صفحات سوريةعلي جازو

خارج الخلود، ضدّ الأبدية


علي جازو

ألغى دستور 1973، وهو أكثر إلغازاً من “منطلقات” حزب البعث النظرية، و”مهاويه” التطبيقية، ذاكرةَ سوريا البرلمانية بعيد استقلالها عام 1946. كثير ممن يشدهم الحنين إلى ليبيرالية وطنية، ترافقت وتمدناً اجتماعياً مع حالة اقتصادية جيدة في العموم، يجدون في دستور 1950 الذي أسس لنظام حكم برلماني ينتخب رئيسَ الجمهورية ويقيد سلطاته، دليلاً على روح تلك المرحلة. مهدت الانقلابات العسكرية المتلاحقة، والوحدة شبه القسرية مع مصر عبد الناصر التي تغوّل فيها نفوذ “المكتب الثاني” المخابرات، لهكذا إلغاء أضعف من نفوذ البرلمان، وتولّى العسكر، الذين ألغوا مدنية الدولة الناشئة، وغدوا بحكم المشرعين الفعليين، وضْعَ الدساتير وتغييرها بمراسيم رئاسية أقرب إلى فرمانات اعتباطية منها إلى رصانة التشريع ومدى حجّيته القانونية المفترضة اكتسابها من الشعب، مما حجّم دور الدستور، وهبط بالسياسة من رفعة العقل إلى درك العضلة. ناهيك عن محو دور المواطنين في اختيار ممثليهم الذين غدوا شيئاً فشيئاً أقرب إلى موظفين بلا عمل.

وتقزمت الصحافة حدّ وصول مستوى انعدام الثقة إلى نشرة أخبار الطقس، ولم يعرف جيلنا الحالي من أعضاء “مجلس الشعب” أكثر مما عرفنا المطرب علي الديك، الخلف الرديء للراحل فؤاد غازي.

إذا كان دستور الدولة “عقلها”، ومصدر سلطاتها، فإن دستور سوريا الحالي ليس سوى عاطفة خرافية جرى تضخيمها النضالي والإعلامي على نحو جرّد الدستور من كل قيمة تعكس من ضمن ما تعكس مستوى تفكير السوريين وطموحهم في وطن تتجرد السلطة فيه من التسلط نحو الخدمة العامة، ومن الاحتكار والغصب إلى التداول السلمي. تحولت سوريا بموجب دستور البعث إلى وطن مؤقت في مرحلة نضالية تنتهي حسب التفاؤل الثوري بـ”الوحدة العربية” و”الحرية” و”الاشتراكية”. لأن الوطن موقت، ولأنه في مرحلة النضال، فلا يمكن تأسيس حالة عامة مستقرة عليه، وطالما كان رهن الزوال فقدتْ الحاجة إلى نقده. في هذه الحال يغدو الدستور أقرب إلى ديكور تزييني وبلاغة خطابية منه إلى ناظم للحكم ومرشد في الاقتصاد وضامن للعدالة ونزاهة القضاء. وفي ظل اجتماعات “الفرق” البعثية، والممتدة على طول البلاد وعرضها، غدت “القيادة القطرية” سيدة المجتمع السوري، وميزان رشده من ضلاله. وعندما يكثر الحديث عن ضرورة وأولوية إلغاء المادة الثامنة من الدستور السوري، إنما يكثر لأنه يشير إلى “اللب” الذي أفسد سوريا كدولة ومجتمع. تحت هذا البند المقدس، وفروعه الاخطبوطية، تم حبس سوريا في فكرة نضالية حجبت واقع حياة السوريين، وأرجأت حاجات الحاضر الملحة إلى غد لا يصير حاضراً كما هو فعل مرور الزمن، طبيعة واجتماعاً، في الأشياء والبشر والأفكار.

مع ذلك، فحزب البعث “العلماني الاشتراكي”، الذي أضاف ملايين الفقراء إلى سوريا زيادة على فقرائها السابقين، لم يلغ شرط الديانة الإسلامية في من يتولى رئاسة الجمهورية، لكنه بدل انتخاب الرئيس من قبل مجلس النواب إلى “الاستفتاء العام”. باسم العلمانية يمنع تشكيل أحزاب على أساس ديني، والبعث القومي نفسه يمنع قوماً آخرين، سوريين مثله، من التعليم والكتابة بلغتهم؛ فـ “الأخوة الأكراد” جزء أساسي من النسيج الوطني، غير أن لا ملمس لهذا النسيج العجيب داخل متن الدستور الأعجب، وبالتالي لا داعي ليكون للأكراد أحزاب تمثلهم ولا قيمة تالياً لشرعية مطالبهم في تضمين الدستور إقراراً بوجودهم القومي، فهم أخوة يسري عليهم ما يسري على “أعضاء الحزب الواحد”. ولأن البعث عبقري في تفكيره الانتقائي الإقصائي، ولأنه يعكس روح الأمة ورسالتها الخالدة، لم يجلب على الشعب “المناضل” سوى الدمار الوطني، فلم ينل من الوحدة سوى التمزق ومن الحرية غير السجون ومن الاشتراكية إلا إفقار من لم يفقر بعد.

خارج الخلود وضدّ الأبدية، كبشر “فانين” يسعون إلى استرداد كرامتهم ومعنى انتمائهم الوطني، يتحرك السوريون الآن كما لو أنهم يدوسون على الجمر.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى