صفحات الحوار

خليل صويلح: تاريخنا مثقل بالدم.. والجاهلية في الميديا أيضاً

 

 

سامر محمد إسماعيل

ما يحدث يحتاج إلى إعادة تركيب للهوية السورية

بعد إنجازه «ورّاق الحب» (2002)، جائزة نجيب محفوظ للرواية (2007)، «بريد عاجل» (2004)، «دع عنك لومي» (2006)، «سارة وزهور وناريمان» (2008)، «سيأتيك الغزال» (2011)… ها هو الروائي السوري خليل صويلح ينجز نصه الجديد بعنوان «جنة البرابرة»، مدوّناً لألف يوم ويوم من الكارثة التي حلت في بلاده.

عن روايته الجديدة الصادرة أخيراً عن «دار العين» بالقاهرة، والتي ترشحت لجائزة «بوكر العربية» هذا العام، كان الحوار الآتي.

«جنة البرابرة» تدوين لألف يوم ويوم من وقائع الجحيم السوري، كما تورد في مقدمة روايتك، هل نستطيع القول إن الكارثة توقفت في ألفيتها الأولى، وهل تعتقد أن الألف القادمة سيكون لها رواة آخرون، لا سيما أنكَ تقول ان الرواة ذهبوا إلى قبور غامضة؟

^ تدوين ألف يوم ويوم من التراجيديا السورية كان حلاً تقنياً بالنسبة إلي، بقصد إغلاق القوس على ألف ليلة وليلة جحيمية، وليست سحرية كما هي الحال في كتاب الليالي العربية؛ كما أن اللجوء إلى هذا السرد المتشظي كان محاولة للإلمام بأحوال الجدارية السورية، لجهة الزلزال الذي أطاح بكل الاحتمالات السردية المتعارف عليها، فنحن إزاء متاهة حكائية يصعب الركون فيها إلى راوٍ مطمئن لسرديته، نظراً إلى تعدّد» سرديات الشهود»، ووفقاً لما يقوله بورخيس «أن تتجاوز اليوم الألف، هذا يعني دخولك في الليالي اللانهائية». والأمر ذاته سيتكرّر بخصوص رواة آخرين، سيقتحمون المشهد، من عتبات مختلفة لتوثيق المجزرة، فباب الجحيم ما زال مفتوحاً لهبوب رياح أخرى.

هذه الإحالة لبورخيس تأخذني إلى سؤال عن أنا الروائي المنحلة في «جنّة البرابرة» مع أنا «الآخر».. كيف وفقت بين الشخصي والموضوعي في هذا السياق؟

^ كان هدير الحوّامات فوق بيتي هو من أهداني الجملة الأولى في هذه اليوميات. لم أفكر في ما سيؤول إليه هذا النص الهجين، ولم أكن واثقاً بأنه سيكتمل، إذ كان الموت قريباً، إلى حدّ الفزع، كما كانت الكتابة نوعاً من العلاج، وفحصاً أولياً للهوية، ذلك أن بربرية العنف أعادتني إلى قراءة تاريخ دمشق، ووجدت أن ما يحدث اليوم حدث في الأمس، بتكرار أحوال الظلم، وكأن هذه المدينة منذورة للحرائق على الدوام، أما اشتباك الشخصي بالعام، فكانت تحدّده نسبة الأدرينالين، في المقام الأول، وتراكم المشهديات وتنافرها في آنٍ واحد، بالتوازي مع رسم صورة الكائن السوري في احتضاره وبربريته من جهة، وتطلّعه إلى هواء آخر من جهةٍ ثانية.

* هل نستطيع القول إن روايتك التي لم تنهج عمارةً كلاسيكية، إنما ذهبت أكثر إلى التناص مع التاريخي، أو المصالحة التي تنشدها بين ابن خلدون وابن عساكر؟

تناص

^ كان المقصود بالمصالحة بين ابن عساكر وابن خلدون، قراءة اللحظة السورية الراهنة من موقع المؤرخ وعالم الاجتماع في مدوّنة واحدة، فما حدث ويحدث في دمشق يحتاج إلى إعادة تركيب للهوية السورية، وكشف طبقات العنف المضمرة، وأن «جنة المشرق» كما كان يُطلق على دمشق تاريخياً، هي «جنة البرابرة» اليوم، لفرط الوحشية والخراب والموت، وتالياً، فإن الوقائع التاريخية فرضت نفسها بقوة على مسالك النص، ووجدتُ في يوميات البديري الحلّاق المكتوبة قبل مئتي عام باباً للدخول إلى دمشق حينذاك، ومقارنتها بأحوالها اليوم، وبمعنى آخر تظهير نسخة جديدة من هذه اليوميات بأدوات المؤرخ المعاصر، مستفيداً مما تتيحه الميديا الجديدة من وثائق وصور وشهادات، وفحصها من الداخل، قبل إدراجها في الموزاييك العمومي للنص الذي كان يتشكّل وفقاً لقوة تأثير الوقائع الميدانية، أكثر من انخراطه في التخييل الروائي، وهو ما أفرز مثل هذه الهجنة في السرد.

كأننا نشعر بأنك مثقل بهذا التاريخ في الرواية، فهناك مقاطع توردها كاملة لإحداث نوع من التجاور بين النص المقتبس من الوثيقة التاريخية وما تريد إسقاطه اليوم على اللحظة السورية، كمثل ما فعلته بين نصك و نص البديري الحلّاق عن حي الميدان الدمشقي؟

^ التاريخ يتجوّل في كل مكان في دمشق، فنحن الآن نجلس في مقهى يقع في شارع المتنبي، ونطل على ساحة يوسف العظمة، وعلى بعد أمتار من الساحة سنجد حي ساروجة، الحي الذي أطلق منه تيمورلنك قذائف منجنيقاته على قلعة دمشق، وفي القلعة ستحضر صورة ابن خلدون وهو يتدلى بحبل من أسوار القلعة لمقابلة الطاغية المغولي، وفي القيمرية لن استطيع تجاهل أصوات آلات البروكار الدمشقي لصناعة الحرير، والأسباب التي استدعت حرب 1860، بالإضافة إلى مظالم أسعد باشا العظم واحتجاجات أهالي الميدان على حكمه. كل هذه الإحالات أرخت بظلالها على نصّي بسطوة التاريخ أولاً، كما أغراني اقتفاء أثر مؤرخ شعبي هو البديري الحلّاق في وصف دمشق في القرن الثامن عشر ببلاغته الشعبية، وكان عليّ ترميم هذه اليوميات بمدوّنة جديدة تعتمد الكثافة، مثلما تلتفت إلى الهامش، بعيداً عن الرطانة والهتاف وتزوير الحوادث، وقبل ذلك كله، هتك أسباب العنف و«العبودية المختارة»، وبسالة بلاغة البشر العاديين.

لكنك قلت في الرواية إنك من كل دراستك للتاريخ لا تتذكر اليوم سوى عبارات من مثل «رأيت رؤوساً قد أينعت وحان قطافها» أو «ثكلتك أمك» أو «جدع أنفه»، و«فقأ عينيه»؟

^ أعطني عبارات مضادة لمثل هذه العبارات، ألا ترى أن تاريخنا «العظيم؟» يُختزل بمثل هذه العناوين؟ تاريخ مثقل بالدم، ومدموغ بالأحمر، فيما تُدفن آلاف الصفحات خارج الفهرس، أو في الهوامش. التاريخ العربي هو تاريخ جزّ الأعناق وبتر الأطراف، وقطع اللسان. ما حدث لتمثالي المعري وأبي تمام مثال لدروس البربرية الجديدة، بالتوازي مع لغة جاهلية تجد هواءها في فضاء الميديا المتطورة، وما فعلناه هو استبدال السيف بالكيبورد وحسب.

الريبورتاج

كأنك في «جنة البرابرة» تركز على ما تابعته شخصياً وما كتبته صحافياً.. بل هناك استثمار للريبورتاج الصحافي؟

^ هذه الرواية فرضت نفسها عليّ تدريجاً، وهي تختلف في سرديتها عن أعمالي السابقة، نظراً إلى اشتباكها مع حدث راهن، لكن قوة الوقائع التي كانت تواجهني يومياً قادتني قسراً إلى تدوينها، وهو ما أدى – خلال الكتابة – إلى استنفار كل الأجناس الإبداعية، بما فيها الريبورتاج الصحافي الذي اعتبره في متن الكتابة الروائية، وليس طارئاً عليها، فالرواية كما أفهمها، أشبه بالجدارية التي تستقطب كل الألوان وطبقات الكتابة، أو لنقل بأنها أشبه بسفينة نوح أخرى، تحتمل صعود الغراب والحمامة في آنٍ معاً.

«جنة البرابرة» سادس نتاجك الروائي؛ كيف تقرأ اليوم هذا الكتاب في سياق ما يكتبه روائيون سوريون خارج أو داخل البلاد؟

^ أشرت في حوارٍ سابق إلى أن الروائي السوري لن يهنأ بعد اليوم بكتابة رواية حب مثلاً، إذ سيغرق في كتابة مدوّنة الحرب، والحطام الذي أصاب الروح السورية، وربما الخيبة مما آلت إليه الهتافات الأولى، وقراءة خريطة البلاد بحبرٍ آخر. أما بخصوص ما يكتبه روائيون آخرون، فإنني لم أطّلع على نصوص أحد إلى الآن، لكنني قرأت عن نصوص جديدة، ونصوص قيد الكتابة، والحال فإن الهجرة أو الإقامة لا تحدّد قيمة النص أو أهميته. إقامتي في البلد لا تمنحني شهادة حسن سلوك روائية إزاء روائي آخر يعيش خارج البلاد، فالأمر يتعلّق بسطوة النص لا بصاحبه.

* تقاطع «جنة البرابرة» مع قصيدة كفافي «في انتظار البرابرة». إلامَ تلمّح هنا من هذا التناص في العنوان؟

^ لم اهتدِ إلى عنوان أفضل من «جنة البرابرة» في توصيف لحظة همجية مثل التي نعيشها اليوم، فالجنّة هنا هي الجحيم في مجازٍ آخر، أو البربرية المعولمة العابرة للقارات، والأرواح المعطوبة، و«حيونة الإنسان»، وما كتبته هو تمارين في مقاربة البربرية، ذلك أن ما حصل من وقائع بعد انتهائي من كتابة الرواية يفوق الوصف.

أجرى الحوار: سامر محمد إسماعيل

(دمشق)

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى