رستم محمودصفحات سورية

خريف الملالي السوفياتي/ رستم محمود

 

 

يُمكن لنتائج انتخابات مدينة طهران لـ «مجلس الخُبراء» أن تُشكل مؤشراً إلى مدى توق الإيرانيين إلى التغيير/الخلاص، وبالذات مُنهم ملايين المُنحدرين من شريحة الشُبان الأكثر تعليماً وعلاقة بالعالم الحديث وأدواته، حيث يُشكل مُجتمع طهران تمثيلاً مثالياً لهم. فهؤلاء الذين منحوا أقل من 7 في المئة من أصواتهم للتيار المُحافظ في هذه الانتخابات، كانوا يسعون الى القول بمعنى ما «ما الذي تُريدونه بعد كُل هذا» و «ما الذي يُشرعن سيطرتكم وهيمنتكم على كل وجوهِ حياتنا، بعدما تساقطت كُل مشاريع وذرائع هذه الهيمنة»!.

قبل أقل من قرن، حين تأسس الاتحاد السوفياتي عام 1922، وتبنّى الإيديولوجيا الماركسية، كان مفكرون ماركسيون «عُتاة» قد شككوا تماماً ليس فقط بقُدرة الحاكمين الجُدد على تطبيق ادعاءاتهم السياسية، بل حتى في قُدرتهم على بناء وإدارة كيان سياسي مُغاير بأي شكل لما كانت عليه الديكتاتورية القيصرية. فمفكرون من أمثال كاوتسكي وبليــخانوف ومن بعدهما الإيطالي أنطونيو غرامشي، وليس انتهاء بكل مدرسة المُفكرين الماركسيين غير الستالينيين طوال النصف الأول من القرن العشرين، كانوا يتساءلون على الدوام عن قُدرة هذه السُلطة على بناء حُكم ذي شرعية وتمثيل معقول، في بيئة اجتماعية واقتصادية فلاحـــية زراعية غير عُمــالية وغير صِناعية، وبنُخبة سياســية وأدوات إيديولوجية فقيرة ورجعية، مُقارنة بحداثة دول مثل ألمانيا والولايات المُتحدة وبريطانيا وفرنسا. ولم يغير في ذلك ادعاء الثورة البلشفية وسلطتها تجاوز هذه الدول الرأسمالية، بل السعي إلى نشر الثورة في بِقاعها!.

ساهمت ظروف مُركّبة وقتئذ، بأن يستطيع «القادة السوفيات» بناء كيانهم ذاك، وأن ينتزعوا أشكالاً من الشرعية وأنماطاً من الفروض القاسية على شعوب الاتحاد السوفياتي الكثيرة، وأن يحكموا لثلاثة أرباع قرن. فالحرب العالميّة الثانية منحتهم سمة «الوطنيين» المُتصدين لشرور النازيين الغُزاة، وضمنت لهم ولاء الطبقات الشعبية الأكثر بساطة. وثروات جغرافيتهم الهائلة سمحت لهم ببناء أشكال من الاقتصادات الريعية. وترسانة الأسلحة المُرعبة مع نزعة إيديولوجية متمركزة حول مظلومية الفُقراء والطبقات العاملة، شحذت لهم تعاطفاً غير قليل في الكثير من بِقاع العالم. لكن ما لبثت تلك المسوغات كُلها أن سقطت بالتقادم، إلى أن وصلت النُخبة السياسية السوفياتية إلى مرحلة غورباتشوف/البيروسترويكا الإصلاحية، ووصلت شعوب الاتحاد الى أعلى درجات التذمُر، فكان الانهيار السريع في 1991.

يبدو ذلك وكأنه مُطابق تماماً لسيرة الملالي الإيرانيين. فمنذ سيطرتهم على البلاد عام 1979، كان يُشك على الدوام في قُدرة هذه الطبقة القروسطية الرجعية على السيطرة على شعب إيران باقتصاده التجاري/الصِناعي المُنوع، وبعُمق مدنيته وتجربته السياسيّة المديدة، المُمتدة من الثورة المشروطية في 1905 حتى الانتفاض على نِظام الشاه الشمولي نسبياً.

لدواعٍ وذرائع مُطابقة للتي كانت في الزمن السوفياتي، استطاع الملالي تأسيس هيمنتهم على «شعوب» بِلاد فارس. فإيديولوجية «نشر الثورة» أمّنت لهم ولاء طبقة رِجال الدين، وبالذات مُنهم الأكثر طائفية. ومن ثم ضمنت لهم حربهم الطويلة مع العراق تجاوز كل تناقضاتهم الداخلية مع الطبقات السياسية الإيرانية، إن عبر الشراكة النسبية باستدعاء كِبار ضباط الشاه، أو عبر الإرهاب والتعنيف كما فعلوا مع «حزب توده» وكل اليساريين الإيرانيين، أو عبر المحق، كما فعلوا بحق الحركة القومية الكُردية المُتمردة.

أيضاً كان للاقتصاد النفطي الريعي وترسانة الأسلحة وشبكة التنظيمات الإقليمية الطائفية الموالية، مع تناقضات الإقليم وشبكة المصالح الدولية، أن سمحت كلها بأشكال مُركّبة للملالي أن يبنوا سياجاً حول كيانهم وشرعيّة حُكمهم، وأن يستمروا لأكثر من ثُلث قرن.

لكنْ أيضاً، نالت مسيرة «سقوط الذرائع» نفسها من هذه الشرعية. فإيديولوجية نشر الثورة والنزعة الطائفية الشيعيّة لم تجلبا للإيرانيين إلا أزمات متراكمة مع كل الجوار، ولم يخض النظام حرباً حقيقية مُنذ ربع قرن، فيما شكل الاتفاق النووي طعنة في ثوريّة النظام وخِطابيته المُضادة للغرب «العدو الوظيفي».

فوق ذلك فقد النفط قدراته على «ستر» فساد النظام والنهب العام الذي تمارسه نخبته الحاكمة وزعيم سياسي مُتقدم في العُمر، فاقد للقدرة على السيطرة على مُختلف مراكز القوى ضمن النِظام. مع كُل ذلك فالغالبيّة الساحقة من الإيرانيين لا تحصل على الحد الأدنى من حقوقها الشرعية، في الاقتصاد والحريات المدنية والسياسية والثقافية. وثمة تيار سياسي «إصلاحي» يدعي قُدرته على إصلاح أحوال إيران، إن داخلياً أو بالعلاقة مع العالم.

ولا شيء يُمكن تأكيده في خصوص مُستقبل إيران المنظور، لكن تغيير هذا البلد المركزي في المنطقة من داخله، تبدو شروطه أكثر توافراً. وهذا شرط جوهري لتغيير وجه المنطقة كلها.

* كاتب سوري

الحياة

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى