صفحات العالم

خطاب الأسد: التأريخ، التهكّم، الاعتراف، العَرض


جهاد الزين

في الاسطر اللاحقة قراءة نصية لخطاب الرئيس بشار الاسد تحاول “تفكيكه” و”تركيبه” حول خمس نقاط سياسية ثقافية.

تَضَمّن خطاب الرئيس السوري بشار الاسد في جامعة دمشق يوم الثلثاء المنصرم ملاحظتين تأريخيتين، فكرة تهكمية، اعترافا، عَرضا حساسا، ومعلومة جديدة.

1 – الملاحظتان التأريخيتان:

اشار الاسد الى حدثين كبيرين ينتميان الى الوجه الليبرالي من تاريخ المنطقة. الاول ليس سورياً حصرياً وانما كانت النخبة السياسية في ولايات بلاد الشام جزءا اساسيا وفاعلا منه، كالنخبة في ولايات بلاد الرافدين، باعتبارها كانت جميعا تابعة للامبراطورية العثمانية. انه حدث قيام اول برلمان منتخب عام 1877 بعد سريان الاصلاحات العثمانية ولاسيما اقرار الدستور عام 1876. البرلمان الذي سيحله سريعا السلطان عبد الحميد عام 1878 وسيبعد عشرة من اعضائه الفاعلين خارج اسطنبول نصفهم من الولايات السورية. وحسب المؤرخ التركي حسن كايالي في كتابه “العرب وتركيا الفتاة”  كان نواب حلب وبيروت والقدس مشاركين نشطين في المناقشات الآيلة الى محاسبة الحكومة. ومن المعروف ان حقبة تعليق الدستور ستستمر حتى اقصاء السلطان عبد الحميد عام 1908 في الانقلاب العسكري الذي حمل لاحقا اسم الثورة الدستورية والذي كانت قد سبقته الحركة “المشروطية” (الدستورية) في ايران عام 1905. اما الحدث الثاني الذي يشير الرئيس السوري اليه فهو”المؤتمر السوري” الذي أَعلن في دمشق ولادةَ المملكة السورية بقيادة الملك فيصل عام 1919 والذي انتهى في العام التالي مع قضاء فرنسا الكلي على هذه المملكة. وهو فعلا اول برلمان سوري بالكامل (سوريا الكبرى).

هاتان الملاحظتان اللتان وردتا في خطاب الرئيس الاسد جاءتا في السياق الهجومي الاساسي للخطاب و كانتا موجهتين ضد دول الخليج او معظمها لأن بشار الأسد اراد القول لمخاصميه العرب الخليجيين ان سوريا صاحبة تاريخ برلماني عريق فيما هم لا تراث من هذا النوع لديهم.

لقد كان من الافضل ان تتحول هاتان الملاحظتان في الخطاب الى تأكيد على برنامج التزام سوريا المستقبل باعادة إحياء هذا الإرث. فالمعضلة ان استخدامهما جاء مقطوعا عن مناخ ثقافة ليبرالية غائبة في نص الخطاب بما جعل الملاحظتين تبدوان مجرد سلاح “تعييري” في السجال مع اخصام اصدقاء سابقين تحولوا الى أعداء. ومع ان الاسد تعهد في مكان لاحق في خطابه بـ “دستور” لـ “سوريا تعددية حزبية وسياسية” الا ان بنية الخطاب القومية الراديكالية تجعل الاشارتين “برانيتين” اذا جاز التعبير. وكان يمكن  اضافة ملاحظة ثالثة افتقدها شريط الرئيس الاسد الاستذكاري هي المتعلقة بالارث البرلماني لمرحلة النضال من اجل الاستقلال في عهد الانتداب الفرنسي كما الارث نفسه لدولة الاستقلال حتى تعليق الديموقراطية البرلمانية “نهائيا” منذ العام 1958 (مع استثناء رخو وغير جدي بين 1961 واوائل 1963)

2 – الفكرة التهكمية:

قال الاسد: “لا نستغرب ان يأتي يوم تربط الدول سياساتها بسياسات دول خارجية على طريقة ربط العملة بسلات عملات خارجية. عندها يصبح الاستغناء عن السيادة أمرا سياديا”.

الصياغة ناجحة: سلة سيادات – سلة عملات. اللاسيادة قرار سيادي.

… يا سيادة الرئيس هذا هو العصر… والتحاجج هنا قد ينقلب عليكم في بعض الامثلة. فالسيادة كما تعرف أكثر منا جميعا في موقعك الرئاسي مفهوم نظري نسبي في القانون الدولي اكثر من كونها مفهوما عمليا مطلقا… وانتم على رأس تجربة دولتية ليست خارج هذه المعادلة “اللاسيادية” لمفهوم السيادة حتى لو كانت الايديولوجيا التي تُعبّر عنها قوميةً سياديةً جدا لكنها ايضا افتراضية جدا: سيادة “أمة” من المحيط الى الخليج ام سيادة سوريا من القامشلي الى القنيطرة؟ أمة كيف نميّز الافتراضي السياسي عن الواقعي الثقافي في “تكوينها”؟

كان الرئيس السوري، وهو يرد على النجاح الخليجي الفتّاك في الجامعة العربية لتعليق عضوية سوريا، يمد سِكّته الهجومية الدفاعية الى هذه “الارض” الملتبسة مبتكرا اداته التهكمية بوجهيها السياسي المالي.

3 – الاعتراف:

قال بشار الاسد: “نحن لا نريد معارضة تجلس معنا وتبتزنا تحت عنوان الازمة لتحقق مطالب شخصية. ولا نريد معارضة تحاورنا في السر كي لا تغضب احدا ويقولون لنا نحاوركم في السر”.

هذا كلام يرقى الى مستوى الاعتراف. فليس بسيطا ان يكشف الرئيس بشار الاسد ان حجم الضغط على نظامه داخليا وخارجيا جعل البعض من المعارضة – وقد يكونون مجرد افراد عُزّل وربما كانوا من السجناء السياسيين قبل فترة الانفجار – يشترطون عدم علانية الحوار مع النظام! مفارقة كبيرة. كأنما الرئيس، بل هو فعلا، يكشف سرا: حجم شعور “الآخرين” بعزلة النظام خلال هذا الانفجار الشعبي الامني، حتى لو كان الاسد يريد القول ان هذا الشعور مبني على وضع “افتراضي”. لكن الكلام- الاعتراف يعكس بعدا بسيكولوجيا سياسيا بين أجواء المعارضة “العلمانية” نجح الضغط السياسي الثقافوي المضاد للنظام في الخارج  في احداثه: هل هو “الارهاب” الثقافوي التعبوي ضد ارهاب النظام الامني العريق؟ وهل هذا ما شَقّ “المعارضتين” فنجح خط عدم الحوار مؤقتا؟ وهل يعود خط الحوار ليفرض نفسه اذا طالت الازمة وبدا تماسك النظم مديدا؟ وهو بُعدٌ لم يغب عن مقدمات الاعتراف الرئاسي.

4 – العَرض الحساس:

رغم النبرة القتالية في الخطاب بل الهجومية في بعض – وليس كل – الدوائر يمرر الرئيس الاسد “عَرض” الحوار على “الاخوان المسلمين” بل رغم لهجته التجريمية لهم في ما يتعلق بأحداث السبعينات والثمانينات من القرن المنصرم. فيقول بالحرف: “قلنا انه لا توجد لدينا مشكلة في الحوار حتى مع هذه القوى (الاخوان) اذا ارادت ان تأتي الى سوريا ونحن نقدم كل الضمانات ولا يوجد لدينا اي قيود… نحن على استعداد للبدء به مباشرة”. هل ما زال هذا “العرض” يصلح كمدخل لتعديل تركي ما ام ان الباب السعودي المقفل يجعله بلا أفق “اخواني”؟

5 – المعلومة الجديدة:

يقول الاسد: “اذا أخذنا المعايير الوطنية والاشخاص او الشخصيات الوطنية، فإنها موجودة ونستطيع ان نبدأ مباشرة الآن بالعمل من اجل هذه الحكومة بعد ان فهمنا الموضوع، وليسموها ما شاؤوا: حكومة وحدة وطنية، انقساما…. سنبدأ بهذا الموضوع خلال فترة قصيرة جدا لكن يبقى سؤال مهم هل الحكومة سياسية ام تقنية؟”.

اذن حكومة جديدة سنرى من سيكون فيها من “معارضة الداخل”. هذه اول مرة يعلن ذلك رسميا وعلى هذا المستوى. فكيف ستكون هذه المحاولة وبأي صيغة؟

… فالى خطاب جديد في ثورة – حرب أهلية – مواجهة اقليمية دولية… طويلة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى