صفحات العالم

خزّانات الشرق الأوسط الجديدة/ سامر فرنجيّة

 

 

لجأ عشرات الآلاف من أكراد كوباني إلى تركيا هاربين من تقدّم «داعش»، وتاركين وراءهم مدينتهم التي استقبلت خلال الأعوام الماضية آلاف النازحين من الاقتتال في سورية. وليس بعيداً من مأساة كوباني، هجّر التنظيم الجهادي مسيحيي الموصل وإيزيدييه، باعثاً بهم على طريق المنفى، الذي يبدو أنّه لن ينتهي إلاّ في الهجرة النهائية إلى الغرب، لتبدأ من هناك مأساة أخرى، هي مأساة التأقلم مع مجتمعات باتت تضيق على مهجّريها القدامى قبل الوافدين الجدد.

تأتي عملية النزوح هذه بعد أكبر عملية تهجير شهدها المشرق العربي في الآونة الأخيرة، طاولت السوريين وأعادت توزيعهم وخيمهم على دول غير راغبة فيهم في ما يشبه لعبة الكراسي الموسيقية، ولكنْ بنسخة دموية تعيد فيها موسيقى الحرب ترتيب كتل بشرية على صعيد منطقة منكوبة. وعلى رغم مآسيهم، جاء من ينافس السوريين على كرسيهم الهش في هذه اللعبة. فلم يجد عمر الحجيري، وهو الهارب من عرسال وقصفها، مكاناً ينصب فيه خيمته بعدما «شغل اللاجئون السوريون معظم الأراضي هنا، ويبدو أنه ليس سهلاً إيجاد مكان نأوي اليه»، كما روى لحسن الساحلي (المدن، 7/8/2014). الهجرة تعيد البحث إلى الدرجة الصفر من الوجود، بحيث تتصارع كائنات مستباحة على حقها في نصب خيمة.

في ظل التهجير والتهجير المضاد والمضاعف، بات من الصعب نسج أية رواية سياسية حول هذه المأساة المتنقّلة خارج الخطاب الإنساني ومطلب التدخّل الخارجي، مما أصبح أقرب شيء إلى دعاء علماني موجه إلى آلهة الطائرات بلا طيار. وهذا الدعاء ليس إلاّ إشارة إلى فقدان أية إمكانية للخطاب بتسييس مآسي تلك الكائنات المستباحة وإعادة تأهيلها من نتيجة الهزيمة إلى مقدّمة الثورة.

شكّل النازح في لحظات تسييسه «الآخر» للدول والقوميات والحدود، كائناً يعبّر في هجرته عن التاريخ الأسود للحاضر واستحالة استكماله. وحول هذا الطابع الإنتهاكي لتجربة الهجرة والمنفى، رسم البعض دوراً سياسياً للنازح وللمتكلّم باسمه، أي المثقف المنفي، ينمّ عن تجربته المعقّدة مع الزمان والمكان وقدرته على عكس وجهات نظر متناقضة تشكّك في تقدمة الحاضر لذاته. غير أنّ «آخر» هذا النازح المنتهك كان النازح «الفعلي»، النازح الذي لا يتكلّم ولا ينتهك ولا يعكس وجهات نظر متناقضة، بل يبحث عن بقعة من الأرض يعيد بناء ما تبقى من حياته عليها. لم يبق لهذا النازح إلاّ الدعاء للآلهة الجديدة والغضب لعدم استجابتها لطلباته.

عبّر كريم، المهجّر إلى كردستان بعد سقوط مدينته سنجار في أيادي «داعش»، عن مرارته تجاه ما اعتبره سكوت الآلهة عن مجزرة طاولت قومه: «قتلوا أكثر من ألفي إيزيدي في يوم واحد، والعالم بأكمله لم يصرخ إلاّ: أنقذوا غزة، أنقذوا غزة». هكذا لخصّ المهجّر الجديد قدره كضحية لا صوت لها لاحتكار هذا الدور من قبل ضحايا غزة (ذي نيو يوركر، 6/8/2014). وقبل كريم وأقليّات العراق وتهجيرها، كان صدر الضحايا السوريين قد ضاق أيضاً بالأفضلية التي منحها العالم لمنافسيهم الفلسطينيين، على رغم مجازرهم ومهجريهم الذين باتوا يفوقون عدد سكان المخيمات الفلسطينية. فلم يحظوا بالتدخّل الأجنبي على رغم إبادتهم الكيماوية أو بتظاهرات التنديد على رغم مجازر الفلسطينيين بينهم، بل واجههم صمت ولوم ضامر على ما آلت عليه الأمور.

قد لا يشارك فلسطينيو غزة المحاصرون النازحين الجدد وقراءتهم للمزاج العام الدولي. لكنّ لهذه الصرخة دلالة على التنافس القائم بين ضحايا المشرق العربي على ما تبقّى من اهتمام العالم بمآسيهم. ففي هذا السباق إلى القعر، يقف الفلسطينيون ونكبتهم بوصفهم النموذج عن الضحية-المعيار، التي تشكّل رغم مآسيها طموح الضحايا الجدد في المنطقة. وعندما صرخ أبو الخيزران، في خاتمة رواية «رجال في الشمس»، «لماذا لم تدقّوا جدران الخزان؟»، مطلقاً عملية تسييس النازحين، لم يكن يتوقع غسان كنفاني أنّ يوماً سيأتي ينافس فيه سكان المشرق العربي الفلسطينيين على موقعهم في هذا الخزّان، أو حتى يحسدونهم لدقّهم جدرانه بعد عقود من الهجرة.

ليس من مقاومة اليوم لتدّق هذه الجدران، أو لتحوّل المهجّر إلى حامل لمعانٍ أبعد من فقدانه مكانه، بل مجرّد ضحايا يتزاحمون للدخول إلى خزّانات المشرق الجديدة، مدركين مصيرهم الأسود. لم يقرأ ضحايا حادث غرق القارب الذي كان ينقل مهاجرين إلى أوروبا رواية كنفاني، ولكنهم أعادوا تمثيلها، مستبدلين البحر بالصحراء والقارب بالخزّان وإجرام مهرّبي اليوم بضعف مهرّبي الأمس. حاول المهاجرون الفلسطينيون والسوريون دقّ الجدران كما طُلِب منهم، ولكن لا جدران فوق البحر. وحاول من قبلهم مهجّرو النظام المصري الجديد دقّ جدران الخزّان الذي احتجزوا فيه من قبل الشرطة. لكن لم يأتِ الردّ إلاّ على شكل عبوات من الغاز المسيل للدموع أطلقتها الشرطة، ليلقوا حتفهم في مشهد يعيد آخر صفحات «رجال في الشمس». لا أحد يسجّل أنّ النازح الجديد عربي ولا أحد سيحذر من غضبه، فهو سوف يجوع ولن يأكل لحم مغتصبيه. لا شعر سينقذ هؤلاء النازحين ويعيد تأهيلهم. فهم بالكاد سيحظون ببعض دراسات وإحصاءات قد تفيد بعض الشيء في عملية التسوّل الدولية.

هجرة النازح الجديد لن تحمل في طيّاتها مشروعاً سياسياً، بل قد تعبّر عن انهيار نقاط ارتكاز تلك المشاريع، التي تساقطت واحداً تلو الآخر منذ بداية الثورات. وبهذا المعنى، قد يكون النازح الأكبر الخطابات السياسية التي باتت تطوف باحثة عمن يحملها، ولم تجد إلاّ خيما محروقة.

الحياة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى