صفحات الناس

خطاب “تحرير الشام” يكشف أزمتها الوجودية/ عقيل حسين

 

 

إذا كانت عملية “غصن الزيتون” التي أطلقتها تركيا أخيراً ضد قوات “حزب الاتحاد الديموقراطي الكردستاني” شمالي حلب، تعتبر فرصة لـ”الجيش الحر” من أجل العودة للواجهة بقوة، باعتباره الشريك الرئيسي لأنقرة في هذه العملية، فإن البعض يرى أن هذه الفرصة تعزز عودة الجيش الحر الذي أدت الانتصارات الأخيرة للنظام في ريفي إدلب وحماة، وكذلك في جنوب حلب، إلى ظهور الفراغ الكبير الذي خلفه غيابه أو إضعافه، وتحميل المسؤولية عن ذلك بشكل مطلق لـ”هيئة تحرير الشام”.

وقد واجهت “الهيئة” بالفعل سخطاً شعبياً وإعلامياً كبيراً نتيجة لذلك، باعتبارها الجهة التي فككت أو قوضت عدداً كبيراً من فصائل المعارضة، ما دفع قيادتها إلى إطلاق حملة إعلامية على أعلى المستويات، بهدف الحد من التدهور الكبير في أسهمها. إلى درجة جعلت الكثيرين يرون في الخطاب الأخير لزعيم “الهيئة” أبو محمد الجولاني، وقادة آخرين فيها أطلقوا تصريحات متزامنة ومتشابهة مؤخراً، مؤشراً على بداية نهاية “الهيئة”، على الأقل بشكلها ووضعها الحالي.

وبغض النظر عن دقة هذه التحليلات أو مبالغتها، إلا أن الواقع الذي أفرزته الأشهر الثلاثة الأخيرة، وضع “هيئة تحرير الشام” في موقف معقد جداً، بعد عام مريح توفر لها عقب هزيمتها مجموعة جديدة من فصائل المعارضة في الشمال، وأبرزها “حركة أحرار الشام الإسلامية”، إلى جانب فرض نفسها كطرف سياسي لم يكن بالامكان تجاوزه من قبل الدول الإقليمية، أقله في ما يتعلق بمحافظة إدلب التي تهيمن عليها “تحرير الشام”.

لكن ما لا يقل عن مئة مليون دولار جنتها “الهيئة” من اتفاقية “المدن الأربعة” التي قضت بترحيل المعارضين للنظام من مضايا والزبداني في ريف دمشق، مقابل هدنة كفريا والفوعة في ريف إدلب، وكذلك أطنان من الأسلحة والذخائر سيطرت عليها “تحرير الشام” بعد مهاجمتها الفصائل الأخرى في إدلب وريفي حلب وحماة، على مدار العام 2017، وأيضاً انضمام عدد غير قليل من المقاتلين إليها نتيجة لهذه التطورات، كل ذلك لم ينفع “الهيئة”. فهي تخوض بمفردها غمار مواجهات عسكرية وتنظيمية وسياسية خطرة، أدت في النهاية إلى نتائج سلبية كبيرة كما هو واضح اليوم، وهذه النتائج دفعت قيادة “تحرير الشام” إلى إصدار رسائل إعلامية متزامنة، بهدف السيطرة على الكارثة التي أصبح من الصعب تدبرها.

وإذا كانت الرسالة المطولة التي وجهها المسؤول الشرعي في “هيئة تحرير الشام” عبدالرحيم عطون إلى “المجلس الإسلامي السوري” مباشرة وواضحة الأهداف، فإن رسائل كثيرة ومختلفة، ضمنية وغير مباشرة، أراد زعيم “الهيئة” أبو محمد الجولاني إيصالها لأطراف متعددة في كلمته الأخيرة.

لا شك أن على رأس هذه الأطراف وفي مقدمتها، تأتي كوادر “هيئة تحرير الشام” ومقاتليها، الذين أطنب الجولاني في مدحهم والثناء على ما قدموه من بطولات وتضحيات خلال الأيام المائة الأخيرة، وذلك في إطار تحفيزهم على الاستمرار في الولاء للتنظيم، بعد موجة الانشقاقات الكبيرة التي عصفت بـ”الهيئة” منذ ثلاثة أشهر، على خلفية اتفاق نشر القوات التركية في محافظة إدلب، والخلاف مع قيادة تنظيم “القاعدة”، واعتقال “الهيئة” لقادة التيار المطالب بعودة “القاعدة” أو العودة لها.

المئات من الأفراد والمقاتلين، بينهم سوريون، لكن أغلبهم من المهاجرين، بمن فيهم عشرات القادة العسكريين من مختلف المستويات، بالإضافة إلى تشكيلات بأكملها، أعلنت الانشقاق عن “هيئة تحرير الشام” خلال الفترة المنصرمة، وخاصة بعد بث آخر الكلمات الصوتية لزعيم تنظيم “القاعدة” أيمن الظواهري، والتي هاجم فيها بشدة الجولاني وفريقه في قيادة “تحرير الشام”. وتزامن بث هذه الكلمة مع الإعلان عن اعتقال “الهيئة” قادة الفريق المؤيد للعودة إلى حضن “القاعدة”، نهاية تشرين الثاني/نوفمبر 2017، الأمر الذي يفسر سبب تكرار الجولاني ذكر “المهاجرين” في كلمته، إن كان على سبيل الثناء أو على سبيل التطمين.

أبرز هذه التشكيلات المنشقة كان “جيش الملاحم” وقطاعات واسعة من “جيش النخبة” و”جيش البادية” التي ركز إعلام تنظيم “القاعدة” خلال الأيام الأخيرة الماضية الأضواء على مشاركتها بشكل مستقل عن “تحرير الشام” في مواجهة حملة قوات النظام على ريف إدلب، من دون أن يعلن تبعيتها لـ”التنظيم” رسمياً. إلا أن ذلك لم يمنع ظهور الارتياح والتفاؤل لدى هذا فريق “القاعدة”، الذي بات اليوم يمتلك قوة عسكرية ووجوداً معتبراً، بعد عام ونصف العام من الانكفاء والمعاناة بسبب تضييق فريق الجولاني عليه، ونجاحه بعزله طيلة تلك الفترة.

وبالقدر الذي شعر فيه تيار “القاعدة” بالارتياح نتيجة هذه التطورات، بالقدر الذي شعر فيه فريق “الهيئة” بالخطر، خاصة أن كل ذلك تزامن مع انكسارات عسكرية على الأرض. وبالتالي فإن المساحة التي لعبت فيها “تحرير الشام” بمفردها طيلة عام ونصف العام باعتبار الممثل غير المعلن لكن الوحيد لـ”القاعدة” في سوريا، وما يعنيه لها ذلك من معان مهمة، أصبحت مهددة جداً مع نجاح فريق “القاعدة” بنزع شرعية هذه التمثيل لصالحهم.

لذلك، كان من الطبيعي أيضاً أن يخصص أبو محمد الجولاني الجزء الأكبر من كلمته للمنشقين عن “هيئة تحرير الشام” أو المترددين بسبب الموقف من “القاعدة”. ولهؤلاء، استفاض الجولاني في توجيه الرسائل غير المباشرة والدعوات المبطنة من أجل العودة إلى “الهيئة” والتمسك بها. وهو ما بدا واضحاً، إن كان من ناحية تكرار كلمات ومصطلحات تيار السلفية الجهادية، أو التأكيد على الالتزام بأهداف تنظيم “القاعدة” العامة؛ تطبيق الشريعة، وتحرير الأقصى..أو حتى في السياق العام للكلمة، الذي أوحى طيلة ثمانية عشر دقيقة، بأن الجولاني إنما أراد ان يقول باختصار إن من مصلحة الجميع البقاء مع “هيئة تحرير الشام” والحفاظ عليها، وهو مؤشر مهم لإدراك مدى الأزمة التي تشعر بها قيادة “الهيئة” بالفعل.

وإذا كانت الرسائل التي وجهها الجولاني في كلمته إلى الحاضنة الشعبية للثورة، خاصة النازحين والمهجرين منهم، تعتبر تحصيل حاصل في النهاية، إلا أن الدعوة إلى المصالحة مع الفصائل الأخرى، ورغم أنها ليست الأولى من نوعها وأنها لم تكن من دون تهجم وانتقادات قاسية وخطيرة، إلا أن الدعوة وفي الوقت ذاته، كانت تفيض بمظاهر التسامح والاستعداد لتقديم التنازلات. وهو الأمر الذي لم يسبق أن أظهرته “هيئة تحرير الشام” تجاه بقية الفصائل من قبل، أو على الأقل لم يسبق أن صدر مثله عن الجولاني شخصياً. والشيء ذاته ينطبق على الرسالة التي وجهها لـ”المجلس الإسلامي السوري” الشرعي العام لـ”هيئة تحرير الشام” عبد الرحيم عطون، الذي استعاد في الرسالة لهجة “الهيئة” تجاه “المجلس” أيام ما قبل انسحاب حركة “الزنكي” و”جيش الأحرار” منها.

المسؤول الشرعي لـ”تحرير الشام” وفي رسالة مطولة نشرها على قناته في موقع تليغرام، حمل بشدة على “المجلس الإسلامي”، ووجه له انتقادات لاذعة في الجزء الأول من رسالته، بسبب مواقف “المجلس” من “الهيئة”، التي صعدها بعد التطورات الميدانية الأخيرة في أرياف إدلب وحماة وحلب. لكنه، أي عطون، ضمّن القسم الثاني من الرسالة دعوات ودية جديدة للمؤسسة التي تضم نحو خمسة آلاف عالم دين سني من مختلف المدارس والتيارات الإسلامية في سوريا، والتي على ما تعانيه من مشاكل حدت من فاعليتها، إلا أن “تحرير الشام” تدرك بلا شك، أن أي تغيير في موقف “المجلس” تجاهها، يعتبر أمراً في غاية الأهمية اليوم.

لكن إلى أي حد يمكن لدعوات قيادة “هيئة تحرير الشام” أن تلاقي قبولاً لدى فصائل ومؤسسات الثورة، بعد كل التجارب المؤلمة بين الطرفين، منذ ما قبل انفصال “الهيئة” عن تنظيم “القاعدة” عام 2016. إذا كان المنشقون عنها، وهم التيار المؤيد للعودة إلى “القاعدة”، الذين ليس بينهم وبين قيادة “تحرير الشام” سوى خلافات حديثة وبسيطة، بالمقارنة بما بينها وبين قوى الثورة والمعارضة الوطنية والإسلامية، يشككون بكل مبادرة أو أي تصريح صادر عن قيادة “الهيئة” ويقولون إنها قد فقدت مصداقيتها.

سؤال يمكن اجمال كل الإجابات عليه، ومن مختلف الأطراف، بتعليق القيادي السابق في “جبهة النصرة” والمنشق عنها منذ أكثر من أربع سنوات، السعودي ماجد الراشد “أبو سياف”، الذي رأى في كلمة أبي محمد الجولاني أنها تمثل “رسالة كبر واستعلاء على الفصائل التي وصفها بالخائنة أو العميلة، ومع ذلك قال بأنه جاهز للتعامل معها”. وعن السؤال أجاب الراشد بالقول: “أود حقيقة أن أصدق الجولاني، ولكني لست بالخب ولا الخب يخدعني.. فإن أُرجعت المقرات والأموال والأسلحة المنهوبة، ولن ترجع، فمن يعيد الأرواح التي أزهقت؟”، مختتماً بالقول: “لن نغفر ولن نسامح كل من شارك ولو بشطر كلمة..”، وهو موقف طبع تعليقات كل خصوم “هيئة تحرير الشام” على كلمة الجولاني ورسالة عطون.

ما بين التهجم على الخصوم والتودد لهم، وما بين السعي لاستمالة مختلف الأطراف وعدم القدرة على اقناع أي منها، بسبب عامل المصداقية، وبعدما بلغت الخلافات نقطة اللاعودة ربما، حتى بين “الهيئة” ومن كان بالأمس القريب جزء منها، وعلى الرغم من أن “تحرير الشام” لا زالت تمتلك الكثير من نقاط القوة وتتحكم بملفات أهمها الملف الأمني الذي قد يجعلها أو يجعل من الحفاظ عليها والتعامل معها ضرورة لبقية الفصائل، بل وحتى للدول الإقليمية، إلا أن الكثيرين يرون أن “هيئة تحرير الشام” هي اليوم في أضعف حالاتها، وأن تفككها وخروجها من المشهد كإحدى أبرز القوى هو مسألة وقت لا أكثر. بينما يرى البعض أن الجولاني وفريقه واجهوا من قبل أزمات وجودية أخطر، لكنهم نجحوا في تجاوزها، وهم قادرون مجدداً على إيجاد حلول لهذه الأزمة.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى