صفحات الحوار

خليل النعيمي: أنا من “حركة أدب بلا جوائز”

 

 

محمد المزديوي

اكتشف خليل النعيمي مبكرًا الوضع البائس في سورية. وازداد يقينًا أثناء خدمته العسكرية كطبيب في الجيش السوري، ووجد أن الحياة في ظل هذا النظام السياسي لا تُطاق: الديكتاتورية والفساد والقمع ثم الفشل على كل الأصعدة. قرّر الذهاب إلى باريس. حيث اكتشف الحرية والمعرفة، وأصبح جرّاحًا، ودرس الفلسفة في السوربون، وشارك في جدالات فكرية، إلى جانب يساريين وفوضويين وسورياليين عرب.

*بمناسبة صدور كتابك الجديد “الطريق إلى قونية”، نود أن نعرف ما الذي يمكن أن يقدمه لنا أدب الرحلة في القرن الواحد والعشرين، حيث وفرة المعلومات وسهولة السفر والتنقل وغيرها من الأشياء التي كانت غائبة زمن الرحالة الأوائل؟

الأشياء كانت دائماً متوفّرة. والكثرة لا تقدِّم شيئاً. “وعي الكائن” الذي يُعايش الأشياء هو الذي يعطيها المعنى، أو هو الذي يستخرج جوهرها من العدم، وليس وجودها الكمّي.

والقرن الواحد والعشرون، على عكس ما تعتقد، هو أسوأ القرون إبداعياً، حتى الآن. لأنه قضى نهائياً على “الحَدْس” الإنساني الفاعِل الذي يستثيره الغموض، من خلال توفير كميات عظمى من المعلومات اللا مبدعة، وإغراقنا بـ “ثَرثَرة كونية” لا محدودة.

نحن نعرف أن طاقة الإبداع لدى الكائن، هي “طاقة جهله المبدع”، وليس مساحة معرفته المستقرّة. “الجهل الخلاّق” هو الذي يدفعنا إلى السفر المستمر، من أجل “ما لا نعرف”، حتى وإن كنا نتصوّر أننا نعرف كل شيء. فصورة الأشياء ليست معرفة.

وفي النهاية، “وعي الكائن” هو الذي يكتب العالَم. والوعي بحاجة إلى رأس وقَدَمَيْن.

* كتابك هذا المنتمي إلى أدب الرحلات، بدأت به قبل سنوات عديدة، لكن أيتغير الأمر وهو يرى النور، كأن تضطر لتعديله أو الزيادة عليه؟

هذا يحدث دائماً. كلما أعدتُ قراءة نص لي، أقوم بتعديله، غير مضطرّ. وإلا ما جدوى القراءة، من جديد. قراءة ما كتبْناه أكثر جدارة من قراءة ما لم نكتبه. لأن قراءة الذات “مخيفة”. ولأنها كذلك فهي تستحق العناء. إنها خطوة أساسية نحو تحرير الذات المبدعة من أوهامها. وتعديل ما كتبناه هو أقل ما يمكن لنا أن نقوم به، عندما نمتلك الجرأة لقراءة مخلَّفاتنا البائسة.

* تكتب الرواية وأدب الرحلة، فهل ثمة تداخلات بينهما، وهل يمكن أن يتحول موضوع منتمٍ إلى أدب الرحلة إلى رواية ؟

بالتأكيد، ثمة تداخل عميق بينهما. وعنصر التداخل هو أنا. أقصد “أنا الكاتب”. لكن المريب في سؤالك هو “حكم القيمة” الذي يوحي به. لكأن أحد الحقلين “أحطّ” قليلاً، أو كثيراً، وهو ما يستوجب “تَحْويله” ليبلغ “عتبة الآخر”. وبرأيي، فإن كل ما نكتبه “رواية”، حتى عندما نُسَمّيه: شعراً.

* تظهر طريقتك في الكتابة في “الطريق إلى قونية”، إذ تكون في قمة الانغماس مع الحشود في الاحتفال بمولانا الرومي. فهل الكتابة والتسجيل ضروريان؟ وهل الذاكرة وحدها لا تكفي؟

“الكتابة المباشرة”، هي طريقتي فعلاً في نقل ما أراه، وأحسّه، عندما أسافر. وعندما زرت المكسيك، مثلاً، قمت بزيارة واسعة للبلاد، وبخاصة لمناطق الهنود الأوائل، معتمداً على الباصات العمومية، فقط. وخلال أيام الرحلة كلها، كنت أحجز المقعد رقم 3، على يمين السائق مباشرة، من أجل أن أكتب بلا حواجز، وأنا أخترق المساحات. المكان هو الذي يُلْهِم الكائن، عندئذ. ولقد كان يتَراءى لي، أحياناً، أن الصفحة التي أكتب عليها هي الأفق الممتدّ أمامي حتى آخر الكون.

“الكتابة المباشرة” لا علاقة لها بالذاكرة، وإنما بالأحاسيس. إنها “طقس حسيّ”، بامتياز. “الرؤية الحيَّة” فيها تحلّ محلّ “الذاكرة الميتة”. وهي مثل “الجراحة” لا يمكن التلاعب بها، ولا تحتمل التنازلات. وربما كانت تلك هي حال الكتابة، كلها.

* ربما استنتج بعض من قرأ نصوصك الروائية استشرافك الوضع في سورية، خاصة في رواية “مديح الهرب”، لكن هل كنت حقاً تتصور شعبًا بأكمله يهرب من ديكتاتور؟ أم أن الواقع فاق الخيال؟

الواقع يفوق الخيال، دوماً. أنا لم أستشرف شيئاً. كتبتُ عن واقع عشته، وقاسيتُه. ومعاناتي هي السبب في إدراكي المبكّر لسيِّئات “الوضْع” الذي كنا نعيشه، يومذاك. وكما تعرف، فالشخصيات الرئيسية في رواية “مديح الهرب” – التي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر سنة 2005، مزدانة بغلاف للصديق زهير أبو شايب – هم ثلاثة ضباط، ورابعهم سياسيّ مثقف. مسرح الرواية هي البؤر المشتعلة اليوم في “حوران”، “إنخل”، و”نوى”، و”الصنمين”، و”تل الفرس”، وأنحاء أخرى من الجبهة السورية. الضابط الأول ينتحر. والثاني يقتله رئيسه المباشر. والثالث، وهو الراوي، يهرب. أما المدني الوحيد، الذي كان بعثياً عنيداً، فيُجَنّ.

أنا لا أحب ربط الأعمال الأدبية بالثورات الإنسانية المعمَّمة التي هي أكبر من الأدب بكثير. لا، لا صلة بين الأدب وبين الواقع، من هذه الناحية، ناحية التنبُّؤ والاستشراف. ومع ذلك فالصلة بينهما متينة، ولكن “من الجهة الأخرى” الأكثر حميمية وعمقاً.

وإذا عدنا إلى الطغاة، فَهُم، مع الأسف، يفعلون مثل ذلك، وأكثر. ولكن مهما كانت قسوة طغيانهم، فإن الشعب سيتحرر في النهاية.

*لا نتصور أن أحدًا من النقاد انتبه إلى العلاقة الحميمة التي تربطك بوالدك، على افتراض أن السارد هو المؤلِّف، فهي على عكس ما نجده لدى معظم الكتاب الذين يتباهون بقتل الأب، على الطريقة الفرويدية، ما تفسيرك للأمر؟

تفسيري أبسط مما تتصوَّر. إنه كامن في “تاريخي الشخصيّ”. أنا أحب كثيراً طفولتي في “بادية الشام”. وأتصوّر أن شَساعة القاع، وترامي السُهوب ، وبلاغة الضوء، وهبوب الرياح، وانعدام أي شكل من أشكال القيود التي نعيشها في المدن المحدودة، لا يوحي، ولا يستوجب، أي مماحكة، أو توتّر، أو اضطراب، من أي نوع كان. كنتُ أعيش في الجنة. لماذا تسألني عن أبي؟ هذه العلاقة الوثيقة مع الأب تظهر بشكل مكشوف في كتاب قونية، حتى يبدو وكأن الكتاب كتب من أجل الأب لأنه هو الذي كان يتوجب عليه أن يكتبه.. “هذه القونية التي كان أبي يترنم بها مسحورًا”. لقد كُتِب هذا الكِتابُ، فعلاً، من أجله. ومنذ بداية الكِتاب تطالعنا جملة الكاتب المزهوّ بما يفعله، وهو يخاطب أباه: “لَكَمْ أحبُّ أن أحقّق أحلامَك”.

* كيف تفاعلت مع المأساة السورية ومع الربيع العربي الذي تحوّل إلى حرب طاحنة وإلى شعبٍ في الطرقات وفي الشتات؟

طرْح السؤال بهذه الكيفية، لا يسمح بالإجابة عنه. وفي الحقيقة ليس ثمة إجابة على سؤال مبتسر كهذا بأية كيفية أخذناه. وإذا كنتَ أنت نفسك، تصف الحال بأنها “مأساة، وشتات، وحروب طاحنة، و…” فكيف تريدني أن أتفاعل؟

أعرف أن كتّاباً كثيرين وكاتبات، مِمَّنْ كانوا من “حواشي السلطة” هجموا على “المأساة” وانتحلوها، ودَبَّجوا كتُباً، ومقالات، وأشعاراً حولها. وأعرف عملاء نظام، وممالئين، صاروا “معارضين”. وأعرف سينمائيين تَرَبّوا في حضن المؤسسة الرسمية، وبدأوا يحاولون أفلاماً “مناهضة”، وأعرف… وثمة الكثير الذي لا أعرفه. وعلى أية حال، فإن “الهجوم الكاسح” على الثورة التي أصبحت “مأساة”، وتَبَنّيها، من أجل الشهرة، والتَّباهي، والحصول على رضى الآخرين، أو التمتّع بمزايا جديدة، لهو أحطّ فعل يمكن لعاقل أن يرتكبه. أنا لا أكتب عن الثورة. أكتب عمّا قبلها.

* ما رأيك بما أنجزته الرواية العربية؟ وماذا عن الجوائز الأدبية المكرسة للرواية؟

أنا من “حركة أدب بلا جوائز”. وقد كتبت مقالات عدة ضد “ظاهرة الجوائز الأدبية” في العالَم العربي. لماذا؟ لأن جميع الهيئات المانحة للجوائز هي جهات رسمية. لها أحكام ومتطلَّبات وقواعد أخلاقية ومعرفية وفنية صارمة، ومعلومة، مهما ادعت البساطة والتسامح والقبول. ولا يجهل أحد ذلك. والكل يتهافت عليها. وبرأيي الشخصي، ومن حقي أن أخطئ، المتهافِت ، أيا كان وضعه، لا يمكن أن يكون مبدعاً فَذّاً، حتى ولو حاز جائزة “نوبل”.

خطورة الجوائز العربية، في هذه الحال، تكمن في تأصيل الابتذال الأدبي، وترويج الأخلاق المحافظة، وتسييد البلادة الفنية، وتقييد الانبهار، ومنع التمرّد، وتخضيع المبدعين الذين ينضوون في خانتها، ولَجْم الفورات الإبداعية المناهضة لكل ما هو رسميّ وعتيد. وتَدْجين المتفَلِّتين، و…و…ماذا تريدني أن أقول أكثر من ذلك؟

* قرأنا لك مؤخراً مقالًا عنيفًا عن القاهرة، في جريدة “القدس العربي” بعنوان : “القاهرة تختنق، وتخنق أبو الهول”. فهل هو انتقاد للزمن العربي ولكل العواصم؟ وهل من واجب الكاتب والمبدع أن يغضب؟ بل ما هي وظيفة المبدع والمثقف، أصلًا؟

ليس للمبدع وظيفة. ولكنْ، له دَوْر. ودوره الأساسي هو أن يقول ما يؤمن به حتى ولو أغضَب قولُه الآخرين. ولكن مَنْ منا يجرؤ على ذلك؟ كثيرون بالتأكيد. لكننا في العالَم العربي بحاجة إلى أكثر مِنْ “كثيرون بالتأكيد”. بحاجة إلى زخم هائل من الغضب والاستياء والتَرَفُّض والترَفُّع عن الهِبات والعطايا والجوائز والمثاقيل. بحاجة لنطير بأجنحتنا لا بأجنحة السلطات أكُنّا موالين لها أم معارضين. ولكن هيهات لمَنْ تعَوَّد على تَذَوُّق مَرَق السلطة الدسِم بملاعق من ذهب، أن يستمْرئ أكل الخبْز العَلْسَ بيديه.

* نعرف أنك قارئ نهم، لكن ما هي الكتب الأساسية التي شكلت وعيك الكتابي؟

يمكن القول إنني بدأت “القراءة المعروفة “، قراءة الحروف، متأخرًا. بل متأخراً جداً. إلا أنها كانت قراءة مفعمة بالأمل والشغف. لكن مرحلة القراءة المهمّة بالنسبة لي هي “مرحلة البادية”. مرحلة الصحراء الباذخة. “حقبة ما قبل القراءة ” بالمعنى المألوف. وهي “قراءة أخرى” لأساطير الكون: قراءة الأذن والعين، والتي ما زالت تسيطر علي إلى الآن، حتى ليصحّ عليَّ القول: “عرفتُ هَواها قبل أن أعرف الهَوى/ فصادفَ قلباً خالياً فتمكَّنا؟”

وخارج “جَغْرَفَة” القراءة، هذه ، أثارت فضولي المعرفي روايات “نجيب محفوظ” التي قرأتها باكراً.

لكن “التحطيم الأخلاقي” الذي حصل في نفسي كان بسبب ” الإخوة كارامازوف” لدويستوفسكي، و”الجريمة والعقاب”، وكنتُ يومها في السنة الجامعية الأولى. ومن بعد، تَتالت القراءات لكي لا تنتهي أبداً. ومن نافل القول أن أضيف: “أن يَنابيع المعرفة الكونية واحدة، لكن المهمّ مَن الذي يَسْتقي منها، ومتى، وكيف”.

* أنت طبيب جراح أيضًا. أثمة تأثير للجراحة على كتابتك الأدبية؟

فَضْل الجراحة على كتابتي: لُغَوي. وهو فضل علماء اللغة العربية الأطباء في دمشق، وعلى رأسهم الأساتذة: “مرشد خاطر”، و”المَطْ”، و”محمود برمدا”، على سبيل الذكر لا الحصْر. ويكفي أن أُشير إلى أن دراستي للعلوم، وللعلوم الطبية، في جامعة دمشق كانت، كلها، باللغة العربية، لتعرف أية ثروة لُغَوية هائلة كانت بين أيدينا. ولكي أوضح الأمر، فأنا كثيراً ما أُشَبِّهُ أديباً تعلَّم الأدب المحض ومارسه، مثل كائن أعرج، يمشي على قدم واحدة. فهو لا يلمُّ بلغة العلم. ولا يخطر له على بال الثراء الآسر في لغة العلوم العربية. وللأسف الشديد، هذه اللغة العربية العظمى، التي كانت وسيلة تطور العلوم والمعارف الأوروبية، أساساً، بدأت تعاني اليوم من الإهمال، وسوء الاستعمال. وكثير من البلدان العربية يتجاهلها في الجامعات والمعاهد العليا، لحجة بائسة هي كون العلم اليوم أوروبياً! وماذا لو صار غداً صينياً أو هندياً؟

“سورية” كانت البلد الوحيد الذي يُدرِّس كل المناهج، والعلوم، في جميع مستوياتها، باللغة العربية. وربما لهذا السبب (ولأسباب أُخرى كثيرة) يتَفَوّق أطبّاؤها، ومهندسوها، في أميركا وأوروبا! لا تهزأ!

ولكم كنّا سعداء ونحن نتعلم الأسماء الشاعرية في الطب: “الشغاف”، مثلاً. وهو الغشاء الذي يحيط بالقلب ويحميه. تذكَّر الآية الكريمة: “وقال نسوة في المدينة امرأة العزيز تراود فتاها عن نفسه قد شغفها حباً إنّا لنراها في ضلال مبين”. (سورة يوسف، الآية 30)

و”العصب الودي”، وهو الذي يحرف العين نحو الحبيب. و”القرح” الناجم عن الأسى والهيام. ولا بد أنك قرأتَ ما قال الشاعر القديم (ابن معصوم المدني): “ولي كبد مقروحة مَنْ يبيعني // بها، كبداً ليست بذات قُروح”. و…وكثير غيره.

* نجد في كتابتك جملاً وحكماً تصلح للاستشهاد بها، فهل تتقصَّد الأمر، وهل “الرواية تفكر” في نظرك؟

الرواية تفكِّر؟ بكل تأكيد. وأي شيء يستحق الرويّ سوى “الفكر العذْب”؟ أعرف أن “الموضة الروائية” في العالم العربي اليوم تدّعي الابتعاد عن الفكر. لكن ذلك شيء خطير. الكائن لا ينضج من دون فكر أصيل، ووعي مناهض لما هو سائد. والكتابة، أيا كان شأنها، ومهما كان الموضوع الذي تعالجه، لا “ضرورة” لها من دون فكر. ولا تنسَ أن العالم لا يتطوّر “بالّلَغْو”، وإنما بالمنعطفات الفكرية الخارقة. والاتِّكاء على الشكل في الرواية هو ابتذال لها، وغُبْن للقارئ الذي سيمضي ساعات، وربما أكثر، معها. لكنك تعرف، مثلي، أن الكتابة العربية الراهنة صارت “محط أنظار” هيئات رسمية أو شبه رسمية، ومطلوبة من قبل بعض “المقاولين الرسميين”، وهو ما يجعلها تنحو منحى “حيادياً” في أحسن الأحوال، ولا تتعرّض للفكر العربي المحافظ إلا بإشارات مبهمة ومثيرة للضحك. ولا بد أن ذلك هو سبب كونها محشوّة بالإنشاء، والوصف، والتاريخ المزيف، والاختلاقات. لكنها نادراً ما تجرؤ على تفكيك الأساسي.

* قالت الروائية الفرنسية آني إيرنو في حوارٍ مؤخرًا: “ليس المهمّ هو الذاكرة، بل الكتابة، أي ما نفعله بِصُوَر الذاكرة”، هل تتفق مع هذا الرأي؟

* الذاكرة هي “مَخْزن الحياة”. وهي بهذا المعنى لا تخلق أدباً. لكن الكاتب يستعين بذاكرته الغنية عندما يبدع، وهو ما يسمّى جزافاً بـ “الخيال”. من دون مخزون لا وجود للإبداع. والكتابة تختلف من كاتب إلى آخر لأن المخزون بينهما مختلف. وفي النهاية، الإبداع، أيا كان، هو “التصوّر الشخصيّ” للعالَم لدى الكاتب. ولذلك فهو يحمل كامل سِماته الإنسانية. إنه صدقه، وزيفه، وكذبه، وخيانته، وأمانته، وحبه، وفشله. وأمور أخرى كثيرة. الكتابة هي كل هذه “المحطّات” العظمى في حياة الكائن. ومن السذاجة اختزالها إلى الخيال، أو الذاكرة، أو الإلهام، أو العبث.

*هل أنت راضٍ عن ترجمة بعض الروايات العربية إلى اللغات الأجنبية؟

الترجمة تواصل ثقافي مهم. والإنسانية لا تتقدّم من دون هذا التواصل المستمر من آلاف السنين. والعالَم العربي كان صلة الوصل الحضارية العظمى في العصور الأولى. هناك إذن فرق بين “الترجمة الفاعِلة”، وبين “الترجمة المنفعلة” التي تسود السوق الأدبية العربية اليوم. حتى أن بعض البلدان الثرية صارت تتكلف بنفقات الترجمات من العربية إلى اللغات الأوروبية. وثمة كتاب كبار، وشعراء، يتباهون بترجمة أعمالهم، وهو أمر مضحك فعلاً، إلا في حالات نادرة. ومع الأسف، هذا النهج اللاأدبي، وأكاد أقول والمجحف بحق الإبداع العربي، جعل دور نشر فرنسية “مرموقة” لا تترجم إلا كتب الجوائز المدفوعة الثمن سلفاً، أو الكتب التي يموّلها “أحد الناس”. وأنا أتجوّل في شوارع باريس منذ عشرات السنين، ولم أجد أي كتاب عربي مرميّ في واجهات المكتبات، حتى ولا لأدونيس أو محمود درويش. ونادراً ما تحظى الترجمات العربية مدفوعة الأجر بتعليق بائس من عربي متفَرْنس، أو من لا أحد.

الترجمة إذن هي في النهاية “صراع بين حضارتين بشكل أدبي”. وهي ليست فولكلوراً محلياً منقولاً إلى لغة لا يهمها أمره إلا بقدر ما يتضمّن من إثارة للفضول. كنا “نهجم” على قراءة الروس، والفرنسيين مثل سارتر، مثلاً، والألمان مثل هرمان هيسه، وتوماس مان، و… من يقرأ اليوم “ميشيل أونفراي” من العرب؟ ومن يقرأ “لوكليزيو”، وكم عربي يعرف اسم نوبل الأخير؟ هذا فقط لأذكِّر بأن العالَم اليوم أصبح مخنوقاً بالابتذال. لماذا لا يتسابَقُ العربُ على الترجمة إذن؟

* أنت روائي عربي، تكتب بالعربية، وتقيم في الغرب. أيمكن اعتبار الأدب الذي يكتبه متحدرون من أصول عربية، أدبًا عربيًا؟ أم أن اللغة، في نظرك، تحسم كُلَّ شيء؟

الأدب لغة. اللغة شأن اجتماعيّ. أما الإبداع فهو “تصَرُّف” فردي بحت. هذا التقرير المكرّر، ثلاثاً، لكي نشرح أن الكتابة تحمل “جينات” كاتبها. ويزعجني أن نحاول “تصنيف” الأدب. لأن الأدب إنسانيّ. “كامو” قد يكون عربياً أكثر من “حنا مينه” على سبيل المثال. أريد أن أقول إنني أربأ بنفسي من تحديد “هوية الإبداع”.

العربي الجديد

من كتاب “الطريق إلى قونية

“كم أحببنا من الأمكنة دون أن نتمكن من الإقامة فيها. وكم أقمنا في أماكن لا تعني لنا شيئًا. لكأن انحياز الكائن إلى هواه أمر لا يسر البشر، ولا تحبّذه الطبيعة. امش! أقول لنفسي وأنا على حافة الهواء.

أمشي حتى “مركز مولانا الثقافي”، حيث الدراويش الدوّارة يبدأون طيرانهم في الريح. أراهم يلاحقون عتمة الليل، مثل فوانيس منزوعة الفتائل، ومع ذلك، تضيء. وسأقصّ ذلك على أبي كما كان يقص عليَّ الحكايات.

فجأة أرى القمر. قمر صحرائي القديم الذي كان أبي يُسبِّح تحت نوره الرب. وأقف في مكاني. أقف بعناد مثل جَمَلنا الأصهب المقروح وقد أبْهظَتْ ظهره الخُمول. أريد أن أشبع منه بعد أن افتقَدْتُهُ، طويلًا، في “باريس”.

هذا هو القمر! أصير أخاطب نفسي. القمر الذي كنتُ ألعب تخت ضوئه حافي القدمين لعبة “الشظاظ”. ألعب في رمله الليلي عاريًا إلا من هِدْمٍ قديم. ألعب وهم كلهم حولي، ولا أحد، الآن، منهم سواه: قمر قونية الحزين.

أقف في دوحة القمر طويلًا. أتطلع في عتمة الليل إلى بوادي الجزيرة المرسومة على جبهته. أريدها أن تجيء للتوّ. أريده أن يمنحني “الذُّهْبَة” الإشراقية إلى هناك. ويحضُرُني وجه أبي وهو يردد: “خطوة بخطوة، وخطوة بآلاف الخطوات”. أحاول أن أعرف الطريق السريع إلى القلب، إلى قلب الكون المليء بالمثابرات. وأستدير بهدوء لأرى الطلّ الذي صرت أحس لمسته الباردة على وجهي. ولا أعثر إلا على الندى: ندى الليل الغامر في البادية.

أحسني أريد أن أرتجف، ولا يصل الهَمَيان إلى أعماقي. كانت عبارة “مولانا جلال الدين” المرسومة على مدخل المركز هي التي ملأت عينيَّ: “ابْدُ كما أنتَ، أو كُنْ كما تبدو”.

*******************

“أفكّر صامتًا، دون أن أتحرك من مكاني: لم تدُكَّ حوافر الخيل العربية أصقاع العالَم لأنها كانت مُحمَّلة بالفرسان، فقط. بل لأنها كانت تحمل معها “الكتاب”. وأي شيء آخر يمكن أن يَخطُرَ لك على البال، وأنت ترى المنمنمات القرآنية المعجزة التي ابتدعها المشغوفون، معروضة أمام ناظريك في متحف “مولانا”.

أفكّرُ: أفرح كثيرًا عندما أتذكّرُ أهلي، وأنساهم، تمامًا، عندما أكون في العالم. وبين الذكرى والنسيان يتأرجح قدر الكائن مثل ثمرة على وشك السقوط. وهنا، في “قونية”، عاصمة السهوب الأناضولية، تذكَّرتُهُم كثيرًا. وأسعدَتْني الذكرى، والإقامة في المكان”.

المكان الذي لا يُسعدُ الكائن يبعده عن روحه، ويدمّر جوهر الوجود لديه.

أحسّ بهذا في كل مرة أستوطن فيها أرضًا حتى ولو بشكل عابر. الأمكنة مثل الكائنات (أصرّ على إعادة هذه المقولة التي أعتبرها أساسية): ثمة مكان يجعلك “غريبًا”، وآخر يجعلك “أريبًا”. أو بشكل أكثر حميمية، قريبًا من القلب، من قلبك أنت بالذات.

ولأننا في كل الأحوال “غرباء”، حتى في “بلداننا الأولى”، فإن المقصود بالغربة، هنا، ليس المعنى الجغرافي المألوف، وإنما: الغربة بمعنى “توليد البلادة العاطفية، والابتذال الفكري لدى الكائن”. فهما يجعلانه غريبًا حتى عن ذاته. لماذا؟ لأنهما (البلادة والابتذال) يقتلان الرغبة في الحياة، ويَلجُمان أي شعور جميل يمكن أن يحس به الكائن، أو يمارسه، تجاه مَنْ، تقذف به الظروف إزاءه.

الأمكنة قد تُولّد الموتَ، إذن، وقد تهب الحياة.”

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى