صفحات المستقبلمحمد دحنون

خطاب الضحيّة السوري/ محمد دحنون

ثابر السوريون المنتفضون على تشكيل وصياغة والتحدّث بـ”خطاب الضحيّة”، كخطاب شبه وحيد، يتجهون به نحو العالم لطرح قضيتهم. آل هذا إلى نتيجة لم تساهم جديّاً في تحقيق أهداف الثورة وهدفها الأوّل المتمّثل في إسقاط نظام بشار الأسد.

لم تدفع صرخات الاستغاثة (نحن نموت، نحن نقتل، نحن نذبح) إلى تشكيل موقف سياسي دولي ضاغط بصورة جديّة على النظام بما يدفعه للتفكير في إيقاف مجزرته المستمرة منذ أكثر من ألف يوم.

وعلى الرغم من حيازة “خطاب الضحيّة”، طاقة استثماريّة هائلة، تجد في الاستثناء الإسرائيلي تجسيدها العملي، إلاّ أن السوريين عجزوا، سياسيّاً وإعلاميّاً، عن تفعيل الحد الأدنى من طاقة الخطاب تلك. وفي حال تمركز التساؤل عن سبب هذا الإخفاق، حول سوريا الثائرة وحسب، فإن هذا سيغفل جانباً كبيراً من الصوّرة التي لا تتشكّل، بطبيعة الحال، من خطاب هذه الـ”سوريا” فقط.

يُرجّح أن مثابرة السوريين على استعمال خطاب الضحيّة جاء، أوّلاً، لأسباب ذاتية يمكن وصفها بالثانويّة، تتعلق أوّلاً بانعدام أطر وقيادات سياسيّة وإعلاميّة. وهي ثانويّة لأنّ الموضوعيّة التي تنطوي على بُعد أخلاقي لا يمكن أن تعزو فشل الضحيّة في إنقاذ نفسها إلى كونها بكماء أو لا يمكنها التحدّث بـ”لغة” الآخرين.

أما عن الأسباب الرئيسيّة فتتعلّق بما يمكن تسميته الجذر الماهوي المشترك لعموم “الخطابات” الأخرى التي جابهت، بصورة مباشرة غالباً وغير مباشرة أحياناً، خطاب الثوّرة ليتقلّص هذا إلى خطاب أحادي، خطاب الضحيّة. ويُرجّح أنّ هذه المجابهة قد حُسمت بصورة نسبيّة لغير صالح الثوّرة التي يعكس واقعها اليوم مدى بُعدها عن تحقيق تطلعاتها الأولى. من دون أن يعني هذا أن الثوّرة التي هي، في المقام الأوّل، صراع اجتماعي مفتوح لا ينفك يستعر ويتمدد، قد انتهت.

تراكبت مجمل “الخطابات” التي جابهت الثوّرة أو ادّعت الوقوف إلى جانبها في بنيّة واحدة تمحورت بصورة أساسيّة حول مسألة “الإرهاب”. لا يتخذ الخطاب المُوظّف للتعبير عن هذه المسألة شكلاً واحداً إلا في حالة مجابهته للعدميّة الإرهابية الصرفة والصريحة والمتجسدة في نشاط تنظيم القاعدة وتوابعه.

قبل ذلك، كان النظام السوري قد سوّق خطابه ضد متظاهريين سلميين مدنيين منذ مطلع الثوّرة بناء على أكذوبة “السلفيين التكفيريين”، الأمر الذي يعني، وفق عالم ما بعد 11 أيلول، مشروعية ومبرراً لقتل هؤلاء “المتظاهرين” على خلفيّة “سلفيتهم” المزعومة!

قد يُفسّر هذا جانباً كبيراً من الموقف الدولي الذي أحجم بـ”عناد” مشهود عن إنقاذ مجتمع الثوّرة السوري من الإبادة. إذ، ومنذ البداية، توّحد الخطاب الغربي والإقليمي والمحلي، على كلمة السر تلك، “الإرهاب”، ليغلق في وجه السوريين الأبواب التي شرع هؤلاء في تحطيمها من جهة وليشرّع، من جهة أخرى، الباب الذي ستأتي منه كل المخاوف المزيّفة إلى حد كبير مجسّدة في تنظيمات عدميّة.

بالطبع، كانت مستويات الخطاب غير متطابقة في البداية بمعنى أن التخويف من الإرهاب، والإرهاب “القاعدي” حصراً، لم يكن الخطاب المعلن والمشترك لجميع الأطراف التي ناهضت الثوّرة وتطلعاتها. بل تجلى ذلك في أشكال ومستويات مختلفة: مارس الغرب “هوايته” التاريخية، حين مقاربته لقضايا المنطقة، إذ احتكر خطاب “حماية الأقليات”. يضمر الخطاب تصويراً للغالبيّة المسلمة السنيّة باعتبارها غولاً سينقض على الأقليات حال انتهائه من إسقاط بشار الأسد. هذا فضلاً عن المواقف التي لا تنفك تشدّد على أمن اسرائيل “الغربيّة” وهو خطاب يضمر، من جهته، تخوّفاً من وصول الإسلاميين إلى السلطة. وعلى هذا، يبدو الغرب وكأنّه يمأسس سياسته على نظرة ماهويّة للعالم، تجد في الإسلام، ديناً ومتدّينين، خطراً، أو الخطر (بحروف كبيرة).

هل يصدر ما سبق ذكره، هو نفسه، عن نظرة ماهويّة للعالم لا يبتعد، مثلاً، عن تصوّر تنظيم “القاعدة” له؟ لا يصدر هذا التصوّر عن مثل هذه النظرة. بل هي محاولة لإدراك الخيط الناظم الأيديولوجي لمصالح المنظومة العالميّة المهيمنة وأنظمتها التابعة، والتي أهّلت بشار الأسد، مجرم الحرب السوري، وأعادته مجدداً إلى حظيرتها.

أمام هذه الخطابات، التي تغدو في التحليل الأخير، خطاباً واحداً وأحاديّاً لن تجد الثوّرة السوريّة أو غيرها طريقاً آخر لصوغ خطاب آخر. إذ، طالما لم يتحقق الرضى كغاية للعدل، لن تجد الضحيّة البكماء، سياسيّاً وإعلاميّاً، سوى خطاب الضحيّة ليكون الخطاب الأشدّ قدرة على التعبير عنها بصفتها الضحيّة التي لا يرضى جلّادها/ جلادوها حتى بموتها.. على ما بدا حتى اليوم.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى