صفحات الرأي

خدمات التاريخ

دلال البزري

لا يكتفي التاريخ بتفجير قنابله الموقوتة، ولا بضرب توازنات راسخة، ولا بخضوع رواياته لأقلام المنتصرين. إنه أيضاً في خدمة مشاريع صاعدة، لهيمنات جديدة، داخلية وخارجية، أو في تأجيج جراح أمم، كانت صاحبة شوكة، وإذا بها تتراجع، أو تراجعت… والجميع ينادي التاريخ الأمبرطوري العظيم الغابر.

خذْ الصين، هي الأكثر جدّة من بين الأمثلة: حزبها الحاكم لا يتغنى بشيء قدر تغنيه بعظمة امبرطوريتها السالفة، “أمبرطورية الوسط”، لترسّخ شرعية حزبها، “الشيوعي” بالأصل. وثبة امبرطورية تخدم هذا الحزب لتوسّعه داخل حدوده و خارجها. الصراع في آسيا الآن يدور حول هذه “النهضة الوطنية” الصينية المتوسعة  نحو أراض ترى انها كانت صينية أيام “أمبرطورية الوسط”. والمرجع “الروحي” لمثل هذا الطموح لدى القادة الصينيين هو “فن الحرب” لصاحبه سون تزو، الصادر في القرن الخامس قبل الميلاد.

مثلٌ آخر، أقدم بقليل: الرئيس الروسي الذي انطلق من هيمنته على المجتمع الروسي، وتوسع بهذه الهيمنة نحو الخارج، على قاعدة شعبوية رفعت الى مستوى رسمي؛ دعامتها “حماسته” القومية المسنودة الى عظمة ماضية. يقولها صراحة بوتين، انه “يحنّ الى العهد السوفياتي”، حيث كانت روسيا مهيمنة على ما عرف بـ”الـجمهوريات السوفياتية” وعلى دول أوروبا الشرقية. لكن تحالفه الوثيق مع البابا كيريل، رأس الكنيسة الأرثوذكسية، ودمجه الإلحاد السوفياتي بالايمان الديني، ضاعف من حلمه “الامبرطوري”؛ أضاف الى “السوفياتي” العهد  القيصري، فغنم امبرطوريتين.

الأمر نفسه يمكن وروده في حال تركيا وايران. كلتاهما راكمت قوةً، نووية، اقتصادية، ايديولوجية، البستاها ثوب امبرطوريات عرفها البلدان. العثمانية والفارسية، هما روح توسعهما ورؤيتهما، خلفيتها الصلبة، بالرغم من أحصنة طروادية تتقدمهما، مثل “الممانعة”، أو “الديموقراطية”، أو “الاسلامية”…

لكن هناك خدمة مختلفة يقدمها التاريخ، غير إيجابية: هي حال من كان “كبيراً”، ذات يوم، متوسعا ومهيمنا على من حوله، ها هو تراجع، باكراً أو متأخراً، او انه في سبيله الى التراجع. الفرنسيون الذين يندّدون بخفض ميزانية دفاعهم، يحيلون حجتهم الى عصرهم “الامبرطوري” ذاك، عندما كانت فرنسا تنافس انكلترا على بحار العالم. اليونانيون، في أزمتهم الاقتصادية الطاحنة، التي أضاعت جهودا هائلة للانضمام الى اوروبا، يحاكون الآن تاريخهم الهيليني، وآلهتهم وفلسفتهم واختراعهم للديموقراطية ليصدّوا جرحاً غائراً أُصيب به كبريائهم “الوطني”. الإيطاليون يسلكون طريقهم بترجيحهم كفة مرشح شعبوي يريد استعادة عظمة الامبرطورية الرومانية. او اليابانيون، الذين يستعيدون الآن عهد “الميجي”، (1868-1912) القريب نسبياً، والذي سجلت اليابان فيه أبهر النجاحات الحداثية. الأمر نفسه مع المصريين، الذين يداوون جرحهم الوطني، تارة بالـ”ريادة” التي هيمنوا بفضلها على العالم العربي، وقليل من الاسلامي والافريقي، أيام الناصرية الظافرة، وتارة اخرى بالفراعنة، ومجدهم المعروف.

والمدهش ان اكبر الدول واقواها، أي الولايات المتحدة، لا تحتاج الى التاريخ لتبرير هيمنتها. إنما هي الآن بصدد مراجعة سياستها الخارجية، واختراع “السياسة المتعددة الأقطاب”… من دون التخلي عن الهيمنة، بل ربما لإدامة حقبة تراجعها. طبعا الاميركيون لم يبنوا الا امبرطورية معاصرة؛ هم من دون تاريخ يكذبون على انفسهم بواسطته. وعندما يتراجعون حقيقةً، ويصبحون أمة بذاكرة امبرطورية فحسب، قد يفعلون كما بقية شعوب الأرض.

وقد تقوم قائمة دولة مقدونيا، وهي جمهورية يوغسلافية سابقة أنشئت عام 1991، وهي من أفقر الجمهوريات الأوروبية ولا يتعدى سكانها المليوني نسمة. قد تقوم هذه القائمة… من يعرف مكر التاريخ؟ فيُنبش الاسكندر المقدوني، “الكبير”، الذي انطلق من هناك في القرن الثالث قبل الميلاد وبلغت فتوحاته ضفاف نهر هندوس في شبه القارة الهندية. وأنشأ في كل هذه البلدان سبعين مدينة، غالبيتها تحمل اسم الاسكندرية… فتكون هذه البلدان مرشحة لغزوة مقدونية “جديدة”… من يعلم بما يخبئه التاريخ؟

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى