صفحات الناسهيفاء بيطار

خطوة وراء الواقع/ هيفاء بيطار

فجأة يتجسد أمامي ويحييني: إنه جول جمال يقف عند باب «مدرسة جول جمال» في اللاذقية التي تحولت إلى ثكنة عسكرية محاطة بمئات المجندين مع بنادقهم. إنه هو يمد يده لمصافحتي ويدعوني إلى دخول أعرق مدرسة في سوريا تحمل اسمه ـ «ثانوية جول جمال». أتأمله مذهولة وأهم بالكلام فيضحك وللتو تختفي الحواجز ويتحول المجندون إلى طلاب يضحكون وهم يلعبون كرة القدم في باحة المدرسة الفسيحة. أفرك عيني غير مصدقة وحين أهم بالكلام يقول لي: لا تصدقي خداع البصر، مدرستي ليست ثكنة عسكرية! انظري جيداً إنها المدرسة إياها التي درس فيها نخبة المفكرين وعلم فيها نخبة الأساتذة؟ يا إلهي، إنه مُحق، ما أسعدني، صارت خطواتي تتقافز فرحاً، وحين وصلت إلى ساحة «سينما أوغاريت» في اللاذقية التي ذرفت فيها الدموع مع جيلي ونحن نتابع الأفلام الهندية ونحلم بأن نحب شاباً يشبه شامي كابور، ونحضر حفلات جين مانسون وغيرها من المسرحيات والأفلام الرائعة، صُعقت إذ لم تعد «سينما أوغاريت» ثكنة عسكرية بل استعادت بهاءها ووجدت قاطع التذاكر يلوح لي بأن أحضر فيلم بيت الأرواح لأيلندي، فركت عيني جيداً يا إلهي أين اختفت حواجز ناطحات السحاب وكيف تحولت الساحة إلى بركة واسعة تترقرق فيها المياه منتشية بمداعبة أشعة الشمس لسطحها؟ وكيف تحولت البراميل إلى أشجار مُزهرة، والمجندون تحللوا من أحذيتهم الثقيلة ورموا بأنفسهم في البركة يضحكون ويتصايحون ليلحقهم المارة في الشارع وتنهمر فوق الجميع قذائف من أشهى أنواع الفاكهة: الدراق والإجاص والخوخ الخمري والعنب؟ يحدث مهرجان من الفرح الصرف النقي وأجدني أصفق كالأطفال وأضحك حتى الألم من شدة السعادة، وأرمي بنفسي في البركة فيما صوت قاطع التذاكر يوبخني، فهو اضطر لأن يبيع آخر بطاقة لفيلم «بيت الأرواح» الذي تعرضه أعرق سينما في اللاذقية: «سينما أوغاريت». كما كان مُحقاً جول جمال! لم يتغير شيء في اللاذقية، فأنا مُصابة بخداع بصري يصور لي الأماكن على غير حقيقتها. ألم تتحول «سينما أوغاريت» إلى ثكنة عسكرية والبعض يقول معتقل؟ الكل يرمقني بعتب ودهشة مستنكرين ما أقول، أحدهم نصحني أن أراجع طبيباً نفسانياً. يؤلمني كلامه فأستنجد برتل طويل من صور الشهداء الملصقة على الجدران وأقول: كيف مات كل هؤلاء الشبان؟، ألا ترون أوراق النعي؟ لم يتركوني أكمل بل انفجروا ضاحكين وقالوا لي: مسكينة هذه صور الطلاب المتفوقين في المدارس والجامعات وليسوا موتى. يا إلهي هل أصابني الجنون؟ لكن مهلا «أسرعت إلى سوق الخضار والفاكهة المركزي ورجوت أحد الباعة ان يعيرني التلفاز، سأرى هؤلاء الذين يسخرون من مدى الدمار في معظم مدن وريف سوريا، سأريهم الدبابات والطائرات التي تقصف والمعارك والاشتباكات وآلاف القتلى.. لكن فجأة جمدتني المفاجأة، فأطفال المخيمات يرقصون ويلعبون وهم ليسوا نازحين بل يشاركون في معسكرات للكشافة، ويمثلون مسرحيات من روائع المسرح العالمي. والمدن المدمرة ليست سوى مجرد ديكورات لأفلام مهمة تمولها هوليوود، وأهم شركات صناعة الأفلام ومن اعتقدتهم قتلى، ينتفضون فجأة وينزعون الثياب المبللة بالصباغ الأحمر ـ لإيهام المتفرج انه دم ـ ويقبضون أجرهم عن الفيلم ويمضون سعداء إلى بيوتهم الجميلة الآمنة، صناعة الأفلام تزدهر في سوريا، وأنا بغبائي أصدق ان ما يجري حقيقة؟ لكن مهلاً دعوني أبحث في اليوتيوب والإنترنت عن المجازر الجماعية، الكل ينظر إليّ بشفقة ولا يفهمون ما أقول! أمشي كالتائهة، ياه كم هي جميلة الحياة في سوريا، كيف! كيف سمحت للأفكار السوداوية ان تستعمر روحي وعقلي؟ كيف صدقت ان مدرسة جول جمال يمكن ان تصير ثكنة عسكرية؟ أتوسل إليك يا جول جمال ان تسامحني. كيف تخيلت ان سينما أوغاريت تحولت بدورها إلى ثكنة عسكرية؟ وكيف أهين كل أحبتي السوريين وأميتهم في خيالي المريض، أبيدهم إبادات جماعية، وأهجّر ملايين النساء والأطفال إلى مخيمات بائسة بينما الحقيقة أنهم في نشاطات مدرسية ورحلات كشافة، أية سادية لعينة سيطرت على تفكيري وجعلتني أهين وطني الحبيب بتلك الأفكار والتخيلات! فجأة يعود لي صوابي وأتذكر كم هي حلوة الحياة وكم هي عظيمة سوريا.

اسفير

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى