صفحات الثقافةمحمد أبي سمرا

خلية المثقفين

محمد ابي سمرا

صرخةٍ ذكورية التمعت، فجأةً، كنصل سكّينٍ حادّ في سكون ليل لا أعي في أيّ زمن ومكان. تعوّدتُ على مثل هذه الصرخة الليلية البذيئة تنغرس في لحمي في ليالي بيروت أيام الحرب، فأشعر للحظات بأن لا بيت يؤويني ولا جدران. كشهب من ظلام انطلقت الصرخة، فتبعتها طلقة نارية اخترق دويّها صدغَيّ، وجمّد الوقت والأشياء وأجسامنا الثلاثة في الصالون، كتماثيل من الشمع. فستاني الشفّاف في زرقته السموية، صار قصديرياً ثقيلاً على جسمي في أضواء الثريا الكريستالية المشعشعة فوقنا. أعلم أن مصدر الصرخة والطلقة والطلقات السريعة المتتالية بعدها، هو البيت القديم القريب من بيت اهلي. بعد ايام على هجرة ساكنيه الأرمن الى اميركا، استيقظتُ مذعورة في وقت متأخر من الليل على زخات نارية غزيرة تخللتها صرخات معولة، فلجأتُ الى الحمّام واختبأت فيه حتى توقف تبادل اطلاق النار. وفي صبيحة تلك الليلة ايقظني من نومي المتأخر عزفٌ عشوائي صاخب على البيانو، فخرجتٌ الى شرفة صالون البيت. شبابيك بيت الجيران الذين لا أعرفهم، مشرعة كلها ويتدفق منها الى داخل الغرف نور النهار الفاحش، شرساً كاغتصابٍ علني. في وسط الصالون الذي أبصره للمرة الأولى، شاب في ثياب عسكرية يجلس على مقعد صغير خلف البيانو الأسود اللامع، ضارباً بكفّيه على لوحة العزف، كأنه يطلق النار محتفلاً بأول صباح عسكري في البيت المهجور. على الأسرَّة في الغرف شبّان عراة الا من اثواب داخلية داكنة على اجسامهم المنهمر عليها النور الفاحش اقوى من ضوء النهار الخارجي الخافت في الحديقة وممراتها الصغيرة بين الاشجار، حيث يسرح شبّان آخرون. ما ان التفتَ احدهم وابصرني على الشرفة، حتى شتمني صارخاً بأن اختفي، مصوِّباً نحوي فوهة بندقيته، فأندفع سريعاً الى الخلف وأختفي.

بعد ليال ابصرتُ في منامي بيت الجيران قبراً ضخماً في جدرانه نوافذ ينبعث منها ضوء قمري تنساب ظلاله الشبحية على جسمي العاري على منحدر اسفل رابية. الارض معشوشبة مبللة برذاذ دافئ، وتنزلق تحت قدميّ، فاقترب من البناء الحجري الضخم، من دون أن أحرّك جسمي. شبّان عراة كأنهم من الشمع، يتراكضون حول الجدران العالية. بلا صوت يتراشقون جماجم وعظاماً تطير منها فراشات سوداء في الضوء القمري المنبعث من نوافذ القبر. تتدحرج الجماجم نحوي، تتوقف قبل وصولها اليَّ، فتبيضّ الفراشات مرفرفة حول جسمي. فجأة أراني الى جانب صديقتي الصحافية وسط حشد من شبّان ورجال يتحلقون حول جثة مسجّاة على فراش في غرفة عارية. تركض صديقتي، ترتمي على الفراش معانِقةً الجثة. هذا هو دورها – أفكر: مندوبة الحزب لعناق جثث الشهداء ووداعها. ابتلع قهقهتي، ومن خارج المشهد في الغرفة يطلع صراخ امرأة نائية: لوين مسافر وتاركني يا حشيشة قلب امك، يا حشيشة روحي؟! الصديقة وانا نمشي في مؤخرة حشد خلف تابوت يتراقص في الهواء على ايدي شبّان في مقدم جنازة. يدها ترتجف في يدي. التفت اليها. اراها تبكي. انسلّ حانقة خائفة من مؤخرة المشهد حين سماعي رشقات نارية من بنادق مسلحين وعيارات متقطعة من مسدساتهم وسط زغردات النساء. وحيدةً حائرة اقف قرب جذع شجرة عجفاء على جانب طريق ترابية. موجة من غضب تتدافع في جسمي، فأشعر بأنني ملطخة بوحول ذلك العالم. العالم الذي احسب انني تعوَّدت العيش على ضفافه. امشي مسرعة، أسفُّ الغبار، فأصادف سيارة صديقتي.

رفوف الفراشات البيضاء تتطاير مبتعدةً من حول جسمي. “أهلاً بعذراء الشهداء”، اقول لصديقتي بعد دخولي الى سيارتها وجلوسي الى جانبها على المقعد الأمامي. الفراشات المبتعدة تسودُّ شيئاً فشيئاً، ثم تتحول غرباناً تنهال بمناقيرها على حقل جماجم مرفوعة على عصي في الضوء القمري حول بيت جيراننا على الرابية. تنطلق السيارة وسط حقل الجماجم. اقول لصديقتي انني في اجتماع خلية مثقفي الحزب سأقترح تخصيص جائزةٍ ثقافية باسمها: عذراء الشهداء. ترجوني بأن أنسب اليها الاقتراح في اجتماع الخلية، وتقول انها ستكتب في جريدة الحزب مقالة في العنوان نفسه، وإنها لا تعرف الشهيد الذي كنا في جنازته، ولا تعلم عنه سوى انه استشهد في حرب تحرير الجبل. ايّ جبل، وتحريره ممّن؟ اسألها. قبل التفاتتها السريعة اليَ، اقول: من الانعزاليين، اعداء الطبقة العاملة وحركة التحرر الوطني في لبنان. ثم استيقظ فجأةً من نومي اقهقه على سريري في غرفتي ببيت اهلي.

بعد مدة من إبصاري هذا المنام، تذكرتُ بعضا من صوره اثناء مشاهدتي فيلماً تسجيلياً عن الشهداء لمخرج شاب يحضر اجتماعات خليتنا الحزبية. صوت المغنّي المغناج ترافق مقاطع من اغانيه مشاهد الفيلم. الى جانبي في الصالة صديقتي الصحافية تنشج نشيجاً خافتاً. اقول لها موشوشةً انني سأصطحبها، بعد العرض، الى اجتماع الخلية في بيت مسؤولها الحزبي. “عن جد، عن جد؟!”، تكرر قائلةً في صوتها الخافت الباكي، فأهمس في اذنها: شرط أن تبكي في الاجتماع.

الشاعر المتهكم يصل الى الاجتماع متأخراً كعادته. لكنه هذه المرة يفرش على طاولة السفرة ما احضره من المشاوي والتبّولة واللحوم النيئة والخضر، ويصب كؤوساً من العرق، قائلاً: تفضلوا يا رفاق، تفضلوا تكريماً لأرواح الشهداء. في صوته الانثوي الطفلي المرتجف يعترض المغنّي غاضباً: هذه إهانة للفن والحزب والجمال والنضال. نحن نأكل ونشرب في صحة الشهداء، وأنت غنِّ وغنِّ حتى الفجر ايها الرفيق المناضل، يجاوبه الشاعر المتهكم. يقوم المغنّي عن مقعده في الصالون متهيئاً لمغادرة الاجتماع، فيأمره المسؤول بأن يجلس فيعود سريعاً الى مكانه. ما رأي الرفيقة الجديدة في خليتنا بالفيلم؟ يقول المسؤول لصديقتي، فتجهش بالبكاء. إبكي، إبكي يا عذراء الشهداء، أقولُ، فينظر إليَّ الناقد السينمائي في صحيفة يسارية واسعة الانتشار، ثم يصرخ: أجمل الفن للثورة، الثورة أجمل الفنون. الشاعر المتهكم يضيف: وعلى نواح الطف وتاجر عاشوراء يتكاثر الشهداء، ثم يتجرّع كأسه حتى الثمالة، وينصرف الى ملئها من جديد. الشاعر الطويل القادم من قريته الجنوبية يقترح تحويل الاجتماع امسية شعرية هذه المرة، فيما هو يقوم من على مقعده في الصالون ويجلس الى طاولة السفرة. لكن الناقدة الادبية الدميمة تضيف: امسية للشعر ونقده. يا جمال التحليل قد فشر الشعر، يجاوبها الشاعر المتهكم، ويضيف: تحت دلف موهبتكِ الفذة ودموع عذراء الشهداء، أضع سطل الشعر. فجأة أطلق قهقهة صاخبة حين اراه يتناول سطل الثلج عن طاولة السفرة امامه، ويقوم عن كرسيّه حاملاً السطل بكلتا يديه، لكنه لا يلبث ان يقف حائراً الى اين يتوجه به، أنحو صديقتي أم نحو الناقدة الادبية، فما كان من المخرج السينمائي الشاب الا ان كوّر كفّيه قائلا للشاعر المتهكم ان يضع السطل تحت ينابيع موهبة مغنّينا الباهرة. احسنت وأجدت، وإليك بالتمرين الخامس عشر، يقول الشاعر المتهكم، وهو يعيد سطل الثلج الى مكانه على طاولة السفرة. لا، لا اوافق على هذا الاسلوب في النقد، قالت الناقدة الأدبية. الفيلم رائع، وأروع منه الأغاني التي تضفي عليه مسحة خالدة من الواقعية الاشتراكية، يجاوبها الكاتب المسنّ الذي كان يعمل إسكافياً، ثم احترف الملاكمة في فتوته، قبل أن يضع كتاباً عن سيرة نضالات الحزب منذ تأسيسه.

جلس مسؤول الخلية الى طاولة السفرة، فصبّ كأساً من العرق وشرع يأكل، فتبعه المغنّي في الجلوس الى جانبه، والى جانبه الآخر جلس الكاتب المسنّ الذي دعا الناقدة الأدبية الى الجلوس قربه، ففعلت. حين دخلت زوجة المسؤول الفرنسية الى الصالة، كان الجميع قد تحلقوا حول الطاولة، سواي، فقمت عن مقعدي المنفرد في الصالون، وتقدمت من الزوجة ورحت أسألها عن أولادها، وعن أهلها في فرنسا، وعن عملها مدرّسة في المدرسة الإرسالية التي تخرجت منها قبل سنين كثيرة. فجأة التفتُّ الى صديقتي، إذ سمعتها تغنّي أغنية شعبية كثيراً ما كانت ترددها وهي تقود سيارتها: “ما انتاش (لستَ) خيَّالي، (فارسي) يا ولد/ ما انتاش على بالي والنبي/ والشوق بقلبي يا ولد/ والشوق على بالي والنبي”. بعدما صفّق لها الجميع، صرخ مسؤول خليتنا: هذا هو تراثنا الشعبي الأصيل، ضد الفن البورجوازي التافه، ثم قام عن كرسيّه مسرعاً نحو صديقتي، فضمّها الى صدره، وأخذ يقبّلها في جبينها. لا، لا، في شفتيها الشعبيتين أيها الرفيق، صاح الشاعر المتهكم مكرراً: في شفتيها الثوريتين والنبي. فلتتوقف هذه المهزلة، قالت الناقدة الأدبية في غضب، فجاوبها الناقد السينمائي المهزار: لا تيأسي، لا… غنّي له من تراثنا الأصيل أغنية، غنّي. لكن ناقدتنا قامت عن الكرسي في حركة ساخطة، مما حمل مسؤولنا على الاسراع اليها واحتضانها وسط الصالون، فأطلق الجميع موجة من التصفيق. يا لكهرباء عينيك الثابتين هِلال، صاح الشاعر القصير الذي أحبّني لمدة يائساً من سوى مغازلتي في سيارته الصغيرة البيضاء، وألّف قصيدة عن قبرٍ في صحراء، مستنجداً بهلال، مسؤول حلقتنا ومفكّرها، ليفسِّر القبر. ذكّرتني الصيحة بمنامي المقابري عن بيت جيراننا، فرحتُ أرويه لهم. قبل أن أنهي روايتي المنامَ، فاجأني الشاعر المتهكم بقوله: أنتم الأرمن لن يبقى منكم أحد في هذه البلاد، وأنت اليوم الرجل الوحيد بين الرسامين في هذه المدينة، وسوف تهاجرين… أنصحُكِ بالإمبريالية الاميركية. وحده من بينهم في الخلية، لم يغرمْ ويتدله بي، هذا الشاعر المتهكم الذي احترمته وظل في وعيي الباطن شخصية غامضة ومريبة، توقعتُ لها السقوط في هاوية مأسوية، لكنه ظل في ذاكرتي واقفاً على حافتها، فلم أشهد انحداره إليها قبل هجرتي من بيروت الى لوس أنجليس.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى