صفحات الحوار

خالد خليفة: أكره رواياتي ولست بائع أمل

علاء الدين العالم

الطبيعي أن أكون في دمشق لا العكس

يقف الروائي والسينارست السوري خالد خليفة اليوم على أبواب العالمية، بعدما حضرت روايته «مديح الكراهية» في قائمة «muse list» كواحدة من بين أهم مئة رواية في العالم، متزامنا ذلك مع نشره لروايته الرابعة «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، عن رواياته وحلم العالمية، ومدينته حلب، كان هذا الحوار…

÷ ما الذي دفعك إلى البقاء في دمشق بالرغم من المخاطر؟

} الطبيعي هو وجودي في دمشق وليس العكس، رغم المخاطر هناك أكثر من عشرين مليون سوري يدونون بشكل يومي ملحمتهم، ودفعوا في هذه الثورة أثماناً هائلة لم أدفع نصفها، بقائي في دمشق لا يستدعي السؤال، ولا أخفيك بأن هذا السؤال أصبح يضايقني، أية بطولة أن يبقى شخص مثلي في بلده ويشارك شعبه آلامه؟ وهذه المرة الأخيرة التي أقبل فيها مثل هذا السؤال من أي كان. ولدت هنا، وعشت هنا، وأريد أن أموت هنا.

÷ تنتقل اليوم إلى العالمية بعدما أدرجت روايتك «مديح الكراهية» كواحدة من بين أهم مئة رواية في العالم، برأيك، لماذا اختيرت هذه الرواية من بين رواياتك الأخرى وهل هي فعلا أفضلها؟

} هي الرواية الوحيدة من رواياتي التي ترجمت إلى لغات أخرى، ووجود كتابي في مثل هذه القائمة لا يعني وصولي إلى العالمية، فمفهوم العالمية أكبر من مجرد حضور عملك في قائمة عالمية. العالمية في تعريفي أن تستطيع كتابة نص عابر للأزمنة والأمكنة، لذلك وجود «مديح الكراهية» في هذه القائمة ليس دليلا على عالميتها، الرواية تحاول وتسير بخطوات بطيئة نحو تأكيد وجودها، تكسب يومياً قراء جدداً ومن كل أنحاء العالم، لكنها حتى الآن لم تخضع لامتحان التاريخ والبقاء، بالتالي ستصبح عالمية حين تتحول من رواية سورية مترجمة إلى عدد من اللغات إلى أرث إنساني يعني البشر في كل الأمكنة.

لا أعرف إن كانت أفضل ما كتبت، أنا أكره رواياتي ولا أتمكن من تقييمها، الحكم للقارئ والتاريخ، بعد ذهاب النص إلى المطبعة يصبح بالنسبة إلي جثة هامدة كان لي معها الكثير من الذكريات.

÷ تقف في «مديح الكراهية» و«لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» على حافة التوثيق، كاتبا واقع التاريخ بلغة الخيال، ما هي الضوابط التي وضعتها كي لا تنزلق إلى دور المؤرخ وتغدو رواياتك وثائق تاريخية؟

} في «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» يحضر سؤال كيف عشنا كسوريين مع هذا النظام خمسين عاما حياة موازية ولم نلتقِ؟ مدللاً بذلك على بعض الحوادث في تاريخنا المعاصر وبعض رموز المدينة في تلك الحقبة، وهذا برأيي ليس توثيقا بقدر ما هو حفر عميق في الحياة السورية، قد يكون الخيال هو أول الضوابط التي تمنح النص قوة الافتراق عن كونه وثيقة تاريخية. أي عمل روائي بدون خيال ميت لا محالة، والوثيقة حين تحضر في الرواية يجب أن تتحول من حادثة تاريخية محددة بمكان وزمان إلى حادث إنساني عام لا يحدد بأمة أو مجموعة، فواقعة السجن الصحراوي في «مديح الكراهية» ليست صورة مستنسخة عن واقعة مجزرة سجن تدمر فقط، بل هي مجزرة وقعت منذ أزمنة بعيدة ضد أناس معزولين في مكان حقير ولا إنساني وقاسٍ، أتمنى ألا تتكرر هذه المجزرة مرة أخرى في أي مكان من العالم، لكنها للأسف ستتكرر.

÷ تكسو كافة شخوص رواياتك حالة من العجز، انتظار الموت، العدمية، ما يفرض حالة كآبة تطفو على جو الرواية، ألا يشكل هذا حالة من التكرار؟

} لست بائع أمل في الكتابة رغم أنني في حياتي الشخصية كذلك، لذلك لو كتبت عن شخصية بائسة عشرات المرات بطرق مختلفة لا أرى انه تكرار. بعبارة أخرى، كأبناء بلدان عربية لا يمكننا تجاهل العدم الحاصل في حياتنا اليومية، حاضرنا اليوم في سوريا هو صورة عدمية لا تصدق، مفرداتها عشرات آلاف الشهداء وعشرات آلاف المعتقلين وملايين النازحين والمهجرين ذنبهم الوحيد مطالبتهم بحقهم في الحرية، لا يمكنني كروائي التغاضي عن هذا العدم القاسي، وتناسي حالة الانتظار التي ما زلنا نعيشها بشكل دائم، الصورة على حقيقتها ليست ناصعة، ناهيك أن الرواية يجب ألا تزور الواقع وتحابيه. لو تأملنا كم البؤس الذي أعيد إنتاجه في العقود الأخيرة من تاريخنا لوجدناه هائلا، وفي ذات الوقت كان كم الأمل المجهض والمحاولات الفاشلة في تاريخنا هائلا أيضا. يضاف إلى ذلك أن فكرتي الموت والانتظار أكثر الأفكار التي تثيريني في الكتابة، أنا أيضا واحد من الناس بعد خمسين عاما من حكم البعث وجدت كل أحلام أسرتي وأصدقائي من حولي تحولت إلى هباء، لأنهم أبناء للضفة الأخرى التي لا يعرفها النظام، وهذا ما تحاول روايتي «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» قوله.

÷ في رواياتك كافة تحمل الدين مسؤولية الكبت، الفشل الأسري، العجز….الخ. هل ترى أن المنظومة الدينية ستشكل عائقا في وجه نجاح الثورة السورية؟

} أنا لا أحمّل الدين المسؤولية، بل أحمل الديكتاتورية كل أسباب الفشل. أما مجموعات الإسلام السياسي فتتعاطى مع الثورات كأنها من نتاجها مع نكران كامل لشكل ووقائع هذه الثورات التي هي شعبية بامتياز، ترفع شعارات واضحة وصريحة عن العدالة الاجتماعية والحرية والكرامة. لو نظرنا إلى فشل تجربة «الإخوان المسلمين» في مصر في أول حكم ديموقراطي، لفهمنا أن الإسلام السياسي لم يتغير وعلى امتداد تاريخه لم يحترم الآخر وثقافات المجتمع غير الإسلامية، كما لم يحترم تضحيات هذا الآخر. على الإسلام السياسي إدراك أن هذه ثورات مجتمعات لم تعد تحتمل القهر ولا انقلابات أحزاب، فإذا أرادت منظومات الإسلام السياسي البقاء عليها النظر مليا إلى خطابها وتكييفه مع مرجعياتها، والانتقال من الدين إلى الدنيا، وهذا ما لن تفعله تلك المنظومات في الوقت الحالي. هناك نشوة نصر كاذب، لأنها عاجزة عن إدراك أن زمن الاستفراد واستبداد السلطة ولى إلى غير رجعة.

أكتب بخفة

÷ تنتقل من الفضاء القروي العجائبي في «دفاتر القرباط»، والأرابيسك الشرقي في «مديح الكراهية»، إلى فضاء المدينة المغلق في «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة»، ألا تخشى من تأثير هذا الفضاء على جمالية روايتك الأخيرة في ظل سطوع نجم «مديح الكراهية» اليوم؟

} شكّل نجاح «مديح الكراهية» حاجزا تجاوزه لم يكن سهلا، لكن مجرد نشر «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» أيقنت أنني تجاوزت هذا الحاجز وبيني وبينه مسافات غير مرئية، وأنا الآن أكتب روايتي الجديدة بخفة وبدون حواجز.

أما عن الانتقال إلى فضاء مختلف، أنا مولع بالتجريب في تقنيات السرد واللغة والتشكيل، هذا الانتقال لا يشكل خطرا لأنني أنتقل في فضاءات أعرفها، لم يسبق لي الكتابة عن مكان لم أعش فيه ولا أعرف روائحه بشكل جيد، والمكان الذي لا أعرفه لا يسمح لي بالبحث عن أساليب سردية مختلفة، بل يجعلني أشعر بغربة فظيعة، لا أخفي مقتي وكرهي للسياح وبرامج السياحة، لم أكن يوماً في أي مكان من العالم سائحاً، وما زالت روائح الأمكنة التي عشت فيها أو التي أحببتها كــعابر سبــيل تسكــنني.

÷ «لا سكاكين في مطابخ هذه المدينة» عنوان يعكس حالة من العجز تجلت تفاصليها في نص الرواية، هل ترى أن ما يحصل في حلب مدينتك ومسرح أحداث رواياتك كان وراء حالة العجز؟

} ما يحدث في حلب اليوم هو نتاج طبيعي، النظام عاقب حلب ثلاثين عاما بتحويلها من مدينة منفتحة ومنتجة لكل الثقافات وعاصمة اقتصادية حقيقية إلى مدينة (كانتونات) طبقية وطائفية، مفقدا صراعها وتنافسها مع دمشق معناه الحقيقي، تخيل مدينة مثل حلب يسكنها أربعة ملايين نسمة محرومة من أي فعل ثقافي خلال ثلاثين سنة، لا سينما، لا مسرح، لا جريدة، لا شيء، ولم نتحدث عن النتائج الكارثية على عمارتها التقليدية، لذلك ما يحدث اليوم في حلب هو رد فعل عنيف على هذا التهميش الشديد، لكن لن يؤدي إلى موتها لأنها أكثر عراقة وبهاء من أن تندثر بهذه البساطة.

÷ يكثر الاستطراد في روايتك الأخيرة من خلال سردك لكل شخصية أقصوصة تساهم في بناء حكاية الرواية، ألا تخف أن يشكل هذا الاستطراد حالة من الملل لدى القارئ، أم أنه أسلوب سردي تتبناه؟

} عندما أكتب لا أخطط لأي أسلوب سردي دون آخر، أنا ببساطة أكتب وانتقل وألعب باللغة والشخصيات والمصائر، ملل القارئ يخيفني لكنني لا أتنازل من أجل حبكات سخيفة أو مشوقة، في النسخ الأخيرة قبل النشر أعمل على نصي جملة جملة ومفردة مفردة، وأهتم بإيقاع النص كثيراً، هذا يجعلني أعيد كتابة روايتي أكثر من مرة، وكلما اقترب النص من نهايته أشعر بإحباط وخوف فظيع، تنتابني أفكار سوداء وأعاني أرقاً لا أستطيع فهمه وحياتي الشخصية تنفتح على فوضى هائلة ومدمرة.

أما عن آلية الكتابة حقيقة لا أعرف شرحها، كما ذكرت أكتب ببساطة ومن دون أي مخطط كما لو أنني تلميذ صغير مولع بالمدرسة يستيقظ صباحاً، يتناول إفطاره ويقفز بمرح في طريقه إلى المدرسة، نعم أنا طفل مرح حين تبدأ الكتابة.

(دمشق)

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى