صفحات الثقافة

خراب «القرية الرحبانية»

حسام عيتاني

عاشت «القرية الرحبانية» في وئام وهناء لم يكن يعكرهما شيء من داخلها. مشكلاتها دائماً من الخارج. من راجح، في «بياع الخواتم» ومن جنود الاحتلال التركي في «سفر برلك»، إلى عملاء السلطنة في «أيام فخر الدين» أو العدو الغريب الشرس في «جبال الصوان».

الخلافات الصغيرة بين أبي حسين وأبي جرجي، يتدخل سريعاً لحلها ممثل السلطة العادلة. وعندما حاول الرحابنة نقد الأوضاع الداخلية عثروا على الاستبداد في «ناطورة المفاتيح» والفوضى السياسية في «يعيش يعيش» وعزلة الحاكم عن أوضاع شعبه في «الشخص»، والاعتباط في «صح النوم». المجتمع عندهم حالة ساكنة لا تنتفض ولا تتحرك لأسباب موضوعية. وحتّى الكيان الذي من خارجه (الاحتلال، الاستبداد، الغريب)، فإنه غالباً ما يهيمن على المجتمع بسبب نقص في القيم الاخلاقية مثل حب الوطن والاخلاص له.

رفض زياد الرحباني هذه الصورة عن لبنان التي نشرها عاصي ومنصور بين الخمسينات والسبعينات. أشار الى عمق الانقسام الطبقي في مسرحية «بالنسبة لبكرا شو»، وعنف الصراعات الطائفية في «فيلم اميركي طويل»، وذهب في «شي فاشل» التي قدمها بين جولات الاقتتال الطائفي في جبل لبنان في 1983، الى السخرية من صورة القرية الآمنة الوادعة التي لا يكدر صفو عيشها غير تدخل الغريب «سارق الجرّة». في المسرحية هذه، يصاب المخرج «نور» بالارهاق خلال محاولاته تنظيم شؤون فرقة الممثلين المنقسمين بين مسلمين ومسيحيين وترتيب شؤون الانتاج المتعثر، وفوق ذلك الاطمئنان من ممثل السلطة «الكولونيل» الى ثبات الوضع الامني اثناء عرض المسرحية.

الناقد المرير للطائفية وللنموذج الفني الساذج للتعايش اللبناني المقدم على مسرح ابيه وعمه، كان يطالب بالثورة كمخرج من ازمة النظام الطائفي اللبناني. ثورة يقوم بها «الشعب المسكين» على المستغلين، ولا تستثني العنف من ادواتها. النماذج جاهزة في خياله. روسيا البلشفية التي يأمر لينين فيها بإرجاء السعي الى الديموقراطية الى ما بعد انجاز مهمات الثورة. والاتحاد السوفياتي الذي يمنع ستالين أي حركة فيه لا تصب في خدمة بناء الاشتراكية ومحاربة النازية والامبريالية.

كيف تستقيم هذه التصورات في لبنان؟ بسيطة. الجنود ورجال الامن هم وحدهم البروليتاريون الحقيقيون في بلدنا على ما يؤكد في مسرحية «بخصوص الكرامة والشعب العنيد» في 1993. وللجنود الحق في قيادة البلاد طالما ان الفوضى وتفشي الفساد والاستغلال هما البديل الوحيد عن سلطتهم. اليوتوبيا البروليتارية هذه تكاد تتحقق امام عيني زياد بمجيء قائد الجيش اميل لحود رئيساً للجمهورية في 1998، الواضع محاربة الرأسمالية المتوحشة التي يمثلها رفيق الحريري في رأس أولوياته.

وتتقدم الخطة الكبرى مع بعض التفاصيل التي لا تغير من جوهرها الشيء الكثير. فيحل «حزب الله» على رأس القوى الثورية، بدلاً من حزب الطبقة العاملة، لأن التصدي للعدوان الخارجي الاسرائيلي، أهم من تحقيق مطالب العمال والفلاحين وفق الترتيب في لائحة الضرورات الوطنية.

بقي هذا التصور صالحاً الى ان بدأت الثورات العربية. كانت هذه مفاجأة غير سارة من خارج التصور الرحباني بنسختيه، التي وضعها عاصي ومنصور والتي صاغها زياد. تفجرت المجتمعات العربية من الداخل وأخرجت كل تناقضاتها الى العلن. منها ما هو طبقي، بطبيعة الحال، ومنها ما يتعلق بالهوية والثقافة والعلاقة مع الآخر.

جاءت الثورات مناقضة لكل «الكتالوغ» الرحباني بجيليه. حطمت مفاهيمه البسيطة عن الاجتماع والتاريخ والهوية وألقت بها كالعصف المأكول، لا قيمة لها إلا كنوستالجيا الى حلم لم يتحقق. اسقط شباب تونس ومصر وليبيا واليمن، أنظمة ذات مواقف متباينة من «القضية المركزية» ومن العلاقات مع الغرب، لكنها كانت تتفق كلها على البطش بمواطنيها. وعندما وصلت رياح الثورة الى سورية، بدا ان سعة التغيير ستبتلع كل الأسس التي قام عليها النظام الرسمي العربي، بما فيها المعارضات القائمة له. عنف الزلزال تجاوز كل التوقعات وأطاح كل المسلّمات بما فيها مقولات الممانعة، الغطاء المهترّئ لأقسى انظمة الاستبداد في المشرق وأكثرها غطرسة ودموية، نظام حافظ وبشار الاسد.

وبعد أكثر من عام على التزامه الصمت، جهر زياد الرحباني بوقوفه ضد الثورات العربية، خصوصاً في سورية. ظهر انه لا يستطيع القبول بحركة الشعب، طالما ان الشعب لا يسير ضمن تصورات الرحباني المسبقة، الصائبة و «المجربة تاريخياً». لم يكن أمامه غير ان يعيد كل الثورات، على غرار ما فعل أكثر مؤيدي الاستبداد وفاء، الى التدخل الاميركي والى الاموال الخليجية. ثورات تحركها قوى التطرف السلفي الإرهابي وتمتطي آمال الفقراء ذريعةً لأسلمة المنطقة وتقديمها بثرواتها لقمة سائغة الى الاسرائيليين والاميركيين.

حيال ذلك، لم يجد الرحباني غير الكشف عن الوجه الحقيقي للثائر الذي يعول عليه اليوم. انه رجل المخابرات، على ما قال في مقابلات ادلى بها اثناء زيارته مصر. نعم. هكذا. يحل رجل المخابرات مكان الثائر المتخيل، فتكتمل دائرة الثورة… التي ليست إلا نكوصاً الى حكم الاقليات الطائفية المسلحة في وجه «العمال والفلاحين والمثقفين الثوريين» و «الكادحين بأيديهم وعقولهم». في وجه فقراء الريف السوري وشباب الأحياء المصرية المهمشة ومتظاهري تعز وصنعاء وعدن.

هل كان رجل الأمن هو الثائر الضمني، منذ بداية المشروع الرحباني الفني؟ هل تغير مع الوقت ومع ظهور استحالة الثورة وفق مقاييس الجودة المعترف بها عالمياً؟ لا نعلم يقيناً. لكن الأكيد، ان الانحدار في طبيعة حامل لواء التغيير قد حصل وارتدى رداء الفضيحة السياسية والاخلاقية.

والأكيد أيضاً، ان نقد المثقف والفنان «الممانع» ليس ترفاً فكرياً. ليس دليل عافية وحرية في التداول الديموقراطي للأفكار والآراء، بل هو ضرورة ملحة اليوم أكثر من أي وقت مضى. انه نقد للمعرفة المضللة والزائفة وللنوازع التي اختبأت طويلاً وراء شعارات ورطانات ولّدت اليأس والعدمية عند أجيال من الشباب العرب، بعدما لعب أصحابها لعبة المعارضة لأنظمة الاستبداد والطغيان. لم يعد من مجال للمهادنة مع التزييف والادعاء والكذب. ولم يعد جائزاً تحمل «طليعية» من يتلخص حلمه بالعودة الى حكم اجهزة الاستخبارات.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى