صفحات مميزةغازي دحمان

خطاب جديد للثورة: أبعد من السردية الشعرية والبكائية: غازي دحمان

 

دمشق ـ غازي دحمان

تكمن إحدى إشكاليات الثورة السورية واستعصاءاتها الراهنة، في صيغة خطابها السياسي والإعلامي، الموجّه للداخل السوري وللعالم الخارجي، والذي، من المفترض أن يعبّر عن واقع قوى الثورة وطبيعة رؤيتها وتصوراتها لبناء الدولة ومتطلباتها، سواء ما خص الشأن الداخلي لـ”السلطة” بوصفها عملية ضبط للصراع الإجتماعي، أو في ما خص الشأن الخارجي، وعلاقاتها الإقليمية والدولية.

إن جذور المشكلة تكمن في حالة البساطة السياسية السورية وما أفرزته من قلة خبرة ومراس سياسي، انعكس بشكل واضح في العملية السياسية عموماً، وفي المستويات الحركية والأيديولوجية، فضلاً عن مستوى الخطابين السياسي والإعلامي للحراك الثوري، الذي تولى صياغتهما كتّاب ونشطاء سياسيون جاؤوا من حقول الثقافة والأدب والفن، وعملوا على ترحيل أدواتهم ومقارباتهم للتعبير عن حالة الحراك، فظهر هذا الخطاب بشكل رومانسي ومثالي خالٍ من الصنعة السياسية والتقنيات المهنية الإعلامية.

وللإنصاف، فإن هذا الخطاب، ورغم نقاط ضعفه تلك، استطاع، قدر إمكانياته، التعبير عن ثورة عاطفية ومباغتة، وخارجة عن طبيعة السياق السوري الساكن لعقود. إضافة الى ذلك، تصدى هذا الخطاب للقيام بوظائف ومهام كثيرة، على مواكبة الحدث الطارئ والمستجد في الوعي والسلوك السوري المعاصر. وهذه المهام تركزت في سعيه لتوطين الثورة في البيئة الاجتماعية السورية، ومحاولة “قومنتها” (من “قومية”) فضلاً عن وظيفتها في كشف بشاعة سلوك النظام الحاكم وشرعية الثورة. ونجح الخطاب الثوري في بعض هذه الوظائف وفشل في جزء منها.

إلا أن تطورات الثورة السورية وانتقالها من حال إلى آخر، بات يتطلب إعادة صوغ الخطابين الإعلامي والسياسي بمفرداتهما وآلياتهما وأنساقهما وحمولاتهما السياسية وأخيراً وظائفهما الأيديولوجية، بما يتناسب والمعطيات المستجدة في الواقعين السوري والدولي. فعلى سبيل المثال لم يعد مجدياً التركيز على مسألة التأليب على نظام الأسد والتأكيد على أحقية الشعب السوري في الثورة، إذ بعد عامين على الثورة فإن هذا النمط الخطابي قد جرى استهلاكه إلى أبعد الحدود وتحولت مقولاته إلى بديهيات، إضافة إلى فقدانها الفعالية المطلوبة لتأييد الثورة داخلياً وخارجياً، والأخطر من كل ما سبق، إمكانية تحولها إلى قوالب وصيغ نمطية غير مجدية، أو حتى ذات أثر سلبي.

فوق هذا وذاك، فإن هذا الخطاب بدأ يواجه تحديات عملية على الأرض، منها ما يتمظهر في سياسات الدول وطبيعة مقاربتها للثورة وللأوضاع السورية عموماً، ومنها ما تشهده الحالة السورية من انزياحات ذات طبائع متطرفة أو انفصالية. صحيح أن هذه التحولات هي نتاج ظروف ومتغيرات خاصة كمثل أن سياسات الدول تقررها مصالحها، وتحولات المجتمعات تحكمها وقائع بيئتها وأحوالها، لكنها بالمحصلة تقع في نطاق المجال التأثيري للخطاب، وتلامس مهمته في التأثير بالتوجهات والأدوار.

واستتباعاً لذلك، بات مطلوباً صناعة خطاب جديد يكون أكثر عملية وأقل عاطفية، وفي الشكل، فإن عليه أن يتخلى عن اللغة الوصفية، وصف الأحداث وعدها، لأنها استدعت نمطاً مقابلاً يقوم على توصيف سلوك المعارضة وتلقط أخطائها، ما أدى الى “مساواة” خادعة بين جرائم النظام وأخطاء المعارضة.

على الخطاب الجديد أيضاً أن يتخلى عن تلك الاستراتيجية التي ظلّت تنتج نمطاً شاعرياً وسردياً عن الثورة، وصل في نهايته إلى دائرة مقفلة، وصارت بموجبه الثورة السورية عبارة عن مرثية أولها يشبه آخرها، والانتقال بدلاً من ذلك إلى استراتيجية تطويرية أكثر ثراءً وقدرة على قراءة الواقع السوري، والتأثير به، والاستجابة لمتطلباته والتعبير عن هواجسه. وفي سبيل ذلك يتطلب صياغة الخطاب الجديد بطريقة أكثر مرونة وعمليه، بحيث يستطيع تقبل وهضم الرؤى والأفكار التي تقع خارج نسق الخطاب الثوري، أو تلك الأفكار ذات القراءات التي لا تنسجم مع نسق الحماس الثوري، ولكنها تحمل منطقاً معيناً.

ومن حيث المضمون، ثمة حاجة لخطاب لا يتنازل عن الثوابت ومنظومة القيم المؤسسة للحراك الثوري، ولكن في الوقت نفسه المطلوب هو خطاب يضيق دائرة الطرد من داخله، ويوسع هوامش تخومه، وأن يكون خطاباً لا انتصارياً يدفع “المهزومين” (نظرياً) إلى قلب الوقائع على الأرض، ولا بكائياً يغري “المنتصرين” (نظرياً) بالتشبث بمواقفهم والتطرف فيها. ويبتعد قدر الإمكان عن المنطق السجالي، الذي نجح خطاب النظام في استدخاله عنوة في خطاب الثورة، وفي إغراقه بمستنقع لا شواطئ له، ما أظهره كخطاب تبريري اعتذاري يستجدي الثقة والقبول.

وأخيراً على الخطاب الجديد أن ينتقل من خطاب ثورة يمجد جزءاً من الشعب ويدين جزءاً أخر، إلى خطاب الوطن المشترك للجميع، وينظر للمرحلة الحالية بقضها وقضيضها، باعتبارها مرحلة عابرة لن تدوم، وأن المقبل هو الأهم والأخطر.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى