مذ أدركتْ أمُّكَ أنَّ كتفاً مائلةً لن تلوحَ لنجمة السعد وهي توزعُ الألقابَ والحظوظَ، لذلك شببتَ مائلاً، لا لعوجٍ طبيعي في عمودكَ الفقريِّ وإنما لأنك سمعتَ ضريراً يقول ذات يوم لصبي أرعنَ إن معتدلي القامة لا يرونَ أبعدَ من أنوفهم، فالأغصانُ والنيازكُ والدموعُ تسقطُ، دائماُ، الى الأسفل، وممّا التقطتَ على طرق الإغاثة والبريد صنعتَ درعاً واقيةً كلّما أخذتك سِنَةٌ من النومِ صدَّت عنك سهاماً وجدتَ نفسك خطأً في مرماها.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى