صفحات العالم

خسائر بالجملة منذ ترك السرايا.. والحلم يتجدد


ملاك عقيل

لم يكن الامر سهلا على سعد الحريري.

ماذا يعني ان تخلع سترتك وربطة عنقك وترفع اكمام قميصك امام عشرات الالاف من المؤيدين والمحبين ايذانا بالمنازلة الكبرى مع الخصم، ثم تنتهي «متوتّرا» على الشبكة الافتراضية؟

في ذاك اليوم الآذاري المشمس وقف نجل رفيق الحريري على منصة «خطباء الثورة» واعدا الشباب، باللهجة العامية، بإسقاط سلاح «حزب الله». وبلغة واثقة اكد «ان المهمة ليست مستحيلة». بعد اشهر قليلة وجد نفسه في قلب العاصمة السعودية رافعا لواء قضية اكبر منه «اسقاط النظام السوري». ايضا، بنظر «الشيخ»، الامر ليس مستحيلا.

كان على المنفي في بلاد «الامراء والشيوخ» ان يدرك ان شطب السلاح من المعادلة واسقاط «نظام الشقيقة» ليسا بسهولة نزع السترة في لحظة انفعال مدروس. في رحلة العودة من الولايات المتحدة الاميركية في كانون الثاني الماضي، بعدما تلقى خبر نعي حكومته خلال اجتماعه بالرئيس باراك اوباما، تزاحمت السيناريوهات الدفاعية في ذهن «الشيخ». كيف يمكن حماية السرايا من الغزاة؟ لم تتطابق الحسابات «فوق الاطلسي» مع بيدر التعقيدات اللبنانية. لا الحملة على «غلبة السلاح» نفعت في ضبضبة «حزب الله» لترسانته الصاروخية، ولا «فوبيا» المحكمة الدولية اعادت الحياة الى دارة وادي ابو جميل، ولا استراتيجية التهشيم بنجيب ميقاتي، «خائن الامانة» والطاعن في ظهر «الحريريين»، منع ابن طرابلس من الجلوس على كرسيّ الرئاسة الثالثة. خسائر بالجملة، لكن الحريري الصامد يرمي اليوم كل اوراقه دفعة واحدة مراهنا على حصان واحد. لا عودة الى بيروت… قبل سقوط بشار الاسد.

غادر «الشيخ» المكتئب الاراضي اللبنانية فيما كان خلفه المكلّف بتشكيل الحكومة نجيب ميقاتي يعاني الامرّين مع من يدين لهم بايصال ملعقة السرايا الى فمه. تنفّس سعد الحريري الصعداء. فشل غريمه في تشكيل الحكومة قد يفرضه مجددا رقما صعبا على طاولة مجلس الوزراء. في تلك اللحظة وجد بقرب «الشيخ» من يعيده الى صحن الواقعية. التسوية السورية ـ السعودية سقطت بالضربة القاضية… وما عليك سوى الصبر.

بدأت القصة بتسريبة صغيرة، غير رسمية، من محيط الحريري تفيد بان «الشيخ» يقضي مع عائلته اجازة في السعودية. لكن «اجازة نيسان» تحوّلت الى غربة قسرية، مفتوحة على التمديد، تداخل فيها الامني بالسياسي والمالي. حضرت كل دوافع «اللجوء» الى السعودية. ازمة «سعودي اوجيه»، تسوية الخلافات العائلية على الميراث، حماية سعد من خطر يهدّد حياته، حلّ الازمة المالية… تعدّدت الاسباب والنتيجة واحدة. الحريري غادر خلسة تاركا وراءه «جيشا» من «ايتام الثورة» وموظفين في مؤسسات «المستقبل» بجيوب فارغة اول الشهر. بين سطور التبريرات الاعلامية للغياب الحريري المدوّي ثمة من كان يهمس في الكواليس عن رغبة سعودية صريحة بعدم عودة «الشيخ» الى بيروت «لاعطاء فرصة لنجيب ميقاتي للعمل بهدوء». رغبة تدرّجت لاحقا الى ما يشبه الامر الملكي بعدم مغادرة الرياض قبل ان تقرّر الثورة مصير بشار الاسد.

حسنا. كان على المنفي ان يتأقلم مع قواعد اللعبة. الخروج الحريري الثالث من السلطة لا يشبه بشيء تجربتي 1998 و2004. الاولى يوم وصل اميل لحود الى القصر الجمهوري والثانية على وقع قرع طبول القرار 1559. مسيّرا لا مخيّرا التزم بقاعدة «اذا اردت ان تعرف ماذا سيجري في بيروت، عليك ان تعرف ماذا سيجري في دمشق». بالانتظار لم يضع «الشيخ» يده على وجهه مهمهما. تصرّف على طريقته وطريقة مستشاريه. ولأن مخزون الخبرة في السلطة كان اقل من المستوى المتوقع، لم يقدّم الحريري عرضا مبهرا على مقاعد المعارضة كما فعل والده. احجار شطرنج «الثورات العربية» لم تهزّ حتى الان كرسيّ الاسد في قصره. الامر وحده كفيل بالتشويش على الاداء وبتحويل الانتصارات المفترضة الى نكسات.

لم تنفع الاجتماعات الثنائية (آخرها مع سمير جعجع) ولا الموسّعة ولا الضيّقة في «المنفى» مع اقطاب «ثورة الارز» في بلورة خطة حريرية متكاملة لمواجهة «حكومة «حزب الله»». الرياح الدولية «المسايرة» لابن طرابلس قلّصت من طموحات «الشيخ» في السقوط المبكر لحكومة ظلّت توحي بانها عرجاء الى اللحظة التي سدّدت فيها ضربة جزاء مباشرة في مرمى المراهنين على عدم فتح «صندوقها» لتمويل المحكمة. صحيح ان ساكني السرايا الجدد لم يقدموا اصلا أداء مرضيا في استثمار الفرصة الذهبية بالخروج الفاقع لسعد الحريري من السلطة، الا ان زعيم المعارضة بدا ايضا كـ «الكومبارس» الذي ينتظر، وما يزال، دوره للصعود الى المسرح مجددا. ناور على ظهر حكومة تقتات من خلافات اهل بيتها. وضحك في عبّه في كل مرة كان يمعن النظام السوري في الحل الامني القمعي لأزمته. بمفهومه الخاص بشار الاسد يسير برجليه نحو الهاوية، وكلما اقترب الرجل من تلك الهاوية كلما ارتفعت حظوظ المنفي بالعودة بطلا الى «سراياه»، واستطرادا، بدنو ساعة سلاح «حزب الله»…

ظلّ الحريري واضعا يده على قلبه الى اللحظة التي بقّ فيها الملك السعودي عبدالله بن عبد العزيز، بعد خمسة اشهر من الازمة السورية، بحصة غضبه من الاسد بدعوته الى «ايقاف آلة القتل وإراقة الدماء»، بعدما وضع مستقبل سوريا «امام خيارين اما الحكمة او الفوضى». قبل ذلك آثر الحريري سياسة الصمت مكتفيا بالتعاطف مع ثورة الشعب السوري، بعكس جوقة «تيار المستقبل» والقوى المسيحية المعارضة التي كانت سبقته باشواط في ترسيم خط اللاعودة مع النظام السوري.

اذا نطق الملك، تحرّك «الشيخ».

أول باكورة تصريحاته وصفه النزاع الدموي بالمذبحة واستحضاره لما يسمى مجزرة حماه العام 1982 على يد الجيش السوري. وكرّت السبحة. لجأ الحريري الى «تويتر» ليصفّي حساباته الاخيرة مع النظام وحلفائه في لبنان. خرج من عزلته الى العالم الافتراضي، وعلى دفعات مرّر شريط ثوابته للمرحلة المقبلة. عاجلا ام آجلا سيسقط بشار الاسد. حكومة ميقاتي لن تعمّر حتى العام 2013. خاطفو المعارضين السوريين في لبنان سيدفعون الثمن. لن يصوّت لنبيه بري رئيسا لمجلس النواب اذا ربح مع فريقه الانتخابات النيابية. زيارته الى سوريا ستعني ان النظام قد سقط. مرشحه المقبل لرئاسة الجمهورية سمير جعجع. وكشف عن مخطط لاسقاط حكومة ميقاتي لكنه لم يطلع جمهور «تويتر» عليه… !

برأي الحريري شخصان اتخذا القرار بإطاحته من السلطة : حسن نصرالله وبشار الاسد. نجيب ميقاتي أداة لا أكثر. طعنه في الظهر ومشى. وليد جنبلاط مسألة اخرى تماما. هو زعيم سياسي «لا يعمل عند «حزب الله»» يقول الحريري. حتى اللحظة يراهن رئيس الحكومة السابق على دور ما لـ«البيك» في اعادة السرايا لاصحابها واستعادة الاكثرية المسروقة. هذا يفسّر حرص «الجيش الازرق» على عدم استفزاز الحليف المفترض مهما ذهب بعيدا في خياراته.

صدور القرار الاتهامي في قضية اغتيال الرئيس رفيق الحريري في 30 حزيران الماضي لم يسعف الشيخ المنفي كثيرا في «جهاده» ضد «حكومة «حزب الله»». الخلف كان ينتظر على الكوع. فبعد ايام قليلة ولد البيان الوزاري لحكومة ميقاتي متضمنا التزاما واضحا «بالقرارات الدولية ومتابعة مسار المحكمة الخاصة بلبنان». وقرن الخصم السني القول بالفعل بخوضه معركة رابحة ضد حلفائه ادت الى تأمين لبنان حصته من التمويل لسنتي 2010 و2011.

شهور تمرّ من الوقت الضائع و«مشاريع انتصارات» مع وقف التنفيذ. منذ البداية بدا ان الحريري يفتقر الى اوراق ثمينة بيده. امر المهمة من السعودية صدر بالتصويب على «حزب الله» وميقاتي وفتح جبهة المواجهة مع النظام السوري، لكن لا غنائم في اليد. بيانات اسبوعية لـ«تيار المستقبل»، تتنقل بين قريطم ووادي ابو جميل و«السادات تاور»، تلعب بخفة على وتر الشحن المذهبي. شخصيات آذارية تغط في باريس او الرياض او موناكو ثم تعود ادراجها الى بيروت من دون خطة عمل تقوّي عود المعارضة المشتّتة بين بكفيا ومعراب وقريطم والاشرفية. عبارات الثناء الدولي بحق الرئيس ميقاتي، آخرها من جيفري فيلتمان ومنتظرة قريبا من الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي، باتت الخبز اليومي لرئيس الحكومة المنفي قسريا… كآبة الحريري مبرّرة. حتى زيارته الاخيرة الى انقرة لم تحصّنه بالخبر اليقين. الاتراك غاضبون جدا من بشار الاسد، كذلك الاميركيون والاوروبيون والسعوديون، لكن نجل الشهيد قد ينتظر اشهرا طويلة قبل ان يشهد على المنطقة العازلة ويرى طائرات «الناتو» تحلّق فوق دمشق… وقد لا يتحقّق الحلم ابدا.

الأخبار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى