صفحات الثقافة

خبز مرّ في قبضة الطاغية/ حكيم عنكر

 

 

مر الربيع العربي وجاءت انتكاساته، ولم يقو الكاتب، ولا المنشغل بالفكر، على التعبير عن هذه اللحظات المكثفة، والتعليل السهل الذي يقدم أن أحداث العرب جارية في الزمان وفي المكان، وأن الكاتب ليس كاميرا ناقلة، بل يحتاج إلى مسافة بينه وبين الأحداث المندلقة والمتسارعة، حتى يتمكن من استيعاب ما يحدث.

طيب. ولكن، لماذا لم يتوقع ما حدث، لماذا كانت نصوصه في غيبوبة عن الواقع، حتى لما جرت بين رجليه، وجد نفسه خارج الصورة، غفلاً، مبهوراً.

قد يكون الجواب الجاهز أن مخابرات عربية، بكامل عدّتها، انهدّت أمام ما حدث، ولم تفلح الدولة البوليسية في استباق الجماهير الغاضبة التي تجاوزت خطابات السياسيين وأحلام المثقفين، ورفعت السقف عالياً، بأن طالبت بإسقاط النظام.

كاتب كبير، هو غابرييل غارسيا ماركيز، الذي مرت سنة على غيابه، يقدم لنا الخلاصة الجوهرية، وقوامها أن أي غياب عن أفق الجماهير لن يمنح للمثقف دوراً يذكر.

كان قد قدر لماركيز أن يبدأ حياته الأدبية من العاصمة الكولومبية بوغوتا، في زمن الديكتاتوريات المقيتة، صحفي ريبورتاجات وتحقيقات في صحيفة صغيرة، وسرعان ما سيشد إليه الانتباه، بفضل التحقيقات المدوية التي كانت تفزع رموز النظام العسكري في بلده وتخيفهم.

في تلك السنوات الصعبة من ثلاثينيات القرن الماضي وأربعينياته، تحول ماركيز وغيره من رفاقه في كولومبيا وبلدان أميركا اللاتينية التي كانت ترزح تحت نير الديكتاتوريات، إلى ظاهرة ثقافية وسياسية وإعلامية مؤثرة، واستطاع هؤلاء المثقفون أن يكونوا في الصف الأول لشعوبهم، معبرين عن الحاجة القصوى إلى الحرية والديمقراطية.

في كل أعماله، كان ماركيز يتمتع بتلك العين اليقظة، وظل أسلوب التقرير الصحفي يرافقه في متونه الروائية، رشيقا وممتعا ومدهشا ومؤثرا فكريا وأخلاقيا. وبقدر ما حكى عن الشعب وعن الحب وعن طاقة العشق، حكى، أيضاً، عن الحرية وفن الحياة، وجعل مركبي الخير والشر يبحران معاً في اللجة نفسها، لكنه في ذلك كله لم ينس الديكتاتور. قام بتشريحه من الداخل بمبضع الجراح الماهر. كان، بفضل مراسه السياسي، يعرف نفسية الديكتاتور المنهزمة. لذلك، دفع قراءه في جميع أنحاء العالم إلى عدم الانخداع بالنياشين الثقيلة، ولا بالأوسمة البراقة، ولا بالرتب العسكرية التي يمنحها الديكتاتور لنفسه، في لحظات الجنون الأعمى. في كل أعماله، جسد ماركيز هذا المنحى الراديكالي في الكتابة، وفي الإيمان بالحرية والكرامة. ففي إحدى أقصر رواياته “يوميات بحار غريق”، استطاع أن يجعل من مجرد غرق سفينة تجارية لنقل البضائع تابعة للحكومة الكولومبية في عهد الديكتاتور باباً لكشف الفساد المستشري في أوصال النظام الحاكم القائم على التهريب، حيث تتحول الدولة من حامية للاقتصاد الوطني إلى معول لهدمه. الحكاية، سيرويها البحار الوحيد الناجي الذي كان على ظهر السفينة، وحولته الحكومة الفاسدة في محاولة لرشوته إلى “بطل قومي”.

يعلمنا ماركيز الدرس الثمين، كون الإخلاص لصوت الشعوب وللقضايا لن يذهب أدراج الرياح، وأنه لا مساومة ولا مقايضة لأصوات الجماهير، فمهما جيّرت، أو بيعت في مزادات المصالح الآنية، فإن ذلك لن يخمد تلك الجمار التواقة للحرية وللأمل.

فما معنى الخبز المر تحت هيمنة استبداد، يجهل شعوب ويفقرها، ويخضع البشر لطاحونة الإخضاع المقيت، ويحول النخب إلى كائنات ممسوخة متقيحة، يأكل صالحها دود الندم.

يؤكد ذلك، اليوم، مئات آلاف المواطنين العرب، طحنتهم ظروف بلدانهم، ورمتهم إلى متاهات المنافي والملاجئ، يخضعون لتجربة قاسية في الحياة، ويحتاجون ليس لحاضنة اجتماعية جديدة، بل إلى سينما وموسيقى، وإلى أدب يشفيهم من جراحات الديكتاتور وآلامه، ومن ظلال الطاغية.

العربي الجديد

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى