صفحات الناس

خارجون من غوطة دمشق يعيدون اكتشاف الحياة فوق الأرض/ رامز أنطاكي

 

 

ها قد انتهى حصار الغوطة الذي طال لسنوات أو كاد، فبعد تكثيف حملة النظام وحلفائه على الغوطة خلال أسابيع من شباط (فبراير) وآذار (مارس) المنصرمين، تكلف أبناء الغوطة ما يزيد على ألف ضحية ورقم هائل من الجرحى الذين مات جزء منهم نتيجة ضعف الخدمات الطبية وبسبب استهداف المستشفيات والمرافق الطبية من قبل طيران النظام والطيران الروسي كما واستحالة إسعاف الجرحى.

وتوصل القطاع الأوسط من الغوطة والمناطق الخاضعة لسيطرة فيلق الرحمن إلى اتفاق يقضي برحيل المقاتلين وعائلاتهم ومن يشاء إلى شمال سورية بينما يبقى من يريد و «تسوى أوضاعهم» بحسب التعبير الذي دأب النظام على استعماله في حالات مشابهة.

وعلى رغم توقف القصف والخروج من الملاجئ والأقبية بعد أسابيع طويلة وشديدة القساوة، كانت لحظات الهدوء واتخاذ قرار البقاء من الرحيل لحظات صعبة تبعتها أخرى أشد صعوبة بعد اتخاذ قرار أن البقاء تحت سيطرة النظام هو تصرف غير حكيم، «فهذا النظام لا يؤمن جانبه». وأثبتت التجربة ذلك إذ بينما لا يزال إجلاء من يرغب إلى الشمال، قام مخبرون للنظام من سكان الغوطة بدلّ الجيش والأمن على بعض الناشطين الإغاثيين والإعلاميين والطبيين في المناطق التي سيطر عليها جيش النظام أخيراً، فأخفي بعضهم قسرياً وبقي مصيره مجهولاً حتى الآن، بينما تم إعدام بعضهم الآخر ميدانياً من دون أي محاكمة.

ترك الراحلون وراءهم الكثير الكثير، فغير الأغراض الشخصية والذكريات ومنازل العائلات، ترك الناشطون والعاملون في المنظمات الإغاثية والتعليمية والطبية معدات كثيرة خلفهم، وبحسب شهادات أحدهم بالإضافة إلى ما بثه التلفزيون السوري الرسمي مباشرة من داخل الغوطة، يتضح أن أغلب هؤلاء فضلوا أن يتركوا المعدات التي كانوا يستخدمونها سليمة من دون إتلاف على اعتبار أن أحداً يمكن أن يستفيد منها، «فالوسائل التعليمية هي لكل الأطفال أينما كانوا» وكذا أمر المعدات الطبية بالنسبة للمرضى والجرحى.

وسائل إعلام النظام لم توفر جهداً في خدمة بروباغندا مشغلها والحديث عن إرهابيين وبيئات حاضنة على وقع أغاني الاحتفال في أحياء دمشق بـ «تحرير» الغوطة، فحتى المستشفيات الميدانية التي كانت تستقبل المصابين جراء قصف النظام أمست في التغطيات الإعلامية المؤيدة تهمة يكيلها مذيع البث المباشر محرضاً جمهور المؤيدين: «انظروا! مستشفى ميداني مجهز ومرتب لعلاج الإرهابيين» بينما تُظهر المشاهد المصورة غرفة ولادة إلى جوار غرفة عمليات، وبعد كلام تشويقي عن مستودعات أدوية المسلحين، تصل كاميرا التلفزيون السوري رفقة المراسل لترصد بضع صناديق من أدوية إسعافات أولية!

الحافلات التي أقلت الخارجين من الغوطة ضمت مسلحي فيلق الرحمن ومدنيين، وقد تناقل ناشطون متعددون أن عناصر من الفيلق استخدمت أسلحتها وأطلقت النار موقعة إصابات لتبعد الناس عن الحافلات المخصصة بهدف تأمين أماكن للمسلحين وعائلاتهم بالدرجة الأولى «فبعد أن تحمل أهل الغوطة رعونتهم، ها هم يواصلون السلوك نفسه أثناء مغادرتهم».

انطلق المهجرون في قوافل من عشرات الحافلات، وسلكت طريق الساحل السوري بدل أوتوستراد دمشق حمص حماة إدلب، فالأوتوستراد خطر شمال حمص حيث مناطق سيطرة المعارضة في ريف حمص الشمالي، لكن البدائل الالتفافية متوافرة، ويرجح أحد المتابعين أن الرحلة الإلزامية التي فرضها النظام عبر الساحل والتي تستغرق أكثر من 20 ساعة هي مقصودة لإذلال سكان الغوطة ومقاتليها.

شهادة مديرة مؤسسة تعليمية وإغاثية من الغوطة أفادت بأن بعض سكان المناطق الساحلية برفقة «الشبيحة» قاموا في شكلٍ جماعي بقذف حافلتهم بالحجارة وبشتم الركاب بأقذع الشتائم والبصاق عليهم، مما أسفر عن إصابات طفيفة بين الركاب رافقت خوفهم الشديد، وتتابع المديرة: «الحمد لله أننا استطعنا لجم المسلحين الذين معنا ومنعهم من إطلاق النار في الهواء وإلا لكانت مجزرة نحن ضحاياها».

ناشط إعلامي من ركاب حافلة أخرى أفاد بأن حافلتهم تعرضت للممارسات نفسها التي رأى أنها تؤكد صواب خيارهم بعدم البقاء في الغوطة تحت سيطرة النظام، ورأى في ما جرى تعميقاً للشرخ بين المعارضين والمؤيدين وأيضاً بين السنة والعلويين.

شهادات أغلب من وصلوا الشمال السوري تفيد باستقبال جيد تلقوه هناك «على قدر الإمكانات المتوافرة»، ففي حين استقبلت بعضهم قذائف الطيران السوري والروسي «التي لحقت بهم إلى هناك» استطاع بعضهم الآخر أن يجد مسكناً ليلتقط أنفاسه ويستوعب ما يدور حوله، والمكان الجديد الذي وصل إليه ليقرر خطواته التالية.

خبرات إنسانية مؤثرة ومؤلمة بدأت هناك، فأطفال بلغوا العاشرة أو أكثر لم يعوا في حياتهم إلا الحصار والقصف اليومي، يقومون اليوم تحت إشراف أهلهم بإعادة اكتشاف العالم من حولهم، عالم سمعوا به وربما رأوه عبر الإنترنت إلا أنهم وصلوه اليوم للمرة الأولى: أمان نسبي، وفرة في الطعام والشراب، حرية حركة وتنقل… منهم من يشاهد الموز ويتذوقه للمرة الأولى، طفلة التاسعة لم تعرف الفراولة حين رأتها، وطفلة أخرى اقتادتها والدتها لتبتاع لها دمية جديدة بدل تلك التي بقيت في منزل العائلة المهجور في الغوطة.

مشاعر متضاربة يعيشها هؤلاء الذين عانوا لسنوات ثم تم تهجيرهم قسرياً، بينما يبقى أهل دوما في الغوطة أسرى التفاوض المتعثر بين جيش الإسلام والروس ترافقهم دعوات وصلوات من انتهى من جحيم الأسد ولم ترحمه ممارسات ميليشيات المعارضة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى