صفحات العالم

خطاب الممانعة: البوصلة التائهة والعقل المستقيل

موسى برهومة *

لم يحدث أن شقّت قضيةٌ الأفرادَ والجماعات والدول على نحو عمودي كما فعلت وتفعل الثورة السورية.

لقد أضحت الثورة ميداناً فسيحاً للاستقطاب، ومن ثمَّ للفرز والتصنيف: هذا في خانة الوطنية، وذاك في صف العمالة. وليس ثمة منطقة رمادية للحياد أو التحفظ أو البين بين. أنت مع النظام وشبيحته، أو مع الثورة ونداء الحرية والحق والعدالة، وليس ثمة طريق ثالث.

وحدَها، الثورة السورية من بين «ثورات الربيع العربي» التي أخذت هذا المنحى، ووحدها بعد أكثر من مئة ألف «شهيد» التي تثير علامات لدى قطاع لا بأس في عدده وعلوّ صوته بأن «المعركة» هدفها تصفية نظام «المقاومة والممانعة» وإنهاك سورية، وإضعاف إيران، كمقدمة لفرض «الحلول الاستسلامية»، وتصفية حزب الله، وإفساح المجال أمام «التمدد الصهيوني» والشرق الأوسط الجديد.

هذا الخطاب الممانع، الذي يلتئم في متنه يساريون أصوليون، وبعثيون وقومجيون، وسلالة كانت على وشك الانقراض، قبل الثورة، من تيارات فلسطينية، وجد ضالته في الغارات الإسرائيلية الأخيرة على مخازن ذخيرة وقوات من جيش الأسد، فلقد مدّت الغارات هذا الخطاب بذخيرة لفظية تطيل أمد الإنكار لديه، وتسعفه في تبرير ما لا يبرر أو يسوّغ أن يتقبله عقل إنسان سويّ. ولعل هذا الانقسام العمودي المشار إلى تمظهراته، يعكس «نجاحاً» في قدرة النظام السوري عبر أكثر من أربعين عاماً في «غسل» الدماغ العربي، وتخديره بخطاب استقطابي محوره مقاومة إسرائيل، وممانعة الحلول الإمبريالية، على رغم أن طلقة سورية واحدة لم توجّه من فوهة هذا النظام المرتدي على الدوام لبوس الحرب، إلى إسرائيل، بما يؤشر إلى بؤس ذلك «الدماغ» وهراء مقولاته.

حقاً، إن عقلاً ما انفكّ يهلل لنظام متوحش، حتى قبل الثورة، هو عقل لا يعوّل عليه في إحداث نهضة، أو استشراف مستقبل. فنظام أفنى مقدرات الشعب السوري، وزجّ بأبنائه وخيرة مثقفيه ونخبه وطلائعه في السجون، وقتل روح المقاومة الفلسطينية ودجّنها، وأجهز على قلب لبنان، واختطف قراره، ونكّل بقادته وقتلهم واختطفهم، وارتكب من الجرائم ما يندّ عن الحصر والتصوّر، هو نظام لا يستحق أن يقتتل الفرقاء السياسيون من أجله، ويختلف الرفاق والأصدقاء في وصف حالته الجهنمية، قبل الثورة، وعلى نحو لا يقبل القسمة على اثنين، بعد الثورة، وأنهار الدم التي تسيل في سورية بيد «حماة الديار» وأنصارهم ومشايعيهم من عرب وعجم!

الذريعة التي يستمسك بها شبيحة الأسد، من مثقفين وفنانين ومناضلين متقاعدين، أن من يقف مع الثورة فإنه «بالضرورة الحتمية» يقف مع إسرائيل وأميركا والناتو وقطر وتركيا وحماس والقرضاوي والنصرة والجيش الحر، إلى آخر القائمة. إن لهؤلاء الشبيحة عقلاً دوغمائياً، ليس من طبائعه التحليل والفحص وإعمال النقد وتشريح الأفكار والمقولات، لأن بمقدور الإنسان أن يؤيد الثورة السورية ويدافع عن حق البشر في الكرامة، ويستنكر رد النظام الوحشي عليهم بقتلهم بصواريخ سكود، من دون أن ينتسب إلى تلك القافلة المذكورة، فضلاً عن أن تأييد أي طرف، أياً يكن، للثورة السورية لا يؤثر في نقائها وصفائها ونبل أهدافها وغاياتها.

وإن كان من «فضل» للثورة السورية، فإنه إماطة اللثام عن هذه الفئة التي تغمض العين عن أجساد الأطفال المتفحمة، والعيون المفقوءة، والبطون المبقورة، والبيوت المسوّاة بالأرض، لمصلحة حفنة من المقولات المتهافتة التي تفتقر إلى الحس الإنساني، وتتقافز في الحلوق، وعلى المنابر، وفي الصحائف، كأراجوزات من فرط بؤسها لا يملك المرء إلا أن يقهقه عندما يراها، وفي مشتهاه أن يتقيأ لفرط فساد تلك المقولات، وانتهاء صلاحيتها للتداول!

وأخطر ما في هذه الغلواء الفاحشة أن أنصار هذه المقولات، بما أنهم من متحجري العقول، ذوو ألسنة سليطة، وجعجعة لا طحن فيها، ولا يضيرهم أن يحاججوا ويناكفوا ويشتموا ويبخّسوا آراء المخالفين، ويدمغوهم بالعمالة وبالولاءات العابرة للنفط، والتكسب من قوى الإمبريالية. إنهم يتهمون وحسب، ولا يهمّهم إن كانوا يجانبون الصواب، أو يفتئتون. ألم نقل إنهم مغسولو العقول وفاقدو القدرة على التحليل والتفكير المنطقي الخلاق؟

وعلى الضفة الأخرى من المشهد، يلتزم مؤيدو الإنسان في الثورة السورية بالصمت، لأنهم بطبيعتهم يحترمون عقولهم، وينأون عن المهاترات وحفلات السّباب، وتشويه الحقائق، لذا فإن الناظر من بعيد إلى المشهد، يعتقد أن شبيحة الفريق الأول يسجلون الهدف تلو الآخر، لكنها أهداف في مرمى الظلام وشريعته الغاشمة، وروحه المسربلة بالدم!

* كاتب وصحافي أردني

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى