صفحات الرأي

خلاصات مسرفة في التفاؤل لحدث مفتوح على المجهول

 

الحروب ‘مداحاً’ نهر الثورة في مواجهة مستنقع الاستبداد

فراس كيلاني

يسرف الكاتب الفلسطيني والمحاضر في سياسات الشرق الاوسط المعاصر في جامعة كيمبردج خالد الحروب في تفاؤله بالانتفاضات العربية، في كتابه الصادر عن دار الساقي ‘في مديح الثورة’، فطالما الصراع من وجهة نظره ‘بين النهر والمستنقع’، فإنه ‘ينحاز للنهر’، فـ’مستقبل المستنقع المتعفن معروف: المزيد من التعفن’، ورغم المخاوف من أن ‘مستقبل النهر مفتوح على كل الاحتمالات’ فإنه ‘لا بد من تلك المقامرة’، على حد تعبيره.

لكن ‘المقامرة’ التي يتحدث عنها الحروب تتعارض كلياً مع قطعيته بقدرة الدول العربية، التي شهدت انتفاضات ضد انظمتها على تجاوز التحديات التي تموج بها المرحلة الانتقالية، ليس هذا فحسب، بل تتعارض ايضاً مع عبارة ‘من المبكر الحكم’، التي ترد كثيراً في سياق تناوله غالبية القضايا التي تطرق لها الكتاب.

يقع الكتاب في خمسة فصول، يقدم الحروب في اولها اسباب ‘الثورات’ ومبرراتها، ويعترض على توجيه اللوم او انتقاد الثورة في حال قيامها بكونها غير عقلانية او قد تؤدي إلى تعطيل البلد او احداث دمار جزئي هنا او هناك، ويرى في ذلك نقداً اكاديمياً ونخبوياً، وأن الاستقرار الذي ‘يتخذه البعض ذريعة لا يبرر بقاء المستبد’، مشيراً الى ان ‘الاستقرار والاستبداد ظلا من اشهر توائم التاريخ واطولها عمراً’.

يشدد الحروب على أن الحراك الشعبي فكك الاستقطاب الحاد بين الانظمة والإسلاميين، وطرح بديلا يبدو جديداً، هو ما يسميه بالطريق الثالث، ‘الطريق الديمقراطي الشعبي ذو المشاركة المجتمعية الواسعة’. ليبين كيف استطاعت الثورات العربية كسر صورة العربي في الغرب، التي كرستها الدراسات الاستشراقية التي تقول إن فيهم جوهراً وخصائص لا تتبدل رغم تبدل الظروف، وخلاصتها انهم ‘متخلفون بالجينات’ ومن هنا خضوعهم للاستبداد.

في القسم الثاني يتحدث الحروب عن سقوط الخوف كاهم قتلى الثورات، مشيراً الى ان ‘الاغلبية الصامتة كانت محط استهتار شبه دائم وإهمال مقصود او غير مقصود’. لكن برأيه ان ‘الحراك الاهم والتفاعل الاكثف والتراكم التاريخي الحقيقي كان يحدث في قلب تلك الاغلبية التي نادراً ما كان يحدث تحليل مكوناتها بدقة’.

وفي معرض حديثه عن الإعلام ووسائط الاتصال الاجتماعي ودوره في استنهاض هذه الاغلبية، يقول الحروب إنه في ‘عهد الكاميرات المفتوحة، تحول المجرم إلى جبان ترتعد اطرافه عند القيام بجريمته’، وهو قول بحاجة للكثير من التمحيص، خصوصاً في الحالة السورية، إذ تؤكد مصادر عدة ان النظام هو من يحرص على تسريب بعض الصور لعمليات قتل وتعذيب الناشطين في استخدام ذي مغزى كبير.

وفي هذا السياق ايضاً يقع الكاتب في بعض المطبات باستشهاده بما ‘قيل’ إنه وقع خلال الثورة الليبية واثبتت تطورات وحقائق لاحقة بانه بحاجة للكثير من التمحيص، كفتح معمر القذافي مستودعات السلاح امام المنتفضين ضده، وأن كتائبه كانت في طريقها لبنغازي لوأد الثورة باي طريقة، وذلك عشية صدور قرار مجلس الامن الذي اتاح التدخل الغربي عسكرياً.

ويخصص الحروب القسم الثالث للحديث عن الاسلاميين، حيث يشير إلى انه ‘بضربة ثورية واحدة ازيحت قائمة من العقبات التي وقفت دوماً في وجه الاسلاميين وحالت دون مشاركتهم السياسية’، ويسجل لهم ما يصفه برد الفعل الاولي الحكيم ، قبل ان يعود ليشدد على ضرورة ان يهبط الاسلاميون من ‘ترف الايديولوجي إلى اشتراطات الواقعي’. ويفكك الحروب شعار ‘الاسلام هو الحل’ ليخلص إلى انه شعار ‘غامض وفضفاض خال من اي استراتيجية او برامج سياسية واقتصادية او علاقات دولية’، ويطالب ‘بالانخراط في الواقع وتنزيل الشعارات الايديولوجية إلى ارض التطبيق’، ويقدم النموذج التركي الاردوغاني كحل انسب، على اعتبار انه حصيلة لاستيعاب ‘الدرس التاريخي الكبير بشأن سياسة الدولة والمجتمع وفهم الاولويات’.

هذا بالطبع فيما يتعلق بالخطاب الاسلامي المسيس، وليس بالخطاب السلفي الذي دخل السياسة بعد الثورات، والحديث هنا عن اللاعنفيين من السلفيين الذين ‘قفزوا في مصر وتونس لواجهة المشهد السياسي.. في استغلال بشع’.

اما في جانب السلفية الجهادية ممثلة بتنظيم ‘القاعدة’ وما تناسل عنه، فيقول الحروب إن الثورات العربية ‘أضعفت منطقها’، ليخلص إلى استنتاج متسرع بان ‘الثورات العربية وغياب بن لادن تزلزل لانهاء كل ما قامت عليه ‘القاعدة’ او ما بقي منها’، غير متنبه إلى الفراغ الامني الهائل، في شمال افريقيا والشرق الاوسط، الذي خلفته هذه الثورات واستغلته ‘القاعدة’ لإعادة التموضع وتنظيم الصفوف ليبدأ مرحلة جديدة ربما كانت الاخطر منذ تأسس التنظيم.

ويقدم الحروب في القسم الرابع، وتحت عنوان دفوعات الاستبداد ودمويته تشخصياً للكوارث التي ابتليت بها المجتمعات العربية نتيجة لعقود من الاستبداد، تتخلص في قوله إن ‘دولة الاستبداد ابقت الوضع المجتمعي والقبلي والطائفي والجهوي في المنطقة العربية كما كان إلى حد كبير قبيل لحظة الاستقلال’.

في القسم الخامس يمضي ابعد في الحديث عما يسميه ‘منعكسات الثورة’، ويرى أنه ‘من ‘الصعب التكهن بالوجهة النهائية التي سوف تتجه اليها اشرعة سفن الثورات العربية’. ويبدو غريباً بعض الشيء في هذا السياق ألا يخصص الكاتب لـ’احتمالات الانقسام والتجزئة في بعض الدول العربية سوى اقل من صفحة واحدة في كتابه’، ولا يشير فيها إلى الحالة السورية، وانما فقط لليبيا واليمن.

وفي القسم السادس الذي يخصصه الحروب لقراءة ‘مآلات الثورة’، يرى ان ‘الاوضاع في الملكيات العربية لا يختلف جوهريا عن مثيلاتها في الجمهوريات العربية ليس في طبيعة الانظمة، وانما ايضاً في اضمحلال الخيارات أمام الملكيات العربية على المستوى المتوسط وربما القصير’. الطريق الذي يقترح الحروب شبيه تماماً بذاك الذي يقول العاهل الاردني الملك عبد الله انه اختطه كحل لازمات بلاده، هو طريق الملكية الدستورية.

وفي النهاية، يحذر الحروب من الاستبداد الديني باعتباره ‘اكثر انواع الاستبداد اغواء’، خصوصاً ان ‘إسلاميي ما بعد الثورات هم القوة الاكثر تنظيما واحتمالية للسيطرة على الحكم’، و’يخشى من انهم يريدون تجربة المجرب’، على حد قوله. ويدعو في نهاية بحثه الإسلاميين لتأمل المشهد في انتظار مقاربتهم للحل العلماني’.

يبقى من الضرورة بمكان الإشارة إلى ان الكتاب على اهميته، طرح الكثير من العناوين التي تحتاج مجلدات لدراستها، وربما كان الاجدى لو ركز الحروب دراسته على دولة او اثنتين من الدول التي شهدت انتفاضات كنماذج بحثية، لكن وبالاعتماد على عنوان الكتاب، يبدو انها الطريقة التي كان لا بد منها للوصول الى ‘مديح الثورة’.

بالتأكيد يستطيع خالد الحروب المحاججة بانه قد مر على كل المخاطر التي قد تتهدد الدول التي شهدت انتفاضات ضد حكامها، لكن هذا المرور ظل على شكل اشارات ملتبسة غير مستوفاة بعمق، رغم خطورتها الماثلة بقوة، التي قد تحيل ‘المرحلة الانتقالية’ التي تشهدها الدول التي مرت بها ‘الثورة’ كابوساً لا يستحضر سوى النموذج الافغاني او الصومالي، وفي احسن الاحوال اليوغوسلافي.

*كاتب فلسطيني ـ لندن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى