صفحات الرأي

خطبــة هملــر


عباس بيضون

في آب 1941 قام الزعيم النازي هملر بزيارة إلى منسك المحتلة من قبل الألمان وهناك حضر إعدام مئة شخص غالبيتهم من اليهود. أثناء ذلك كان هملر بادي العصبية وكان يحوّل عينيه عن المشهد لكنه قام بتأنيب سرجنت وألزمه بتصفية شخصين، وبعد انتهاء حفل الإعدام عزم على مخاطبة الحاضرين.

«لاحظ ان الجنود مدعوون إلى إنجاز عمل مقزز فقد كان شاقاً عليه ان يرى ألمانا ينجزون مهمة مماثلة بغبطة وقلب فرح. لكن ليس عليهم ان يعانوا أي عذاب ضمير فهم جنود وعليهم ان يطيعوا بدون تحفظ كل ما يلقى عليهم من أوامر. هو (هملر) وحده يتحمل المسؤولية عما حدث أمام الله وأمام هتلر. لا بد ان سامعيه لاحظوا ان هذه الحرفة الدموية ترعبه وتهزه من الأعماق.

«ينبغي استئصال اليهود» «عبارة تتضمن قليلاً من الكلمات وتنطق بسرعة، أيها السادة، لكنها تستوجب ممن ينفذها ما هو أكثر قساوة وأكثر مشقة في العالم».

«ألحّ عليكم ان تصغوا فحسب إلى ما أقوله هنا وان لا تتكلموا به البتة أما السؤال التالي المطروح فهو «ماذا نفعل بالنساء والأطفال. لقد صممت ووجدت جوابا بديهيا. تقولون ان ليس لكم الحق في استئصالهم، إذا انتم قتلتم الكبار أو تركتوهم يقتلون فستتركون نسلهم يشب لينتقم من أطفالنا والمتحدرين منا. علينا ان نقرر إزالة هذا الشعب عن الأرض وذلك بالنسبة للعصية التي ستقوم بهذه المهمة سيكون العمل الأقسى الذي عرفته». هذه المقاطع من كتاب بالفرنسية بعنوان «آمن ودمر» لكريستيان انغراو والكتاب دراسة عن 80 مثقفاً ألمانيا انخرطوا في الحركة النازية وكانوا مسؤولين عن إبادة الملايين. لا اعرف ان هناك دكاترة وباحثين مسؤولون عن المجازر التي حصلت في البلاد العربية، فالسنوسي الليبي مثلاً المسؤول عن قتل حوالى ألفي سجين ليس من كبار المثقفين ولا نعرف له دراسة أو بحثا. لا نعرف مثقفين كانوا على رأس فرق إعدام أو مثقفين خططوا لإبادة شعب فالخطة التي أعدت في عراق صدام حسين لإبادة الشعب الكردي «ابابيل» لم يضعها فيما نعلم مثقفون أو مفكرون. مع ذلك فإننا لا نعرف أين ندرج صدام حسين أو معمر القذافي، فالأول روائي وشاعر والثاني قصّاص ومفكّر. لا تبتسموا فإن العلم العرقي الذي كان لمفكري النازية ليس أكثر علمية من هراء صدام حسين والقذافي، لم يكن هتلر مفكراً بقدر أكبر، مع ذلك استطاع ان يجتذب إلى النازية جيشاً من المفكرين والمثقفين. لم نجد مفكرين أو باحثين أو كتّاباً على رؤوس فروع المخابرات لكن الذين في هذه المواقع ليسوا أميين. ثم ان هناك عدداً منظوراً من المثقفين والباحثين والأدباء وراء صدام حسين ومعمر القذافي. إذا شئنا ان ننبش تراث المربد والمؤتمرات المنعقدة في ليبيا فإن المشاركين لم يكونوا قلّة. كانوا يذهبون أفواجاً، ومن كل البلدان العربية، ويوقّعون على عرائض وبيانات تتمدح بالزعيم، وبعضهم كان يركِّب جملاً شاهقة في مديح صدام أو القذافي، إذا نحن نبشنا التراث الأسود لهؤلاء فإننا سنجد ما يزري بالثقافة والفكر والمؤتمرات. لن نضع هؤلاء طبعاً في صف واحد مع مثقفي النازية الذين كانوا يأمرون بالقتل أو يقتلون بأيديهم. لكن مديح القتلة ليس هنة مغفورة والحال ان مديحا كهذا كان إلى أمد قصير من عاداتنا، كان أشبه بالتكسب الذي استمر مهنة الشعراء العرب جيلاً بعد جيل ولم يؤاخذ عليه كاتب إلى الآن. نبش الألمان تراث «ستاسي» وهو اسم مخابرات ألمانيا الشرقية وشهروا بأسماء المثقفين والكتّاب المتعاونين التي عثروا عليها، أما نحن فلم نحفل بعمل كهذا وصرنا نتصيد أسماء كهذه في مواسم الشائعات، ونلتقطها من أفواه رواة السوء، ففي قراراتنا لا ندين عملاً كهذا ولا نعتبره مثلبة لأحد. كان وراء صدام حسين والقذافي عدد وافر من المفوهين، والمثقفين المباعين، وهذا بحد ذاته عار ثقافتنا. وإذا شئنا ان نغسل ضمير الثقافة العربية وجب علينا ان نسمي وان ندين، وان لا نحمل عملا شائنا كهذا على التكسب المباح ولا على الاعتياش المقبول، فتبرير كهذا يزري بالثقافة كلها وبالمثقفين جميعاً.

غير اننا ابتعدنا قليلاً أو كثيراً عن منطوق فكرة هملر. هملر يضفي طابعاً تراجيديا على اعمال «الإبادة» التي، بحسبه، يضطرنا إليها التاريخ والأجيال المقبلة. هذا العمل بالنسبة لهملر تضحية ممن يقومون به فتلك «الحرفة الدموية» شاقة وصعبة، ومن ينجزونها يضحون في سبيل الواجب. بقي على هملر أن يدين المقتولين والمبادين فهم بحسبه الذين يضطرون الجنود إلى مثل هذا العمل المأسوي، كما بقي عليه أن يوصي المقتولين بالشكر والمغفرة لمن قتلوهم قياماً منهم بواجبهم.

لكن الخطابات السياسية في بلدان الثورات العربية لا تذهب إلى منحى آخر، من يقتلون، بحسب إذاعاتهم وبياناتهم، أبطال مأسويون، فهم يطلقون على الشعب الذي يخدعه ويضلله المرتزقة والعملاء والأوغاد. انهم يفعلون ما يفعلون لفك الطوق وربما السحر عن المخدوعين، يفعلونه بمنتهى الألم ومنتهى الشجاعة بطبيعة الحال. أنها تضحيتهم في سبيل الشعب والأمة والعروبة والمستقبل. في مصر مبارك قام الأمن والبلطجية بواجبهم دفاعاً عن الناس ضد مرتزقة لا نعرف من أين أتوا. وفي اليمن انهالت القذائف على «الأقلية المخدوعة» دفاعاً عن الثورة المهددة، وفي سوريا ينهال الرصاص دفاعاً عن «الممانعة والثورة والمدنيين»، انهم، بحسب البيانات، أبطال مأسويون، يقتلون تضحية منهم، ويجازفون بيومهم من أجل المستقبل، ويوسخون أيديهم بتلك الحرفة الدموية في سبيل الأجيال الآتية. بل هم يقومون بالعمل الأكثر مشقة والأكثر إيلاماً في العالم، من أجل لا أولادهم فحسب، بل أيضاً أولاد ضحاياهم، فالغد سيكون للجميع، وعلى المقتولين أن يشكروهم فقد رضوا بالعمل الصعب والكريه والمقزز من أجل أبنائهم هم، ومن أجل أن تبقى الديمقراطية والإصلاح والعروبة والثورة في مأمن.

بعد هذه الخطبة سنقول: صدق هملر.

السفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى