صفحات الثقافةممدوح عزام

خزّان الأسئلة الضائعة/ ممدوح عزام

 

 

في نهاية روايته “رجال في الشمس”، يتركنا غسان كنفاني أمام سؤال حانق يستفسر عن موت الرجال في خزّان السيارة التي أقلّتهم في رحلة ممنوعة من العراق إلى الكويت، فاختنقوا وماتوا، بدون أن يأتوا بأي صوت. فيسأل السائق، واسمه أبو الخيزران، حين يراهم موتى: لماذا لم يدقّوا على جدران الخزّان؟ ثم يصرخ أمام جثامينهم: لماذا لم تدقّوا على جدران الخزّان؟

لا نعرف في الحقيقة لماذا لم يفعلوا ذلك. لكننا أمام مثل هذا السؤال المرير نجد أنفسنا مُلزمين بالبحث عن جواب ما. اللافت في الأمر أن المرارة ذاتها تعيد تفعيل التفكير في الحاضر والمصير معاً، بحيث قد يسأل المرء نفسه:

هل تنتج الأسئلة المرحة رصيداً موازياً من البحث عن الأجوبة؟ ألم تكن المآسي أكثر قدرة على استبطان الدافع الإنساني لإعادة ترتيب العالم؟ ويزيد في المحنة أن الرجال المشتركين في هذه الرحلة، إنما كانوا يعتقدون أنهم يتحرّرون من الماضي والحاضر عبر السفر إلى المستقبل حتى لو كان مجهولاً.

هذه واحدة من أبرز مشاكل العقل العربي في ارتياحه للأجوبة الجاهزة. وقد امتلأ القرن العشرون بالمشاريع التي قدّمت أجوبة عن كل شيء في هذا الحقل أو ذاك. فالمشروع الماركسي أجاب عن أسئلة الصراع الطبقي، والمشروع القومي أجاب عن أسئلة التجزئة والاستعمار، والمشروع الإسلامي أجاب عن أسئلة الإيمان ووجود الدولة التي تتبع الشريعة.

ولكن كل واحد من هذه المشاريع لم يسمح للمجتمع من حوله بطرح الأسئلة، لا عليه، ولا على نفسه. ولهذا فقد بدت المشاريع العامة كالأقدار، تحمل سمات الطمأنينة إلى أن كل شيء صائر إلى التحقق، فيما استُبعد القلق المولّد لأسئلة الوجود والحياة اليومية معاً.

وعلى الصعيد الفردي، فإن من المرجّح أن يكون من “يجرؤ” على طرح الأسئلة ضعيفاً بحسب العرف السائد، إذ يتضمّن الموقف إحساساً بالنقص وضعف المعرفة، وبالمقابل تتوفر لدى الآخر، الذي يمتلك حزمة الأجوبة الجاهزة، أو المُعدّة على عجل، وخاصة في المطبخ السياسي، قوة شيخ الطريقة، واستعلاء القائد، وفصاحة المعلم.

سبق لصدقي إسماعيل أن كتب عن هذا اليقين المريب، والتفاؤل الكاذب، كما سمّاه، في كتابه “العرب وتجربة المأساة”. وقد برز الأمر في تلك النظرة التي كانت ترى في “الماضي البداية الفتية السعيدة، وصورة الطهارة والعنفوان (…) بينما يظهر الحاضر في كل حين وحده مثقلاً بالمخازي”.

الأخطر من ذلك أن غياب الوعي بالمأساة يمكن أن يُحبط الدافع للعمل، ثمة الكثير من الباحثين الذين يرون أن وعي المأساة من أقدم الينابيع التي استقى منها الكائن البشري حوافز العمل، وتبدأ الحضارة منذ أن يعي الإنسان مكانته في العالم، فيتبيّن الفجوات الفاجعة في وجوده، كالموت والألم، ويدرك أنه الكائن القادر على أن يتمرّد على الواقع، ويتدخّل في مصيره.

يضعنا الروائي أمام الأسئلة بقوة: الأولى تتعلق بنا نحن الناجين من الموت في الخزّان، حين نسأل مع أبي الخيزران. والثانية ترتبط بأولئك الذين ماتوا ولم يفكّروا لحظة بالدق على جدرانه الكتيمة.

العربي الجديد

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى